مقالاتمقالات مختارة

جائحة كورونا .. كيف وجد العالم طعم الحصار؟!

جائحة كورونا .. كيف وجد العالم طعم الحصار؟!

بقلم أحمد قنيطة

يستمر فيروس كورونا الصغير الخفيّ في اجتياح بلاد العالم دولةً بعد دولة، ومدينةً تلو مدينة، وقرية تلو أخرى، حتى بات انتشاره يغطّي معظم جغرافيا العالم، دون تمييزٍ بين دولةٍ مسلمة وأخرى كافرة، فقيرة أو غنية، عظيمةٍ أو وضيعة، ودون تفريقٍ بين ذكرٍ أو أنثى، أبيضٍ أو أسود، صالحٍ أو طالح.
فالجميع أمامه قهره سواسية كأسنان المشط، والكل أمام جبروته خاضعٌ، ومن عظيم بطشه خائف، هذا الجندي من جنود الله قد أصاب العالم بالشلل التام، وجمّد جميع مظاهر الحياة والحيوية في هذا الكوكب، الذي كان قبل أسابيع يضج بالحياة والقوة والعنفوان، ويشهدُ تسارعاً كبيراً في التقنية والتكنولوجيا، ومنافسة حثيثة في الاقتصاد والتسلُّح، حتى باتت القوى العظمى تتنافس للسيطرة على القمر والكواكب، بينما يعيش الملايين من البشر تحت الجوع والقهر والفقر والحصار!

هذا الفيروس الخطير الذي لا يعرف العلماء والخبراء حقيقته بعد، ولم يشعروا بإرهاصات نشأته وتطورّه، ولم يستطيعوا حتى هذا الوقت تفسير تداعياته ولا ظروف انتشاره، ولم يتوصّلوا إلى طرق لعلاجه؛ ما زال يطوف العالم طولاً وعرضاً، ويخطف أرواح المئات من البشر كل يوم، ويصيب الآلاف من الناس في الدول المتطورة التي ظنّ أهلها أنهم قادرون عليها؛ حتى أتاهم هذا المخلوق المجهول ليعلّمهم حقيقة ضعفهم، وعظيم انكسارهم، ويخبرهم بمدى عجزهم، وحجم وهنهم، مهما بلغت قدرتهم وقوتهم، وليجري عليهم سنة الله في الأمم الظالمة التي عتت عن أمرها ربها واستكبرت عن هدي رُسلها.
فهذه الآية البسيطة والرسالة الهيّنة – على عِظمها – لم تصل حد الخسف والنسف، والمسخ والإغراق والإهلاك، علّها تحيي قلوباً غلفاً وعيوناً عمياً وآذاناً صماً، فيعود الناس إلى رشدهم ويؤوب الناس إلى ربهم، فيعطي غنيهم فقيرهم، ويرحم قويهم ضعيفهم: “وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ”.

يمضي فيروس كورونا في مهمته – التي لا يعلمُ أحد متى تنتهي إلا الله – ضارباً طوقاً شديداً وحصاراً قاسياً على معظم دول العالم، حيثّ أُغلقت الحدود، وأُوصدت المعابر، وحُظر السفر، وتوقّفت التجارة، ومُنعت التجمعات، وألغيت الحفلات، وعُطّلت المدارس والجامعات، وأجبر الناس على التزام بيوتهم طوعاً أو كرها، لا حول لهم ولا قوة إلا مناجاة الخالق العظيم، أن يكشف عنهم هذا الضر، وأن يرفع عنهم هذا البلاء، وأن يزيح عن البشرية جمعاء هذه الغمّة التي كبّلت الحياة بأغلالٍ من فولاذ.
فها هي إيطاليا تستغيث بجيرانها في أوروبا فلا يرتد إليها سوى صدى صوتها، وها هي إسبانيا تغرق في وحل الأزمة، فتمدّ يدها إلى أصدقائها فلا تعود إلا خائبة، وتلكم فرنسا وألمانيا وسويسرا والمملكة المتحدة يقفون عاجزين خائرين أمام تفشي المرض وسرعة انتشاره، وهاكم أمريكا التي أخضعت معظم دول العالم بقوتها وجبروتها وتطورها العلمي والتكنولوجي تقف صاغرة حائرة لا تستطيع حتى توفير أجهزة التنفّس الصناعي لعشرات الآلاف من الحالات المصابة، شأنها شأن معظم دول العالم.

هذا الحصار الذي يذوق اليوم العالم بأسره مرارته، ويتجرّع الناس علقمه، ويشتكي البشر من قسوته وقهره، هو نفس الحصار الذي يعيش تفاصيله القاتلة الفلسطينيون في غزة، والسوريون في حلب وإدلب، والإيغور في تركستان الشرقية، والروهينغا في أراكان، والأحوازيون في إيران وغيرها، لكنه حصارٌ أشد قسوة وأعظم وطأة، فهو حصارٌ مصحوبٌ بالصواريخ والقنابل، ومقرونٌ بالجوع والحرمان، ومعقودٌ بالقتل والتهجير، ومرتبطٌ بالسجن والتعذيب، ومُجتمِعٌ مع القهر والظلم.
فهل عرف العالم الظالم معنى أن يحاصر في غزة التي لا تتجاوز مساحتها 365 كم مربع 2 مليون إنسان منذ أربعة عشر عام، وهل ذاقت الشعوب الخائرة الصامتة شيئاً مما عاناه السوريون من حصارٍ خانقٍ عاشوه في مضايا والزبداني والغوطة الشرقية وغيرها، وهل عَلِم العرب والمسلمون الذين أغلقوا مساجدهم وأسواقهم خوفاً من كورونا؛ معنى أن يُغلق السوريون مساجدهم وأسواقهم خوفاً من الصواريخ والبراميل المتفجّرة؟!

هذه هي عاقبة الخذلان للشعوب المقهورة في شتى بقاع الأرض، وتلك هي مآلات التآمر على البلاد الضعيفة والفقيرة، فقوى الظلم والقهر بدلاً من أن تنفق ملياراتها على التنمية والتعليم ومحاربة الجوع والفقر في العالم؛ تستمر في حصار الدول الضعيفة ومحاربتها في أقواتها، وتمضي في سرقة ثرواتها وخيراتها، في أفريقيا وأمريكا الجنوبية وغيرها، حيث يموت كل يوم في العالم 28.000 طفل يومياً وفق تقارير منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة، فدول العالم الثالث التي تُخفي في باطنها الذهب والمعادن والثروات تتعرض لجريمة عالمية منظّمة تقودها بعض الحكومات الغربية والعربية كأمريكا وفرنسا وبريطانيا الذين يستمرون في نهب خيرات الدول الإفريقية وسرقة ثرواتها، ثم تهريبها للخارج بينما يموت أهلها جوعاً جراء سوء التغذية، أو قهراً وقتلاً في الحروب والصراعات الداخلية التي تغذيها المخابرات العالمية، بينما تنام الشعوب في تلك الدول الظالمة ملء جفونها غافلة عن عذابات الناس وآلامها وجراحها حتى يعاجلها الله بقدره وعقابه، يقول الشيخ الأسير في سجون القهر السعودية “عبد العزيز الطريفي”: “من العقوبات العاجلة عقوبة خذلان المظلومين، وكثيراً ما تنزل العقوبات بالدول ويجهلون أسبابها، يظنون أن الله لا يُعاقب إلا من باشر الظلم بنفسه!”.

هذه المقالة ليست من باب الشماتة بمصاب الدول المجرمة الظالمة التي لا تفتأ تخطط وتدبّر لفرض هيمنتها والاستيلاء على كل مقدرات العالم؛ في وقت تسحق فيه دباباتها كل معاني العدالة والحرية، وتبيدُ طائراتها كل قيم الكرامة والإنسانية، ولا هي من قبيل الفرح بمآسي الشعوب التائهة الضائعة التي انشغلت عن جرائم حكوماتها في حق الشعوب الأخرى؛ باللهث خلف جمود المادة وحيوانية الشهوة بعيداً عن روح الضمير وحيوية المشاعر، فهذا البلاء لم ينزل على دولةٍ دون دولة، أو شعبٍ دون شعب، ونحن كمسلمين لنا خصومة وثارات مع الدول الظالمة المحتلة التي قلت شعوبنا وشرّدت إخواننا ودمّرت بلادنا، لكننا أسمى وأرقى من أن نشمت بمصاب وآلام الشعوب الأخرى جراء الكوارث والأوبئة التي تجتاح بلادهم، فبيننا وبين جيوشهم الظالمة ساحاتٌ للرجولة والبطولة نذيقهم فيها بأس رجالنا وصلابة أبطالنا وثبات شعوبنا حتى يكتب الله نصرنا.
وإنما جاءت هذه المقالة لتذكّر الناس بإنسانيتهم التي وأدتها الحضارة المتوحشّة وقتلها الرقي الزائف، وتعيدهم إلى أصل فطرتهم السليمة وضمائرهم الحية التي تدعوهم إلى الرحمة وتحضّهم على الخير، وتمنعهم من الظلم وتصرفهم عن الشر.

وأخيراً.. نسأل الله أن يكون العالم بعد هذه الأزمة القاسية خيراً مما كان عليه من قبل، ولن يكون ذلك إلا بهلاك القوى الظالمة المجرمة التي لا تقيم وزناً للإنسانية ولا الأخلاق، وأن تتبدل موازين القوى في العالم سياسياً واقتصادياً بعد هذه الجائحة، وأن يكون أهل الإسلام ذوي شأن ورأي بعد اجتماع كلمتهم وتوحيد صفوفهم، ليعود للعالم توازنه واستقراره بعيداً عن هيمنة الظالمين والمجرمين.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى