بقلم احسان الفقيه
لم يكن ذلك القبطيّ ليقطع تلك المسافات البعيدة من مصر إلى المدينة بعد أن ضربه ابن الأمير، إلا وهو على يقين من أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ليس حاكمًا عادلًا وحسب؛ وإنما يدرك أن ذلك الخليفة يُقيم وزنًا لحرية الإنسان.
وبعد أن أرسل عمر للأمير وولده، ومكّن القبطي من القصاص لنفسه، أطلق قولته المشهورة: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً”.
نعم، هكذا خلق الله الناس أحراراً، وجبلهم على عشق الحرية؛ لكن طول أمد الطغيان، والظلم الذي تجرعته الشعوب على يد المستبدين، قد حوّل فطرة الناس، بعد أن نالوا قسطًا كبيرًا من تربية العبيد.
قالها من قبل الأديب والمفكر الإسلامي سيد قطب رحمه الله: “وليس أشد إفسادًا للفطرة من الذل الذي يُنشئه الطغيان الطويل، والذي يحطم فضائل النفس البشرية، ويحلل مقّوماتها، ويغرس فيها المعروف من طباع العبيد: استخذاء تحت سوط الجلاد، وتمردًا حين يرفع عنها السوط، وتبطّرًا حين يتاح لها شيء من النعمة والقوة”.
وإنك لتعجب لاندثار القيم وضياع النخوة والشهامة ومكارم الأخلاق في قطاعات كبيرة من الأمة، كيف حدث هذا الانتكاس والتردي؟.
وكيف أصبحت الازدواجية والأنانية والدونية هي السمات الأبرز؟
إنها آثارٌ تراكمية لذلك الطغيان الطويل الذي جثم على صدر الأمة، وحاد بها عن عصور الحرية، يوم ربّى النبي صلى الله عليه وسلم رجالًا أحرارًا، ولم يستخدم سلطته ومكانته الدينية في أن يسوق قطعانًا، وإنما بنى الشخصية المُستقلة الحرة.
فتمايزت لديهم الأمور، وكان الفصل لديهم واضحًا؛ فما كان من وحي من الله قالوا سمعنا وأطعنا وسلّموا واستسلموا، وما كان خاضعًا للرأي وتدبير الأمور كانت تظهر فيه شخصياتهم الحرة المستقلة.
يجلس النبي صلى الله عليه وسلم يومًا مع أصحابه ومنهم أشياخٌ كبار، وعلى يمينه يجلس غلام حدَث.
وكما عوّدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدأ من اليمين، فهل يسقي الغلام أولًا قبل هؤلاء الأشياخ أم يتجاهله ويبدأ بهم؟.
ما كان منه إلا أن استأذن الصبي: “يا غلام أتأذن أن أعطيه الأشياخ؟ فقال الغلام: ما كنتُ لأوثر بفضلٍ منك أحدًا يا رسول الله؛ فأعطاه إياه”.
هنا قد ظهرت آثار التربية النبوية؛ فالصبي الذي تربى على الاستقلالية والحرية، قد وجد لنفسه الحق في أن يُفاضل بين الأمرين دونما أي ضغوط.
لقد استحق النبي صلى الله عليه وسلم أن ينال لقب “مُحرر العبيد”؛ حيث كانت بعثته إيذانًا بعملية التحرير الكبرى للبشر، وهي الرسالة التي صاغها ربعي بن عامر أمام قائد الفرس: “الله ابتعثنا لنُخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد…”، فتحرر البشر من عبودية البشر.
تلك الصبغة وهذا النوع من التربية والتنشئة، هو الذي يستخرج كنوز الإبداع في هذه الأمة، ويستخرج مكنون إمكاناتها الهائلة التي أودعها الله في دواخلها، فتستنهضها لإعمار الأرض وصناعة النهضة.
الحُباب بن المنذر يأتي برأي مخالف لرأي النبي في المكان الذي ينزلون فيه في معركة بدر، فاطمأن أولًا إلى أن الأمر ليس وحيًا من الله: “أهذا منزل أَنزلكه الله ليس لنا أن نتقدّمه أو نتأخره؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. قال: يا رسول الله.. فإن هذا ليس لك بمنزل، انهض بالناس حتى نأتي أدنى ماءٍ سواه من القوم فننزله ثم نعور ما وراءه من القلب ثم نبني عليه حوضًا ونملأه ماء فنشرب ماء ولا يشربون ثم نقاتلهم”.
وعلى درب الرسول صار خلفاؤه في تقدير قيمة الحرية والاستقلالية، حيث غرسوا في الأمة أن هيبة الحاكم ليست ذاتية أو فرضها سلطانه وقوته، وإنما لعلمهم بأن الإمامة ضرورة فرضها الشرع وأيّدها الواقع.
يمر أمير المؤمنين عمر على مجموعة من الأطفال يلعبون، فإذا بهم يفرون من أمامه إلا واحدًا، كان عبد الله بن الزبير، فقال له عمر: ما لك لم تفر معهم؟ فقال: لم أُجرِم فأخافك، ولم تكن الطريق ضيقة فأُوسع لك.
وبعد أن ران الاستبداد على حياة الشعوب، وتسلّط الظالمون، وأحكموا قبضتهم على مقدرات البلاد، وتحكموا في كل شيء؛ صار الذل غراسًا في النفوس، ينشأ من داخلهم بعد أن كان يأتيهم من الطغاة.
ولله در عبد الوهاب عزام إذ يقول: “إذا نبع الذل من النفس، وانبثق من القلب فذلك هو الداء الدويّ، والموت الخفي؛ ولذلك عمد الطغاة المستعبِدون إلى أن يُشربوا الناس الذل بالتعليم الذليل والتأديب المُهين، وتنشئة الناشئة عليه بوسائل شتى، ليميتوا الهمة ويخمدوا الحمية، وإذا بيدهم العصا والزمام”.
ولا ننكر أن هنالك عوامل أخرى قد أوجدت مجالًا خصبًا لتربية العبيد، وهي المناهج المُنتسبة إلى الإسلام والتي نأَت عن منابعه الصافية، فربّت شرائح من المجتمعات على الذلة وإلغاء العقل والشخصية وقتل الإبداع.
فعمائم الشيعة الإمامية ربّوا أتباعهم على أن الإمامة أصل من أصول الدين، وأن أئمتهم معصومون وفي مقامات قد تتجاوز ما عليه الأنبياء، وأنهم يعلمون الغيب، يقول “محمد حسين آل كاشف الغطاء” في كتابه “أصل الشيعة وأصولها”: “إن الإمامة منصب إلهي كالنبوة، فكما أن الله سبحانه يختار من يشاء من عباده للنبوة والرسالة، ويؤيد بالمعجزة التي هي كنص من الله عليه … فكذلك يختار للإمامة من يشاء ويأمر نبيه بالنص عليه وأن يُنصّبه إمامًا للناس من بعده”.
ومثلهم غُلاة الصوفية، الذين يربون أتباعهم على التسليم المُطلق للشيخ، فيأمرون أن يكون المُريد بين يدي شيخه كالميت بين يدي المُغسّل، ويقولون إنه من قال لشيخه: لِمَ؟ لَمْ يفلح.
فتربت المجتمعات في ظل هذه الظروف تربية العبيد؛ إلا من رحم الله.
إن ثورات الربيع العربي لم تنجح لا لعدم مشروعيتها كما ينعق البعض، ولا لقوة الباطل والدولة العميقة وتآمر الداخل والخارج فقط.
إن السبب الرئيس في عدم نجاح هذه الثورات، أن هذه الشعوب لابد لها من ثورة تسبق الثورة على الاستبداد.
ثورة على المفاهيم العقيمة التي رسخت في النفوس نتيجة التزاوج بين أصحاب العروش وأعداء الخارج.
ثورة على الأفكار الرثة الوافدة التي شكّلت سلبًا حياة الناس وسلوكياتهم.
ثورة على القيم والأخلاقيات المشوهة والازدواجية التي صنعها القهر والاستبداد.
ثورة على نبذ الفكرة الإسلامية وإقصائها…
إن حقيقة التغيير تتضح أمام إدراك سنن الله في خلقه، فهي سنن مضطردة ثابتة لن تجد لها تبديلًا: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}.
الثورة على الأوضاع قبل الثورة على الظالمين؛ فالأمر جد ليس بالهزل، إنه إسقاط عروش وأنظمة ديكتاتورية وليس نزهة على ضفاف الأنهار.
الثورات تحتاج إلى نفوس أبية وهمم مُتقدة، وتقدير للمصالح العليا وتقديم المجموع على الأنا.
تحتاج إلى معادن مصقولة، وقلوب تواقة إلى الحرية الحقيقية لا الانفلات والهمجية.
وأقولها صراحة دون مواربة، لن تنجح ثورة وتؤدي دورها في الأمة، وتخرج من رحمها نهضة حضارية؛ إلا إذا وضحت فيها الفكرة الإسلامية.
ستُحدثني حتمًا عن ثورات الغرب، فأقول إنها قد نجحت، لكن أين أثرها المُمتد، الثورة الفرنسية التي تسطع إلى اليوم في كتب التاريخ، أين كان أثرها عندما دخل الألمان فرنسا؟ لم يجد أبناء هتلر في طريقهم سوى مجموعة من المُخنّثين وأشباه وأنصاف الرجال، لم يتأهّلوا لحياة الجدّ، وعبدوا شهواتهم ورغباتهم.
وفي ثورات العالم العربي لم نرَ لها أثرًا مُمتدًّا ولم تُحدث تغييرًا جوهريًّا ولم تتبعها نهضة حضارية؛ والسبب ببساطة: أنها لم تكن ذات صبغة إسلامية.
تلك الحقيقة قد أصّلها علماء الاجتماع، في أن أي نهضة لابد لها من فكرة مركزية، ولم يرَ علماء الاجتماع فكرة مركزية يجتمع عليها الناس أكثر تأثيرًا من الدين.
إن الثورة التي ينبغي أن نقوم بها الآن تتمثل في معركة “تشكيل الوعي والفكر” لدى الشرائح المختلفة.
هي مهمة قادة الرأي وأهل الإصلاح والدُعاة والقيادات الشعبية والمحاضن التربوية، نحتاج إلى تنقيح أفكار ومفاهيم، وعودة إلى القيم الأصيلة، هذه هي الثورة الحقيقية التي ينبغي أن تسبق أي ثورة على الاستبداد.
أعلم أن كلامي هذا هو مجرد تنظير، لكنني هنا بصدد الحديث عن أصل الداء، وقرع الأجراس، وعند منتصف المسافة ينتهي دوري، ليبدأ دور كل من يقتنع بالفكرة والتشخيص، في أن يترجم الكلمة إلى واقع عملي، وطريق الألف ميل يبدأ بخطوة أو ربما بضوء قنديل خافت.
المصدر: موقع التقرير.