بقلم د. محمد الصغير
حدث عام (1381 هـ – 1961م) أن دعا “الحبيب بورقيبة” الرئيسُ التونسي السابق العمالَ إلى الفطر في رمضان بدعوى زيادة الإنتاج، وطلب من الإمام محمد الطاهر بن عاشور، وهو يومئذ علم الأمة وشيخ الأئمة، أن يفتي في الإذاعة بما يوافق هذا، مستخدما معه كل وسائل الترغيب والترهيب.
ولو كلف الحبيب نفسه بالنظر في تاريخ الإمام لعلم أنه أمام ابن حنبل زمانه، ولم يجد الشيخ الطاهر بدا من إلقاء بيان الصوم وبدأه كالعادة بتلاوة آية الصيام :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون)َ (183) البقرة
ثم أردفها بقوله:
“صدق الله وكذب بورقية”
فأخمد الله به راية ردة أريد لها أن ترفع، وباب فتنة كاد أن يفتح حيث كان بورقيبة يرى في أتاتورك مثلا أعلى ، وأنموذجا يحتذى، وقد صرح غيره من رؤساء العرب بذلك.
السيد الباجي قايد السبسي يدعو إلى إلغاء شريعة الميراث من خلال تغيير الأنصبة التي فرضها الله للرجل والمرأة طلبا للمساواة ظانين بالله ظن السوء وأن قسمة العدل غابت عنه تعالى وتقدس !
قال الشارع الحكيم في محكم التنزيل:
(يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيين)
وعلم المواريث مصدره الوحي ولا مجال لاجتهاد الأئمة فيه ناهيك عن غيرهم ، والمتتبع لآيات المواريث في سورة النساء يجد تأكيدات القرآن الكريم واضحة جلية:
(فريضة من الله)، (وصية من الله)، (تلك حدود الله)، (قل الله يفتيكم)، (وكان الله عليما حكيما)، (يبين الله لكم أن تضلوا). ما يبين أن صلة القوم بالقرآن مبتوتة وانفصالهم عن الواقع لا يحتاج إلى تدليل.
أما ما يثار حول الإجحاف الواقع على المرأة في الميراث فهو جهل محض وإمعان في التدليس
فقد كتب الدكتور صلاح سلطان (فك الله أسره) كتابا قيما حول هذا الموضوع انتهى فيه إلى حصر الحالات التي ترث فيها المرأة نصف الرجل في أربع حالات وإلى أن هناك أكثر من ثلاثين حالة ترث فيها المرأة ولا يرث الرجل، وترث المرأة أكثر من الرجل، وترث المرأة مثل الرجل.
كما شرح الدكتور محمد عمارة الفلسفة التشريعية للحالات الأربع التي ترث فيها المرأة نصف الرجل في كتابه : (التحرير الإسلامي للمرأة ) وبين أن المسألة لا علاقة لها بالذكورة والأنوثة، وأنها ليست قاعدة عامة في الميراث، وأنها تقوم على العدل الكامل والمساواة الحقيقية بين الجنسين.
وقد بات مألوفا أن بوابة المرأة هي المدخل المفضل للهجوم على شرائع الإسلام
لذا كان الشق الثاني من المشروع هو إباحة زواج المسلمة من أصحاب الملل والنحل الأخرى، لنصبح أمام اعتراض آخر على حكم من أحكام القرآن.
قال الله تعالى :
(وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حتى يُؤْمِنُوا ۚ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ۗ أُولَٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ۖ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ۖ …)
وبين العلة سبحانه في قوله:
(فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ۖ
لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ۖ ….)
الممتحنة /10
مع العلم بأن 98% من التونسيين مسلمون ومالكية!
فهل يعقل أن يتحدى الشعب في عقيدته، أو أن يسلخ من أمته ويغرب بعيدا عن محيطه الإسلامي بدعوى الشأن الداخلي وأن أهل تونس أدرى بشعابها؟
كان أولى بهؤلاء وأرفق أن يبحثوا عن القوانين التي تصلح الصحة أو ترتقي بالتعليم وإيجاد فرص العمل للشباب العاطلين بدلا من التفرغ لهدم الثوابت الذي يجلب عقوبة الدنيا وخسران الآخرة، ويسهم في دعشنة الشباب الذي يرى عرى الإسلام تنقض عروة عروة.
لكن الأمل في تلاميذ الطاهر بن عاشور كبير، والمسؤولية الملقاة على عاتقهم عظيمة ولن يفت في عضدهم من غرته دنيا الحاكم أو من ذهل عن معالم الطريق، فقد أفشل مشروع بورقيبة طاهر واحد هو ابن عاشور، فأسموعنا أصوات الطاهرين
وأعلنوها مدوية:
“صدق الله وكذب الخراصون”.
(المصدر: الجزيرة)