بقلم عبد الباسط الشيخ إبراهيم
أورد الجاحظ في كتاب البيان والتبيين الخطبة التي ألقاها مصعب بن الزبير أمير العراق في زمن خلافة أخيه الصحابي الجليل عبد الله بن الزبير، عندما أرسله الأخير إلى العراق ليكون والياً عليه، فلما وصل البصرة قام خطيباً بين أهلها، فقرأ صدر سورة القصص: {طسـم» 1 تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْـمُبِينِ 2 نَتْلُو عَلَيْكَ مِن نَّبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْـحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 3 إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْـمُفْسِدِينَ} [القصص: ١ – ٤]، وأشار بيده نحو الشام حيث ملك بني أمية وعلى رأسهم عبد الملك بن مروان، ثم قرأ قول الله تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}[القصص: ٥]، وأشار نحو الحجاز، حيث خلافة عبد الله بن الزبير في مكة، ثم قرأ قول الله تعالى: {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: ٦]، وأشار بيده نحو العراق حيث كان يتولى إدارة بعض مدنه المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب الذي أظهر التشيع وحب آل البيت كذباً وزوراً[1].
وتنزيل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على واقع الحياة المعاش أمر مشهور ومعروف بين أهل العلم، لأن الواقع إما أن يكون موافقاً لهدي القرآن والسنة وأحكامهما الكلية وقواعدهما العامة، أو مخالفاً لما تقرر شرعاً من خلال الوحي.
وهذا التنزيل قد يحالفه الصواب إذا روعي فيه الأسباب والشروط المقررة عند أهل العلم، وقد يعتريه الخطأ عندما لا يتقيد الحدود المرسومة في هذا الشأن.
وقد ذكر بعض العلماء أمثلة في تزيل النصوص على الواقع، يقول الإمام ابن العربي المالكي في كتابه «أحكام القرآن» عند تفسير قول الله تعالى: {وَإنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إن يُرِيدَا إصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: 35]: «هي من الآيات الأصول في الشريعة، ولم نجد لها في بلادنا أثراً، بل ليتهم يرسلون إلى الأمينة، فلا بكتاب الله تعالى ائتمروا، ولا بالأقيسة اجتزوا، وقد ندبت إلى ذلك فما أجابني إلى بعث الحكمين عند الشقاق إلا قاض واحد، ولا إلى القضاء باليمين مع الشاهد إلا قاض آخر، فلما ولاني الله الأمر أجريت السنة كما ينبغي، وأرسلت الحكمين، وقمت في مسائل الشريعة كما علمني الله سبحانه من الحكمة والأدب لأهل بلدنا لما غمرهم من الجهالة»[2].
ويقرر الإمام ابن القيم في مواضع كثيرة من كتبه تلازم النصوص والواقع وعدم الانفكاك بينهما لمن فهم مراد الوحي، ففي كتاب مدارج السالكين بعد إيراده قول الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [سبأ: ٢٢] قال: «فكفى بهذه الآية نوراً وبرهاناً ونجاة وتجريداً للتوحيد، وقطعاً لأصول الشرك ومواده لمن عقلها، والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها، ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمنه له، ويظنونه في نوع وفي قوم قد خلوا من قبل لم يعقبوا وارثاً، وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن، ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا، فقد ورثهم من هو مثلهم، أو شر منهم أو دونهم. وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك»[3].
ولم يكن تنزيل النص الشرعي في الواقع المشاهد بدعاً من القول بل روت لنا كتب الحديث أخباراً عن بعض الصحابة أنزلوا فيها النصوص على واقع معين، ومنهم الصحابية الجليلة ذات الناطقين أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما في حادثة مقتل ابنها عبد الله بن الزبير رضي عنه عندما غزت قوات عبد الملك بن مروان مكة بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي، فقالت للأخير بعد أن شاهدت جثة ابنها وهي محتسبة: «أما إن رسول الله حديثنا أن في ثقيف كذاباً ومبيراً، فأما الكذاب فرأيناه، وأما المبير فلا إخالك إلا إيَّاه»[4].
قال الإمام النووي: قولها «فأما الكذاب فرأيناه» تعني به المختار بن أبي عبيد الثقفي، كان شديد الكذب، ومن أقبحه أن ادعى أن جبريل عليه السلام يأتيه، واتفق العلماء على أن المراد بالكذاب هنا المختار بن أبي عبيد وبالمبير الحجاج بن يوسف، والله أعلم[5].
ومن الأمثلة الأخرى الدالة على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى»[6].
قال أبو شامة واصفاً الواقعة: لما كانت ليلة الأربعاء 3 جمادى الآخرة 654هـ، ظهر بالمدينة المنورة دوي عظيم ثم زلزلة رجفت منها الأرض والحيطان والسقوف والأخشاب والأبواب ساعة بعد ساعة إلى يوم الجمعة من الشهر المذكور ثم ظهرت نار عظيمة في الحرة قريبة من بني قريظة نبصرها من دورنا من داخل المدينة وكأنها عندنا نار عظيمة سالت أودية بالنار إلى وادي شظا مسيل الماء وهي ترمي بشرر كالقصر»[7].
قال النووي: «خرجت في زماننا نار بالمدينة سنة أربع وخمسين وستمائة وكانت نار عظيمة من جنب المدينة الشرقي وراء الحرة تواتر العلم بها عند جميع الشام وسائر البلدان، وأخبرني من حضرها من أهل المدينة»[8].
ولما رأى الصحابي الجليل عائد بن عمرو رضي الله عنه سوء تصرف حاكم العراق في أمر الرعية استشهد على سوء فعلته كما أخرجه مسلم في صحيحه قال: حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا جرير بن حازم حدثنا الحسن أن عائذ بن عمرو وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على عبيد الله بن زياد فقال أي بني إني سمعت رسول الله يقول إن شر الرعاء الحطمة فإياك أن تكون منهم فقال له: اجلس فإنما أنت من نخالة أصحاب محمد. فقال: وهل كانت لهم نخالة إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم[9].
وقال الذهبي في السير: روى السري بن يحيى عن الحسن قال: قدم علينا عبيد الله، أمره معاوية، غلاماً سفيهاً، سفك الدماء سفكاً شديداً، فدخل عليه عبد الله بن مغفل، فقال: انته عما أراك تصنع، فإن شر الرعاء الحطمة، قال: ما أنت وذاك؟ إنما أنت من حثالة أصحاب محمد، قال: وهل كان فيهم حثالة لا أم لك! قال: فمرض ابن مغفل، فجاءه الأمير عبيد الله عائداً، فقال: أتعهد إلينا شيئاً؟ قال: لا تصل علي، ولا تقم على قبري، قال الحسن: وكان عبيد الله جباناً، ركب، فرأى الناس في السكك، فقال: ما لهؤلاء؟ قالوا: مات عبد الله بن مغفل. وقيل: الذي خاطبه هو عائذ بن عمرو المزني، كما في صحيح مسلم، فلعلها واقعتان.
ومما روي في هذا المجال الحوار الذي جرى بين أبي شريح الصحابي وأمير المدينة في زمن عبد الملك بن مروان، عن أبي شريح خويلد بن عمرو الخزاعي العدوي رضي الله عنه: أنه قال لعمرو بن سعيد بن العاص وهو يبعث البعوث إلى مكة: «ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولاً قام به رسول الله الغد من يوم الفتح، فسمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي، حين تكلم به: أنه حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (إن مكة حرمها الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض، ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله فقولوا: إن الله أذن لرسوله، ولم يأذن لكم، وإنما أذن لرسوله ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب». فقيل لأبي شريح: ما قال لك عمرو؟ قال: قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصياً، ولا فاراً بدم ولا فاراً بخربة.
فأراد أبو شريح الخُزاعي تنزيل الحديث وتطبيقه في فعال هذا الأمير المتهور وتحذيره من ارتكاب ما حرم الله تعالى من سفك الدم الحرام، ولكن الأخير حاول استغلال النص الشرعي الصحيح لتوظيفه في مآرب سياسية من أجل تثبيت حكم سيده والتنكيل بمعارضي الحكم.
وقد فعل مثل ذلك الحجاج بن يوسف الثقفي عندما أوغل في سفك الدماء بأوهن الشبهات، عندما عاب الناس على فعلته الخرقاء، فعن الحسن قال دعا الحجاج أنس بن مالك فقال له ما أعظم عقوبة عاقب بها النبي صلى الله عليه وسلم؟ فحدثه بالذين قطع النبي صلى الله عليه وسلم أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ولم يحسمهم وألقاهم بالحرة ولم يطعمهم ولم يسقهم حتى ماتوا فلما حدثه بهذا قال الحجاج أين هؤلاء الذين يعيبون علينا والنبي قد عاقب بهذا فبلغ ذلك الحسن فقال لي أنس حميق يعمد إلى سلطان يلتهب فحدثه بهذا![10].
قال ابن حجر: «وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة وظاهره في الأصل غير مراد فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب والله أعلم[11].
وها هو عبد الله بن علي العباسي المعروف بالسفاح لكثرة ما أزهق من الأرواح وأراق من الدماء في سبيل تثبيت حكم دولة بني العباس على أنقاض حكم بني أمية، يحاول الالتجاء إلى النص الشرعي لتصويب طمعه السياسي وتجميل صورته القاتمة، بل يريد إشراك العلماء وطلبة العلم في مباركة ما قام به من الدمار والهلاك، فلا يجد من يستعين به في هذه المهمة إلا كبير العلماء وسيد الفقهاء في زمانه الإمام عبد الرحمن الأوزاعي، فيستدعيه في حفل التزوير ليكون شاهد زور يلوي أعناق النصوص في رضا الحاكم، ولكن الأمر سار على غير ما أراده الأمير السفاح، فرفض الإمام موافقة هوى الحاكم، قال الإمام الذهبي في السير، قال سليمان بن عبد الرحمن بن عيسى: حدثنا أبو خليد عتبة بن حماد القارئ، حدثنا الأوزاعي، قال: بعث عبد الله بن علي إلي، فاشتد ذلك علي، وقدمت، فدخلت، والناس سماطان فقال: ما تقول في مخرجنا وما نحن فيه؟ قلت: أصلح الله الأمير! قد كان بيني وبين داود بن علي مودة. قال: لتخبرني. فتفكرت، ثم قلت: لأصدقنه، واستبسلت للموت، ثم رويت له عن يحيى بن سعيد حديث «الأعمال» وبيده قضيب ينكت به، ثم قال: يا عبد الرحمن: ما تقول في قتل أهل هذا البيت؟ قلت: حدثني محمد بن مروان، عن مطرف بن الشخير، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل قتل المسلم إلا في ثلاث…» وساق الحديث. فقال: أخبرني عن الخلافة، وصية لنا من رسول الله؟ فقلت: لو كانت وصية من رسول الله ما ترك علي أحداً يتقدمه. قال: فما تقول في أموال بني أمية؟ قلت: إن كانت لهم حلالاً فهي عليك حرام، وإن كانت عليهم حراماً فهي عليك أحرم[12].
قال الذهبي: قد كان عبد الله بن علي ملكاً جباراً، سفاكاً للدماء، صعب المراس، ومع هذا فالإمام الأوزاعي يصدعه بمر الحق كما ترى، لا كخلق من علماء السوء، الذين يحسنون للأمراء ما يقتحمون به من الظلم والعسف، ويقلبون لهم الباطل حقاً – قاتلهم الله – أو يسكتون مع القدرة على بيان الحق[13].
ومسألة اللجوء إلى النصوص الشرعية في تثبيت الحكم أو مصادرة حقوق الناس الشرعية لم تتوقف يوماً من الأيام، وحتى الحكام الذين يناصبون العداء للشريعة أو لا يسمحون أن يكون لها كلمة في حياة الأمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، يلجؤون إليها عند الحاجة، ويستخدمونها في الوجه الذي يوافق هواهم. فمثلاً إذا أراد إجبار الناس على طاعته نزع قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59]. وعندما يقوم الحاكم المستبد باعتقال المصلحين وأهل الخير يستدل قول الله تعالى: {إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادً…} [المائدة: ٣٣]. وإن أعيته الحجة على الرد على التهم الموجهة إليه في سوء إدارته في شؤون الأمة، وصف من ينتقدونه بالمفسدين في الأرض، واستل الآية القرآنية: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْـخِصَامِ 204 وَإذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْـحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: ٤٠٢، 205].
وقد وجد من العلماء من يمشي في ركب الحكام وتفسير النصوص حسب هوى الحاكم، حتى شاع بين الناس بتسميتهم بوعاظ السلاطين والبلاط، وهم نزر قليل لا يمثلون جمهور أهل العلم العاملين بعلمهم، والبعيدين عن الحكام، فضلاً أن يزوروا نصوص الشرع إرضاء لهم.
وعلماء السوء هم آفة الأمة في كل زمان ومكان، لأنهم يزينون للظلمة أفعالهم القبيحة.
وأخيراً، هذه كلمات قليلة في الإسهام في بيان هذا الموضوع المهم، فإن وفقت فالحمد لله تعالى، وإن كان غير ذلك فإني أستغفره وأتوب إليه.
[1] انظر: (2/299-300).
[2] (1/537).
[3] (١/٢٨٩).
[4] صحيح مسلم بشرح النووي (8/339-340).
[5] صحيح مسلم بشرح النووي (8/341).
[6] صحيح مسلم بشرح النووي (9/257).
[7] كتاب الذيل على الروضتين (٥/٢٩٣).
[8] صحيح مسلم بشرح النووي (9/256).
[9] صحيح مسلم بشرح النووي (6/454).
[10] مسند الشاميين للطبراني (حديث رقم 1248).
[11] فتح الباري (1/(225.
[12] سير أعلام النبلاء (7/124).
[13] سير أعلام النبلاء (7/124).
(المصدر: مجلة البيان)