الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد(*):
فحديث عائشة رضي الله عنها تقول: كان يكون عليَّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان. الشغل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو برسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذه رواية زهير بن معاوية، عن يحيى الأنصاري، عن أبي سلمة، عند مسلم(1).
ورواية سليمان بن بلال عن يحيى عنده أيضاً بلفظ: وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم(2).
واللفظ المدرج فيها (الشغل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو برسول الله صلى الله عليه وسلم) أو نحوهما. مدرج من كلام يحيى بن سعيد الأنصاري. قاله الحافظ ابن حجر. لكن قال عياض: هذا نص منها على التأخير. ومؤدى كلامه أنه مرفوع.
وقد بينت رواية زهير عند البخاري هذا الإدراج؛ حيث جاء في آخر الحديث، بعد قوله (إلا في شعبان):
قال يحيى: الشغل من النبي، أو بالنبي صلى الله عليه وسلم(3).
وكذا رواية ابن جريج عن يحيى عند مسلم، حيث جاء في آخرها: فظننت أن ذلك لمكانها من النبي صلى الله عليه وسلم. يحيى بقوله(5).
لكن جاء عنده أيضاً من طريق محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن عائشة ما يشعر برفع العبارة، ولفظه: إن كانت إحدانا لتفطر في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فما تقدر على أن تقضيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأتي شعبان(6).
فقولها (مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) يشعر بالانشغال به.
قال الحافظ ابن حجر: “قوله (الشغل من النبي أو بالنبي صلى الله عليه وسلم) هو خبر مبتدأ محذوف تقديره: المانع لها الشغل أو هو مبتدأ محذوف الخبر تقديره الشغل هو المانع لها، وفي قوله (قال يحيى) هذا تفصيل لكلام عائشة من كلام غيرها، ووقع في رواية مسلم المذكورة مدرجاً، لم يقل فيه: قال يحيى؛ فصار كأنه من كلام عائشة أو من روى عنها، وكذا أخرجه أبو عوانة من وجه آخر عن زهير، وأخرجه مسلم من طريق سليمان بن بلال عن يحيى مدرجاً أيضاً، ولفظه: وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرجه من طريق ابن جريج عن يحيى فبين إدراجه، ولفظه: فظننت أن ذلك لمكانها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. يحيى يقوله”. فتح الباري (4/191) كتاب الصوم، باب متى يُقضى قضاء رمضان؟
وقد ضعف الحافظ هذا الإدراج في الموضع نفسه قائلاً: “ومما يدل على ضعف الزيادة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقسم لنسائه فيعدل، وكان يدنو من المرأة في غير نوبتها، فيقبل ويلمس من غير جماع، فليس في شغلها بشيء من ذلك [التقبيل واللمس] ما يمنع الصوم؛ اللهم إلا أن يقال: إنها كانت لا تصوم إلا بإذنه، ولم يكن يأذن لاحتمال احتياجه إليها، فإذا ضاق الوقت أذن لها، وكان هو صلى الله عليه وسلم يكثر الصوم في شعبان؛ فلذلك كانت لا يتهيأ لها القضاء إلا في شعبان”.
ومن الناس من ضعف تعليل التأخير للشغل الذي تؤديه هذه العبارة راداً لها، وقال: بل فعلته عائشة للرخصة لا للشغل، ورده القاضي عياض.
وقد حكى الإمام الزرقاني ذلك كله قائلاً: “في مسلم من طريق محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة [وساق روايته كما أوردناها، ثم قال:] ولذا قال عياض: هذا نص منها على علة ذلك، وردٌّ على من ضعف التعليل به، وقال: إنما فعلته للرخصة لا للشغل.
واستشكالُه: بأنه كان يقسم ويعدل وله تسع نسوة، فما تأتي نوبة الواحدة إلا بعد ثمانية أيام، فكان يمكن كل واحدة أن تقضي في تلك الأيام؛ أجاب عنه القرطبي بأن القسْم لم يكن واجباً عليه، فهن يتوقعن حاجته في كل الأوقات”(6).
قلت: هكذا اختلف الأئمة في رفع هذه العبارة ووقفها؛ فذهب عياض وأقره القرطبي على رفعها، وأيد ابن حجر إدراجها.
والصواب في روايتي من فصلا كلام عائشة من كلام يحيى، وهما رواية زهير عند البخاري، ورواية ابن جريج عند مسلم.
ومع ذلك فإن رواية محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة تشعر بالرفع، وعليه فهي موقوفة في حكم المرفوع. والله تعالى أعلم.
الأثر الفقهي:
ومهما يكن من أمر فقد انبنى على ثبوت هذه العبارة أو عدمها خلاف بين الفقهاء في مسألة قضاء رمضان: هل يجوز تأخيره لما بعد رمضان الداخل بعذر، أو يجوز ولو بغير عذر مطلقاً كالتالي:
يرى الحنفية أن قضاء رمضان ممتد إلى ما بعد رمضان الداخل دون فدية، وأعملوا فحوى هذه العبارة دون النص عليها؛ على أنها جزء من الحديث لا مدرجة؛ تأكيداً لرأيهم، فعللوا تأخير قضاء عائشة إلى شعبان بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يحتاج إليها فيه، لا أنها عجلت القضاء قبل رمضان الداخل.
قال الإمام السرخسي الحنفي: “رجلٌ عليه قضاء أيام من شهر رمضان فلم يقضها حتى دخل رمضان من قابل فصامها منها؛ فإن صيامه عن هذا الرمضان الداخل… وعليه قضاء رمضان الماضي، ولا فدية عليه عندنا.
وعند الشافعي [وغيره] رحمه الله تعالى يلزمه مع القضاء لكل يوم إطعام مسكين..
وحاصل الكلام أن عنده القضاء مؤقت بما بين الرمضانين. يستدل فيه بما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تؤخر قضاء أيام الحيض إلى شعبان، وهذا منها بيان آخر ما يجوز التأخير إليه…
ولنا ظاهر قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]، وليس فيها توقيت، والتوقيت بما بين الرمضانين يكون زيادة. ثم هذه عبادة مؤقَّتة، قضاؤها لا يتوقت بما قبل مجيء وقت مثلها كسائر العبادات.
وإنما كانت عائشة رضي الله تعالى عنها تختار للقضاء شعبان؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يحتاج إليها فيه، فإنه كان يصوم شعبان كله”(7).
ويرى الجمهور: المالكية والشافعية والحنابلة أن قضاء رمضان غير ممتد إلى ما بعد رمضان الداخل؛ وإذا تأخر القضاء لغير عذر فإن على المؤخِّر القضاء مع إطعام مسكين عن كل يوم(8)؛ لما روي عن ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة؛ أنهم قالوا: أطعم عن كل يوم مسكيناً(9).
واستدل بعض الفقهاء من الجمهور بحديث عائشة بنحو زيادته.
قال ابن مفلح الحنبلي (ت 884هـ) – شارحاً قول الموفق ابن قدامة (ت 620هـ): “فصل: ولا يجوز تأخير قضاء رمضان إلى رمضان آخر لغير عذر، فإن فعل فعليه القضاء وإطعام مسكين لكل يوم، وإن أخره لعذر فلا شيء عليه”.
“(فصل: ولا يجوز تأخير قضاء رمضان إلى رمضان آخر لغير عذر) نص عليه، واحتج بقول عائشة: كان يكون علي الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان؛ لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم. متفق عليه”(10).
وذهب الحافظ ابن حجر من الشافعية إلى جواز تأخير قضاء رمضان مطلقاً سواء أكان لعذر أو لغير عذر، رادّاً هذه الزيادة، فقال: “وفي الحديث دلالة على جواز تأخير قضاء رمضان مطلقاً سواء كان لعذر أو لغير عذر؛ لأن الزيادة كما بيناه مدرجة؛ فلو لم تكن [موقوفة](11) لكان الجواز مقيداً بالضرورة؛ لأن للحديث حكم الرفع؛ لأن الظاهر اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، مع توفر دواعي أزواجه على السؤال منه عن أمر الشرع، فلولا أن ذلك كان جائزاً؛ لم تواظب عائشة عليه”(12).
قلت: الراجح في المسألة تأخير قضاء رمضان إلى رمضان داخل إن كان لعذر قضاه ولا فدية. وإن كان لغير عذر قضاه مع الفدية، وهي عن كل يوم إطعام مسكين للأثر – وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين من: المالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم – للتالي:
1- لكون عبارة: (الشغل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو برسول الله صلى الله عليه وسلم) في حكم المرفوع، فانبنى عليها عدم جواز تأخير القضاء لغير عذر.
2- لأن عائشة رضي الله عنها لم تؤخر قضاءها إلى رمضان داخل، ولو أمكنها لأخرته(13).
3- لأن الصوم عبادة متكررة فلم يجز تأخير الأولى عن الثانية كالصلوات المفروضة.
4- لأن تأخير صوم رمضان عن وقته إذا لم يوجب القضاء أوجب الفدية.
_____________________________
(*) بحث مستل من كتاب الألفاظ المدرجة في أحاديث الكتب الستة. طبعة دار الميمان 1437هـ.
(1) مسلم (2/802، رقم: 1146) (13)، كتاب الصيام (26) باب قضاء رمضان في شعبان – حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا يحيى بن سعيد [بن قيس الأنصاري]، عن أبي سلمة، قال: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول… الحديث.
(2) م (2/803، رقم: 1146) الكتاب والباب السابقين – وحدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا بشر بن عمر الزهراني، حدثني سليمان بن بلال، حدثنا يحيى بن سعيد – به.
(3) خ (2/689، رقم: 1849) (36) كتاب الصوم (39) باب متى يقضى قضاء رمضان – حدثنا أحمد بن يونس بسنده كما عند مسلم، وفي آخره ما سبق.
(4) م (2/803، رقم: 1146) الكتاب والباب السابقين – وحدثنيه محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج – به.
(5) م (2/803، رقم: 1146) الكتاب والباب السابقين – وحدثن محمد بن أبي عمر المكي، حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم – به.
(6) شرح الموطأ للزرقاني (2/258).
(7) المبسوط (3/77).
(8) انظر: الفواكه الدواني للنفراوي المالكي (1/310)، والمهذب للشيرازي الشافعي (1/187)، والمجموع للنووي الشافعي (6/385)، ومغني المحتاج للشربيني الشافعي (1/441)، والمغني لابن قدامة الحنبلي (3/40).
(9) روى بعضاً من هذه الآثار الإمام البيهقي في سننه الكبرى (4/253) – باب المفطر يمكنه أن يصوم ففرط حتى جاء رمضان آخر – أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن سعقوب، ثنا الحسن بن مكرم، ثنا يزيد بن هارون، ثنا شعبة، عن الحكم، عن ميمون بن مهران عن عبن عباس: في رجل أدركه رمضان وعليه رمضان آخر. قال: يصوم هذا، ويطعم عن ذاك كل يوم مسكيناً ويقضيه.
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد ابن أبي عمرو، قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا يحيى بن أبي طالب، قال: قال عبد الوهاب بن عطاء: سئل سعيد – هو ابن أبي عروبة – عن رجل تتابع عليه رمضانان وفرط فيما بينهما، فأخبرنا عن قتادة، عن صالح أبي الخليل، عن مجاهد، عن أبي هريرة أنه قال: يصوم الذي حضر، ويقضي الآخر، ويطعم لكل يوم مسكيناً.
(10) المبدع في شرح المقنع (3/46).
(11) ما بين معقوفتين بدلاً منه في الأصل كلمة: (مرفوعة)، وهو خطأ؛ لأنها تتنافى مع قوله قبلها: (كما بيناه مدرجة)؛ ولأن الحكم المذكور كما يتضح من سياق العبارة لا يستقيم إلا بما أثبتناه؛ لأنه لو كانت (مرفوعة) لكان الحكم هو عدم جواز التأخير إلا لعذر، وهو خلاف الحكم الذي صُدِّرَ به الكلام وهو الجواز لعذر ولغير عذر. والله أعلم.
وكان يمكن للعبارة أن تستقيم مع ما قبلها، ومع الحكم الذي في سدر الكلام لو كانت العبارة هكذا: (فلو كانت مرفوعة)، لكن النسخة: فلو لم تكن. والله أعلم.
(12) فتح الباري (4/191) كتاب الصوم، باب متى يُقضى قضاء رمضان؟
(13) انظر هذا التعليل وما بعدَيْه: المغني (3/40).