إعداد عماد عنان
تعد قضية “توثيق العقود” من القضايا التي فرضت نفسها مؤخرًا على موائد النقاش والبحث الفقهي في أعقاب ما أثارته من جدل ومناوشات هنا وهناك وضعتها في مرتبة ومكانة غير التي عليها في الواقع، وهو ما دفع البعض إلى محاولة وضع هذه المسألة في نصابها الطبيعي حتى لا تصبح عرضة للإستخدام السيئ الذي قد ينسحب على الحكم الشرعي في المسألة التي يراد توثيقها.
الباحث الفقهي محمد بن فريد، في ورقته البحثية التي عنون لها بـ “توثيق العقود.. نظرة شرعية” تطرق إلى هذه الجزئية بالتفصيل، موضحًا أن التوثيق ليس جزءًا من منظومة الأحكام والشروط لبعض العبادات، فالزواج والطلاق وإن كان التوثيق عنصرًا هامًا لإتمامهما لكنه ليس شرطًا لصحتهما.
فريد كشف أن “التوثيق” بالنِّسبة للعقود مثل الدَّواب والمركبات وأجهزة المكيف بالنسبة للحج، فهو من المصالح المرسلة، وفيه تحقيقُ مصلحةٍ شرعيةٍ، وهي التيسير على الحجاج، وليس هو من أركان الحج ولا شروطه، ولا تأثير له البتة على الحجة صحة، أو بطلانًا، أو استحبابًا أو كراهة، فإذا أدَّى مسلمٌ الحجَّ بأركانه المعروفة فقد صحَّ الحجُّ، وسقطت عنه الفريضة، ويصبح الأثر الوحيد لعدم استخدام الوسائل الترفيهية هو ما تحمله من المتاعب، وتكبده من المشقة فحسب!
وأضاف أن الزواج والطلاق والبيع والشراء والدَّيْنُ والقضاء والعتق والرهن كل هذه أمور لها أركان وشورط على ما هو معروف في الفقه الإسلامي، مستمد من الكتاب والسنة لا غير، ومعظم هذه الأمور كانت تمضي في عهده صلى الله عليه وسلم بغير توثيق، وبعضها بتوثيق، وفي كلا الأمرين ليس ركنًا منها، وليس شرطًا في صحتها البتة!
ومع تطور الأحداث بات التوثيق من مقتضايات الدولة الحديثة، وتم إنشاء مصالح وهيئات متخصصة في توثيق العقود بكافة أنواعها، ودخل من ذلك توثيق شهادتي الميلاد والوفاة، وذلك لغلق الباب أمام نوافذ الكذب والتزوير، لكنه مع ذلك لا يغير في الواقع شيئًا، فالمولود يولد عندما يهب الله له هبة الحياة تفضلا منه وتكرمًا، وهكذا يولد بإرادة الله ، وهكذا فالمولود يولد سواء أتم توثيق شهادة الميلاد أم لا!
الباحث في ورقته المنشورة في شبكة الألوكة استعرض بعض الأقاويل الباطلة التي صاحبت مسألة اعتبار التوثيق شرطًا لصحة بعض العبادات فضلا عن قيامها بتفنيدها بالعديد من الأدلة من الكتاب والسنة.
الأبطولة الاولى التي فندها فريد هي (قياس توثيق الطلاق على توثيق الدَّيْن) مشيرًا أن استدلال البعض على توثيق الطلاق بتوثيق الدَّينْ فهو باطل مردود، وقول مرذول، واختراع أبله، ومقترح أخرق، وطرح سفيه، وذلك لما يلي: أولًا: هذا قياسٌ فاسدٌ ساقطٌ أصلًا. إذ الموضوع لا يقبل القياس أصلًا، لأنَّ القياسَ هو: “ألحاق المسكوت عنه بالمذكور على وجه الاعتبار ، وهذا هو باب القياس والاجتهاد” ، أو بتعبير آخر: “إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق بحكمه”، قال الإمام الشافعي في فقه القياس وآليته: “أن يكون الله أو رسوله حرَّم الشيء منصوصًا، أو أحله لمعنى، فإذا وجدنا ما في مثل ذلك المعنى فيما لم يَنُصَّ فيه بعينه كتابٌ ولا سنة: أحللناه أو حرَّمناه؛ لأنَّه في معنى الحلال أو الحرام” .
ثانيًا: هذا قياس مقلوب حجة عليهم لا لهم، فلو افترضنا جدلًا أنَّ الطلاق مسكوت عنه، وأننا سنلحقه بالدَّين في الكتابة بشأن التوثيق، سلَّمنا بهذا! فهب أن شخصًا ما قد ائتمن شخصًا آخر على مال، وأقرضه ولم يكتب عليه الدين! فهذه الحالة يستحق الدائن المال أم لا يستحق؟، وكذلك : إذا كتب الدائن الدين ثم ضاعت منه الورقة؟ هل يفقد استحقاق الدين بضياع الوثيقة، أم يبقى مستحقًا للدين؟..بالإجماع : الدائن يستحق الدائن دينه سواء تم التوثيق أم لم يتم؟
أما الأبطولة الثانية فهي (قياس توثيق الطلاق على توثيق الزواج)، وهذا قياس ساقط كسابقه للأمرين معًا، أولًا:هذا قياس فاسد. لأنه لا قياس مع نص، راجع الرد على الأبطولة الأولى، ثانيًا: هذا قياس مقلوب حجة عليهم لا لهم. لأننا إذا اعتبرنا أنه قياس صحيح فإنه يكون حجة عليهم لا لهم، لأن عدم توثيق الزواج لا يؤثر في صحته ولا علاقة البتة بصحته بإجماع المسلمين.
الأبطولة الثالثة ( الاشتراط بعقد الزواج اعتمادًا على التوافق المجتمعي)، إذ يقولون: “يجب أن يتم إصدار قانون يتم فيه الاشتراط عند الزواج بعدم اعتبارية الطلاق غير الموثق!” وذلك بناءً على التوافق المجتمعي الذي يرغب في هذا التشريع! ومن ثم يجب الوافاء به لأن المؤمنين عند شروطهم، ولأن المشروط شرطًا كالمعروف عرفًا!
الأبطولة الرابعة (الاستدلالَ بكثرةِ انهيار الأسر) وفيها استنكر الباحث دعاوى البعض بأنهم أكثر حرصًا ورحمة على العباد من خالقهم سبحانه وتعالى، فما ينبغي أن يُعْلَمَ يقينًا أنَّه لا أرحم بالخلق من خالقهم جلَّ في علاه، وأنَّ الرغبةَ في تغيير التشريع الإلهي بدعوى الشفقة على الخلق لهي أعظم تهمةٍ لله . وهي دعوى خبيثة تشير لما في قلب صاحبها من الكفر بالله والبغض له، والرفض لشريعته ، والتصريح أمام النَّاس بأنَّ ما هم فيه من الخراب والفساد بسبب شريعة رب العباد هي دعوة صريحة للإلحاد والتذمر والتمرد على رحمة أرحم الراحمين!
والله ما جاءت الشريعة إلَّا بكمال الرحمة، وتمام المصلحة، وقد أكَّد سبحانه على ذلك مرارًا، ومن ذلك قوله }الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ{ (الأعراف:157)
وقد أختتم الباحث تفنيده للأباطيل المتعلقة بمسألة التوثيق بـ (تعليق حقيقة العمل بتوثيقه مخالف للعقل والمنطق) مشيرًا أن من قام بالسرقة أو القتل ولم يستدل عليه ثم جاء ليعترف بجريمته فهو من قام بها ويجب أن يعاقب عليها حتى وإن لم يتم توثيقها، أما أن نعفيه من جريمته التي ارتكبها باعترافه بسبب أنها لم توثق فهذا مناف تماما للعقل والمنطق.
وفي نهاية البحث قدم الباحث الفقهي محمد بن فريد، بتقديم عدد من النصائح منها:
1- وجوب إقامة الدين، وشرائعه بجميع الشعب. وليس في فقه الطلاق فحسب، استجابة لقوله }ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ{(الجاثية:18)
2- التحذير من المطالبة بتطبيق الشرعية في بعض جوانبها وترك البعض الآخر. كما جاء التحذير في قوله }أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ{(البقرة:85)
3- التحذير من الخوض في الدين بلا علم. لا أحد يجرؤ أن يصنع حذاء لقدميه بغير أن يتعلم هذه الحرفة من أربابها، علمًا بأن الحذاء الذي ترتديه في قدمك يُصنع على عشرات المراحل، وكل حرفيٍ لا يحسن إلا مرحلة واحدة، ولا يعرف شيئًا البتة عن المراحل الأخرى! ليست هذا فقط؛ بل الأحذية أقسام؛ فهذا قسم للأطفال، وآخر للرجال، وثالث للحريم، وكما لا يجرؤ أحد على تجاوز مرحلته؛ كذلك لا يجرؤ على تجاوز قسمه!
4- التحذير من الكتاب واللبن. وذلك كما في الحديث عن عُقْبَةَ بْنِ عَامِر؛ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْكِتَابَ وَاللَّبَنَ” قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا بَالُ الْكِتَابِ؟ قَالَ: “يَتَعَلَّمُهُ الْمُنَافِقُونَ ثُمَّ يُجَادِلُونَ بِهِ الَّذِينَ آمَنُوا” فَقِيلَ: وَمَا بَالُ اللَّبَنِ؟ قَالَ: “أُنَاسٌ يُحِبُّونَ اللَّبَنَ، فَيَخْرُجُونَ مِنَ الْجَمَاعَاتِ وَيَتْرُكُونَ الْجُمُعَاتِ” (مسلم)
5- التحذير من وسائل التخدير والإلهاء، عندما تجد حِبْرًا أو حلوى أو عصيرًا يسقط عليك في الشارع ويلتف حولك بعض من يساعدك لتنظيفه، فلا تهتم بمساعدتهم، ولكن انتبه لحافظة نقودك، ومحمولك ومتعلقاتك الهامة!
(المصدر: الملتقى الفقهي)