يثار في الإعلام في عدد من الدول العربية بين الحين والآخر قضية الطلاق الشفهي، والدعوة إلى أن طلاق الرجل امرأته شفهيا بأن يقول لها: ” أنت طالق” أنه لا يقع، وأنه من اللغو، وأنه يجب توثيق الطلاق عند المأذون حتى يقع صحيحا، بل تتجه بعض الدول لسن قانون بهذا الرأي حتى يكون ملزما للجميع، وإذا شرع قانون به، فهذا يعني أنه يأخذ قوة التطبيق بعيدا عن آراء الفقهاء أو غيرهم.
ولكن لابد أن نفهم ابتداء معنى هذا الرأي.
هذا الرأي يعني أن الرجل إن قال لزوجته أنت طالق، فلا يحتسب طلاقا ولو طلقها ألف مرة، كما يعني هذا القول أن الطلاق الصريح لا يقع إلا عند المأذون حتى يوثق.
والقائلون بهذا القول من بعض أساتذة الشريعة خاصة من جامعة الأزهر، من أمثال الدكتور أحمد السايح، والدكتور عبد الله عبد النجار وغيرهما، أن الطلاق الشفهي كان يقع قديما لكن الآن الظروف قد تغيرت، وأصبح الطلاق كلمة يتفوه بها من لا يعقلها، وأن الناس قد تطلق قرابة المائة مرة، وهذا نوع من السفه الذي لا تقره الشريعة، وأن الطلاق الشفهي يجعل حق إنهاء الحياة الزوجية للرجل دون المرأة، مع أن الزواج كان شراكة فلابد أن ينتهي بالشراكة، وأن فيه تشريدا لآلاف الأطفال، وهدما للأسر، خاصة أن هناك إحصاءات تقول: إن الطلاق يتزايد يوما بعد يوم، ولابد من وضع حد لهذا الأمر، حتى نحافظ على الأسر.
بل ادعى بعض هؤلاء أن رجلا جاء النبي صلى الله عليه وسلم يسأله أنه طلق امرأته مائة مرة، فرد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الطلاق ولم يحسبه! هكذا قال الدكتور عبد الله النجار في لقاء تلفزيوني بقناة المحور المصرية برنامج (90 دقيقة) مع الإعلامي معتز الدمرداش يوم 24/1/2017م، وهو ادعاء كاذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بل صرح القرآن الكريم أن الطلاق مرتان، لأن الناس كانوا يطلقون مائة مرة ثم يردون زوجاتهم، فنزلت الآية تحدد مرات الطلاق، كما أخرج الترمذي عن عائشة – رضي الله عنها- قالت: «كان الناس والرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها، وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة، وإن طلقها مائة مرة أو أكثر، حتى قال رجل لامرأته: والله لا أطلقك، فتبينين مني، ولا آويك أبدا، قالت: وكيف ذاك؟ قال: أطلقك، فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك، فذهبت المرأة حتى دخلت على عائشة فأخبرتها، فسكتت عائشة، حتى جاء النبي – صلى الله عليه وسلم-، فأخبرته، فسكت النبي – صلى الله عليه وسلم- حتى نزل القرآن {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } [البقرة: 229]قالت عائشة: فاستأنف الناس الطلاق مستقبلا: من كان طلق، ومن لم يكن طلق».
وفيه دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم احتسب الطلاق وإن أكثر الرجل منه في العدد.
بل كان فقهاء الصحابة وغيرهم يوقعون الطلاق الذي يتلفظ به الرجل بعشرات المرات، فيوقعونه بثلاث، ويؤثمونه بالباقي، فقد أخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن المغيرة بن شعبة أنه سئل عن رجل طلق امرأته مائة مرة، فقال: بانت منك بثلاث وسبعة وتسعون يحاسبك الله بها يوم القيامة.
وقبل العروج على رأي الفقهاء في هذه المسألة لنا أن نتساءل:
– ما المقصود بهذه الدعوة؟
– وماهي أهدافها؟
– ولماذا يتم تبنيها ليس فقط من قبل جمعيات حقوق المرأة، بل من المؤسسات الدينية في عالمنا العربي، بل من المسئولين في بلاد المسلمين؟
– ثم إذا تم وتبنتها الدولة وأصبحت واقعا بقوة القانون، ما الذي يترتب على هذا في مجتمعاتنا المسلمة؟
– وإذا كان القصد من هذه الدعوة تقليل إيقاع الطلاق، ألا توجد وسائل أخرى تحقق ذلك المقصود دون أن تخالف أحكام الشريعة؟
إن غالب المجتمعات المسلمة قد تخلت عن تطبيق أحكام الشريعة في كثير من الجوانب، ويظهر ذلك في غالب التشريعات الموجودة بالدساتير والقوانين العربية، باستثناء قانون الأحوال الشخصية الذي يؤخذ غالبا من الفقه الإسلامي، مع ما قد نراه من الصبغة العلمانية حتى في بعض قوانين الأحوال الشخصية في بعض الدول العربية، وإن الأسرة المسلمة هي آخر حصون الإسلام التي إن هدمت فقد هدمت تشريعات الإسلام في مجتمعاتنا، ومن هنا، كان من الواجب الحفاظ على ذلك الحصن المنيع الذي تحتمي به المجتمعات المسلمة.
الرأي الفقهي في توثيق الطلاق
أما مناقشة هذا الرأي بناء على الرؤية الفقهية، فهو رأي فاسد، لا يقول به فقيه معتبر. وبيان ذلك ما يلي:
أولا – قول محدث
القول بأن الطلاق الشفهي ولو كان صريحا لا يقع إلا بالتوثيق عند المأذون قول محدث في دين الله لم يقل به فقيه منذ نزول القرآن إلى يومنا هذا، يعني أن هذا القول مخالف لفقه الأمة طيلة ما يزيد على ألف وأربعمائة سنة، ومن المعلوم أنه لا يجوز إحداث رأي جديد في الدين إن تطرق إليه الفقهاء قديما، لكن إن اختلفوا في مسألة، فلنا أن نتخير من أقوالهم ما يناسب زماننا، أما إن كانت المسألة جديدة لم تحصل في زمانهم، فمن الخطأ أن نقف عند أقوالهم، بل الواجب أن نجتهد لزماننا ومجتمعاتنا دون أن نلتفت إلى أقوالهم في المسألة، لكن كون المسألة كانت موجودة عندهم في زمانهم، وأن نستحدث رأيا آخر، يعني أنه غاب عنهم علم وجهلوه، ولا يمكن القول بهذا عن زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم، لأنهم أعلم منا بأمور الدين.
على أن توثيق الزواج والطلاق لم يكن موجودا إلا في العصر الحديث، فقد كان الناس يتزوجون ويطلقون بلا توثيق، لأنه كان هناك التوثيق الاجتماعي، فالرجل حين يذهب لبيت المرأة يطلب يدها من أبيها وتزف إليه، مع حضور الأهل وعمل الوليمة وتنتقل المرأة من بيت أبيها إلى بيت زوجها، فيعرف كل الناس من الأقارب والجيران وغيرهم.
وكذلك الشأن في الطلاق، فإن الناس يعرفون أن المرأة طلقت من زوجها، إما بسماعهم ذلك مباشرة، أو بنقل الخبر إليهم، أو انتقال المرأة إلى بيت أبيها وتخبر أنها قد طلقت، وقد جاء التوثيق من باب حفظ الحقوق وليس من باب إنشاء الأحكام من جديد، أو أن تتوقف الأحكام على التوثيق.
ثانيا – مخالف لإجماع العلماء
إذا قال الرجل لزوجته: أنت طالق، فهذا من الألفاظ الصريحة في الطلاق، التي تقع بلا خلاف بين الفقهاء، ولا يتوقف وقوع الطلاق على شيء مطلقا، حتى لو ادعى أنه لم ينو الطلاق يقع إذا كان باللفظ الصريح، لأن اللفظ الصريح لا يحتاج إلى نية.
ثالثا – توثيق الطلاق والكتابة
وقد يتبادر إلى ذهن بعض الباحثين والدكاترة إلى أن الطلاق لا يقع إلا عند المأذون بناء على القول بإيقاع الطلاق بالكتابة، والطلاق بالكتابة محل خلاف بين الفقهاء، وهو واقع عند جمهور الفقهاء إن ثبت أنه من الزوج نفسه، وأنه نوى الطلاق.
غير أن هذا لا علاقة له بتوثيق الطلاق، لأن الحديث عن الطلاق بالكتابة هو أن لا ينطق الزوج بالطلاق وإنما يكتبه دون نطق.
رابعا – الإشهاد على الطلاق
ومما قد يستند إليه في القول بإيقاع الطلاق عند المأذون ما ذهب إليه بعض الفقهاء من توثيق الطلاق، علما أن توثيق الطلاق مستحب عند جمهور العلماء وليس بواجب، حتى من قال إنه يجب الإشهاد عليه لا يعني ذلك وقوعه بدون إشهاد، بل يأثم الزوج إن لم يوثق الطلاق مع وقوعه عند من قال بوجوب الإشهاد.
خامسا – معنى التوثيق عند المأذون
التوثيق هو نوع من الشهادة على شيء حصل ووقع، وليس معناه إنشاء شيء جديد، ولهذا نجد في الزواج مثلا أن المأذون يشهر الزواج أولا، ثم يوثقه في الأوراق، فبان أن هناك فرقا بين إيقاع الطلاق وبين توثيق الطلاق، فقد يكون من المفيد أن كل من طلق أن يوثق الطلاق عند المأذون، لكن هذا لا يعني أن طلاقه لا يقع إلا عند المأذون.
سادسا – مخاطر توثيق الطلاق
إن من مخاطر توثيق الطلاق سرعة إنهاء الحياة الزوجية، على أن الطلاق إن كان رجعيا ولم يوثق هذا يعني أن هناك فرصة لأن يرجع الرجل زوجته، أما إذا ذهب بها إلى المأذون وطلق، فكأنه أشبه الطلاق القضائي، فيتصور الأهل أنه لا يحل للرجل أن يرجع زوجته، أو يفهموا بأن الحياة الزوجية قد انتهت، بل توثيق الطلاق يشجع على عدم الرجعة إلى الحياة الزوجية مرة أخرى، وبهذا ينقض المقترح مقصده من أساسه.
سابعا – تعديل المقترح
يمكن تعديل المقترح الذي يقول به بعض المعاصرين على النحو التالي:
1- أن الزوج إذا نطق بالطلاق باللفظ الصريح فهو واقع ديانة.
2- أنه يجب الإشهاد على الطلاق، أو إعلام بعض الأهل أو الأقارب، أو الجيران، أو الأصدقاء على حدوث الطلاق، بحيث يمثل الشهود أمام القضاء عند التنازع، على أنه إن لم يشهد الزوج على الطلاق، كان واقعا، مع الإثم، عملا برأي من قال بالوجوب.
3- يوثق الطلاق عند المأذون بورق غير رسمي لا يرفع للقضاء إلا عند التنازع بين الزوجين في عدد مرات الطلاق، أو ما قد يترتب عليه من حقوق وواجبات بعد الطلاق، على أن هذا التوثيق لا يتوقف عليه صحة الطلاق، فالطلاق واقع من وقت نطق الزوج به.