بقلم د. سلمان العودة
– يا أبا صالح! قم فحدثنا عن توبة الله عليك!
ويقوم الشاب فيسرد حديثاً مفصّلاً مكرراً عن زلات وهفوات وشهوات.. وقد بات يستره ربه وأصبح يكشف ستر الله عليه!
وربما بالغ وحكى ما لم يكن؛ تشبُّعاً وتكثُّراً وتكريساً للفرق بين ما كان وما صار!
وهو يحكي أنه قضى شطراً من شبابه في غفلة ورفقة سوء، وتجرّأ على الموبقات العظام، وهو لا يزال في أول طريق الهداية، ولا يحسن أن يضرب المثل للناس بنفسه ولا أن ينبش ماضيه!
حكى الله خطيئة الأبوين؛ ليدرك الأبناء أن الخطأ كامن في طبيعتهم وتكوينهم، وأن الخروج منه ممكن وليس الذنب حتماً لازباً في رقاب العباد.
التحذير الرباني من الذنوب سابق: {وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ} (35:البقرة).
النهي عن القربان سدٌ للذريعة واحتياطٌ من الوقوع، ولعل من اقترب من شجرة المعصية يجد من جاذبيتها وإغرائها أو طيب رائحتها ما يحفزه على المعاقرة!
ومع التحذير بيان جلي للعقوبة المترتبة على الفعل بأن يُلحقوا بالظالمين.. مما يدل على وجود ظالمين قبلهم.. أفسدوا في الأرض، وسفكوا الدم الحرام، فعوقبوا بالطرد والإبعاد.
تأكيد مبكر على بشاعة الظلم وشناعته، وأوله ظلم النفس، وظلم أخيك الإنسان ظلم لنفسك ولبني جنسك.
وبعد المقارفة والوقوع عتاب يسير، ثم صفحٌ وفتحٌ لأبواب من الإنابة تسع ما بين المشرق والمغرب، وتذكير بأن لحظة الخطيئة عابرة وتزول: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} (23:الحديد).
الخطيئة تُذكيرٌ قلبي بمعنى الغفور الرحيم.
تَوَضَّأَ الْقَلْبُ مِن ظَنِّي بِأَنَّكَ غَفَّـ … ـارٌ وَصَلَّى وَكَانَتْ قِبْلَتِى الْأَمَلُ
دَع الْهَوَى لِذَوِيِهِ يَهْلِكوا شَغَفَا … أَوْ فَاقْتُل النَّفْسَ فِيهِ مِثْلَ مَنْ قَتَلُوا!
ما الحامل على الذنب؟
– حب الخلود وطول الأمل
-حب التسلط والملك: {أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ} (20:الأعراف)؛ على القراءة بكسر اللام، مثنى: مَلِك، أي: صاحب مملكة.
-التخلُّص من الطبيعة البشرية، وتغيير خلق الله بالانتقال إلى عالم الملائكة، على القراءة بفتح اللام.
قد يكون الشر طريقاً إلى الخير، وربما استخرج الله من العبد بالذنب خيراً لم يكن ليحدث من دونه.
من لديه طهورية زائدة قد لا يحسن فهم الناس وتقدير دوافعهم وطبائعهم، أو تتحول طهوريته إلى كبرٍ وعجبٍ وتعاظم.. ويعتقد أنه يمثل الأنموذج، ومن سواه يضرب في التِّيه البعيد.
من الاعتدال أن تتعامل مع الخطيئة بمقتضى أنها يمكن أن تصدر منك!
وأيكم كان طاهراً فليرمها بحجر!
(لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ فَإِنَّ الْقَلْبَ الْقَاسِيَ بَعِيدٌ مِنْ اللَّهِ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ، وَلَا تَنْظُرُوا فِي ذُنُوبِ النَّاسِ كَأَنَّكُمْ أَرْبَابٌ وَانْظُرُوا فِي ذُنُوبِكُمْ كَأَنَّكُمْ عَبِيدٌ فَإِنَّمَا النَّاسُ مُبْتَلًى وَمُعَافًى فَارْحَمُوا أَهْلَ الْبَلَاءِ وَاحْمَدُوا اللَّهَ عَلَى الْعَافِيَةِ) (رواه مالك في الموطأ من كلام عيسى عليه السلام).
الخوارج القوّامون بالليل، الصوّامون بالنهار، المتيبسون المتثفنون المتخشعون.. ضلُّوا عن استيعاب ضرورات الناس وطباعهم، فوقعوا فيما هو شر مما نفروا منه وأبغضوه..
وصارت فكرتهم الخارجية أقرب للشيطانية منها للملائكية!
خطيئة آدم وحواء مكشوفة ظاهرة، متلوَّة في القرآن، مسجَّلة بلا نكران.
نوح سأل ربه بشأن ولده فخوطب: {فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (46:هود)، فقال: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} (47:هود).
إبراهيم استخدم التورية في خطابه وقال: {إِنِّي سَقِيمٌ} (89:الصافات)، وقال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} (63:الأنبياء)، فاعتذر عن الشفاعة يوم الدين..
وداود فعل ما فعل وظن أنه فُتن.. {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ}(24:ص).
ويونس خرج مغاضباً وظن أن بمقدوره ترك قومه.. {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (87:الأنبياء).
ويوسف همَّ بها {لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} (24:يوسف)، وقال: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (53:يوسف).
وموسى قتل القبطي من غير تعمُّد، وقال: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} (16:القصص)، وكان ذلك قبل النبوة، وبعد النبوة قال: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} (14:الشعراء).
كان واضحاً مع نفسه، واضعاً للأشياء في موضعها، مسمياً للأشياء بمسمياتها في خطابه مع ربه والتماس عفوه.
وفي القرآن: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الْأَعْمَى} (2،1:عبس).
وفيه: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} (37:الأحزاب).
وفيه: {وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} (105-107:النساء).
فكان -عليه السلام- يتلو ما أُنزل عليه بخشوع وانكسار، ويُلقِّنه أصحابه، ويُمليه على كُتَّاب الوحي؛ ليضعوه موضعه في المصحف، ويؤم الناس به في الصلاة!
برهان قاطع على ربانية الوحي وتواضع الأنبياء، ووضوح توباتهم، وغموض ذنوبهم حتى تحيَّر المفسرون في تسميتها، وعدَّها غالبهم من فعل ما هو خلاف الأولى.
ومع هذا أعلنها القرآن؛ مبرزاً صدق ندمهم، وعمق خشوعهم، وتمام إخباتهم وانكسارهم، ولم يكن في حديثهم اتساع في تصوير الذنب بل استطرادٌ في تنويع التوبات وصيغ الاستغفار.
*المصدر : موقع الشيخ سلمان العودة