مقالاتمقالات مختارة

تهافت فكر الإلحاد

بقلم أ. فهد مولاطو

بسم الله الرحمن الرحيم و الصلاة و السلام على رسوله الصادق الأمين.
أما بعد فهذه كلمة مختصرة حول ظاهرة الإلحاد و أنواعها و أسبابها و عوامل تفشيها في المجتمعات المعاصرة.

فكر الإلحاد و إنكار الخالق ﻻ شك أن منبعه في أوربا فلا مناص إن أردنا أن نفهم عوامل ظهوره أن نحيط بالحالة الفكرية العامة التي اكتنفت ظهور هذا المذهب الشاذ. لقد عرف مهد النصرانية احتكاكا و تأثرا واسعا بمذاهب و اتجاهات كانت مسيطرة على الميدان الفكري و الثقافي في المنطقة من أبرزها الفلسفة الهلنستية الإغريقية و الفلسفة الغنوصية السامرية. استطاعت هذه الاتجاهات أن تتغلغل داخل العقيدة النصرانية الأصيلة التي جاء بها عيسى ابن مريم عقيدة التوحيد عبر شخصيتين من أهم الشخصيات التي عنيت بكتابة العهد الجديد، أﻻ و هما بولس صاحب الرسائل و يوحنا صاحب الإنجيل الرابع حيث يجد الباحث في النصوص المنسوبة إليهما تأثرا واضحا بالعقائد المشار إليها.

 

عاش ظهور الدين المسيحي مخاضا صعبا حيث تبنت الإمبراطورية الرومانية هذا الدين بعد أن كانت تضطهد معتنقيه و تذيقهم شتى أنواع التعذيب و التنكيل. يبدو أن هذا كان له أبلغ الأثر فيما بعد على سلوك رجال الدين المسيحي و بالخصوص الطائفة الملكانية مع مخالفيهم و لو كانوا مسيحيين أيضا.

 

قد مارست الكنيسة الكاثوليكية رقابة فكرية صارمة فيما يخص عقائد الدين بمباركة السلطة الحاكمة و ذلك في إطار توافق و توازن بينهما حيث تحتكر الكنيسة المجال الروحي تاركة كل قضايا الحكم في يد الملوك عمﻻ بمبدأ أعط ما لله لله وما لقيصر لقيصر.
كان هذا الاحتكار المطلق يظهر بمظاهر مختلفة حيث يأخذ شكل لعن المخالف و السعي في إزهاق دمه كما فعل باتباع أريوس حيث كانت قضية الاريوسية موضوع المجمع الكنسي الأول بنيقية في القرن الرابع الميﻻدي، و من مظاهره أيضا انتقاء الكتابات المقبولة و المردودة ضمن كتب العهد القديم او الجديد المكونة للكتاب المقدس و ذلك دون رجوع لقواعد مضبوطة و واضحة مثل ما للمسلمين من علم السند الذي يستعمله المحدثون و حتى المؤرخون لتحقيق و توثيق أصالة النصوص، بل غالبا ما كان ذلك بناء على الهوى و ترجيح ما يتماشى مع ميول الحكام الذين كان همهم توحيد الرعايا و استتباب الأمن، أو ما يتماشى مع ميول الشعب الذي كان وثنيا في غالبه قبل اعتناقه للمسيحية ابتغاء استقطاب أكبر عدد من الاتباع، فقد كان يطلب منهم الاعتراف بالمسيح مخلصا فحسب للدخول في الدين الجديد و لو بقوا على عقائدهم السالفة.

من أمثلة هذا الانتقاء العشوائي اعتماد التصويت لتحديد ما هو قانوني أي ذو أصل إﻻهي من غيره، مع مﻻحظة أن بعض الكتب التي لم تقبل قي بعض المجامع الكنسية و عدت من كتب الأبكريفا أي الموضوعة المنحولة  قبلت في مجامع ﻻحقة، و هكذا فليكن التﻻعب بالدين،  و من أراد الوقوف على مدى اختﻻفهم و لعن آخرهم لأولهم فعليه بكتاب إظهار الحق لرحمة الله الهندي رحمه الله ففيه الكفاية.

 

و من مظاهر هذا الاحتكار فرض فهم معين لقضايا الدين كما بالنسبة لقانون الإيمان الذي استحدث في مجمع نيقية ليس بناء على بقايا نصوص الوحي المتبقية لدى الطائفة النصرانية و إنما بناء على خلط عجيب لتعاليم المسيحية البولسية و بعض العقائد الوثنية الغنوصية اليونانية و السامرية، ذاك القانون الذي ينص على إﻻهية المسيح و قانون التثليت و الذي يصنف من رفضه ضمن الهراطقة الخارجين من الدين.

 

لقد حمل الدين المسيحي المحرف في طياته بذور التطرف و عدم الواقعية منذ القرون الأولى بعد مجيء المسيح ، فكونه يدعو لإهمال و ازدراء كل ما هو مادي ليس في مستطاع بني البشر السير عليه، و لإن استطاعه أحدهم فمعظمهم ﻻ يطيقه فالناس مجبولة على غرائز و فطر ﻻ يمكنها السيرورة ضدها، و لأن تجاهلنا بل دفعنا بالإنسان ضد ما جبل عليه من حاجته لإشباع غرائزه دفعنا به نحو الخروج عن التواززن و عن الاعتدال المتمثل في إعطاء الجسد و الروح حاجاتهما دون إفراط او تفريط، دون تزمت او غلو كما هو متمثل في نصوص الإسﻻم دين الفطرة في قوله تعالى قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات ن الرزق، أو في قول نبيه صلى الله عليه و سلم كلوا و اشرب وا و اليسا و تصدقوا في غير إسراف و ﻻ مخيلة.

و قد أدى هذا النهج المتطرف بلرجال الدين المسيحي ممثلين في رجال الكنيسة الكاثوليكية فضﻻ عن غيرهم من الأتباع إلى كل أنواع الشذوذ و الإنحرافات الأخﻻقية،و إلى أنواع من الجشع الذي تجسد في تعاونهم مع الحكام و الاقطاعيين على الاستئثار بكل خيرات البﻻد دون عامة الشعب بل و حدا بهم الى بيع أماكن في الجنة و صكوك للغفران بزعمهم.

أدت هذه الإنحرافات إلى حركة الاصﻻح البروتستانتي في القرن السادس عشر الميﻻدي و التي كان من شعارها أن الخﻻص بالإيمان و ليس بالكنيسة و قد فتحت هذه الحركة باب نقد النصوص و رفض بعض العقائد الكاثوليكية حيث رفضت الحركة العديد من كتب الكتاب المقدس الكاثوليكي و اعتبرتها غير إﻻهية المصدر كما رفضت عقيدة تأليه العذراء. و صاحب هذه الحركة الاصﻻحية أيضا ظهور المطابع و ذيوع ترجمات كثيرة من الكتاب المقدس و لم يصر حكرا على رجال الدين و كبار المثقفين المتخصصين مما ساعد هذا العلماء و الباحثين على التعمق في دراسة نصوصه من ابرزهم اسبينوزا و ريشارد سيمون و جان مسليي و جان استروك.

 

أسفرت هذه الدراسات التي اعتمدت أساسا على النقد الفيلولوجي و التاريخي للنصوص عن بث الشكوك في الكثير من نصوص الكتاب المقدس حتى بل و أدت ببعض الأدباء أن إنكر حقيقة و جود المسيح كشخصية تاريخية حقيقية كما ذهب إليه فولتير مما رأى من تناقض .
هذا و من جهة أخرى كانت خطيئة الكنيسة الكبرى هو ذاك التضييق الذي أذاقته للعلماء الماديين اللذين كانوا كلما توهمت الكنيسة أن في اكتشافاتهم تعارضا مع النصوص المقدسة، تارة اعدمته كبرونو، و تارة صادرت مؤلفاته و منعتها، و تارة اجبرته على الاعتراف بخطئه و تراجعه عما ادى اليه بحثه العلمي و لو كان مبنيا على علوم ملموسة قطعية ،و تارة منعته من التدريس و من ابرز هؤلاء كبرنيك و كليلي و برونو. بفعلها هذا أعلنت الكنيسة الحرب في وجه العلماء و تكونت بعد ذلك فكرة ترسخت شيئا فشيئا أﻻ و هي أن الجمع بين الدين و العلم من المستحيل.

 

وقد لجأ بعض المدافعين عن الكتاب المقدس لما رأى من تصادم مع حقائق علمية قطعية إلى تفاسير رمزية للكتاب أو باصطﻻح علماء الكﻻم تأويل النصوص لدفع هذا التعارض كما لجأ البعض الآخر إلى القول بأن الحفظ الإﻻهي لم يشمل من النصوص إﻻ ما كان خاصا بنصوص العقائد إلى غيرها من التخبطات.

 

كل هذه المﻻبسات من فساد رجال الدين و من تعارض خطابه مع مقتضيات الحياة المتوازنة و من معاداة ممثليه لعلماء لهم تخصصهم بزعم مخالفة النصوص المقدسة، كل هذا حدى بمفكري تلك الحقب نحو البحث عن إجابة عن الأسئلة الوجودية التي تدعى ميتافيزقية أو تيولوجية خارج إطار الكنيسة و بالتالي خارج اطار الوحي المتبقي في ثنايا الكتاب المقدس. تلك الأسئلة التي ما فتئ البشر يتفكر فيها كمن أين أتيت و من خلقني و من خلق الكون و ما صفات هذا الخالق و ما الغاية من وجودي و لماذا هذه الشرور و هذا التظالم المستشري و هل بعد الموت من حياة إلى غيرها من الأسئلة التي شغلت جل فكر الفﻻسفة لما لها من ارتباط وثيق بطبيعة الإنسان الروحانية و طبيعته التواقة للمعرفة حيث ﻻ تطمئن هذه نفسه إﻻ بالإجابة عليها، و عندنا كمسلمين أنها ﻻ تطمئن إﻻ بمعرفة النفس موﻻها الحق و عبادته مخلصة له الدين.

 

لقد شغلت مباحث حكمة الخالق و الأخﻻق و الجبر و الحرية و القدر و طرق إثبات وجود الخالق حيزا مهما من كتابات كبار مفكري أوروبا بين القرن السادس عشر و الثامن عشر الميﻻدي منهم ديكارت و لبنيتز و ملبرونش و نيوتن. فرغم ابتعاد معظم هؤﻻء عن الالتزام بالتعاليم الحرفية  للدين الكنسي بل جلهم، لكن لم يذهب أحد منهم أي هؤﻻء البارزين إلى إنكار الخالق، و لو اختلفوا في صفاته و في مدى تدخله في تدبير شؤون الكون و العباد أو في حكم الخلق، لكنهم أثبتوا صانعا هو خالق الكون و سبب و جوده، ثم ظهر في أواخر القرن الثامن عشر تيار يقدح في دﻻئل أوﻻئك المفكرين فيما يخص إثبات وجود الخالق زاعما عدم إمكان إثبات مثل هذه الحقيقة اعتمادا على الدﻻئل العقلية المعتادة و كون كل هذه العقائد إنما هي اعتقادات محضة و ليست بحقائق، ﻻ دليل على ثبوتها كما ﻻ دليل على نفيها، و بالتالي وقفت هذه الفرقة موقف الحياد السلبي اتجاه هذا المبحث، و كان هذا التيار أصل العقيدة التي عرفت فيما بعد بالمحايدين اعتقاديا أو المشككين (agnostique)، و كان رائد هذا التيار إمنويل كونت. و كما هو ظاهر، فقد شكلت هذه الفرقة حلقة الوصل المنطقية بين المثبتين و النافين للخالق فيما بعد. و المﻻحظ في هذا المقام أن من الدﻻئل التي اعتمد عليها الأولون ما لم يكن واضحا بل مستلغلقا كما هو الحال بالنسبة لما قدمه ديكارت من براهين في كتابه التأمﻻت الميتافيزيقية، و هكذا كل من رام الفصل في بعض الدقائق دون  الاهتداء و الاستضاءة بنور الوحي فغالبا ما تكون له زﻻت يستغلها خصومه للطعن في مذهبه.

 

و تجدر الإشارة هنا إلى أن معظم هؤﻻء كان يجمع بين العلوم المادية و علوم التيولوجيا أو الإﻻهيات، فعداء العلماء كان موجها للكنيسة آنذاك و ليس لفكرة وجود الخالق، و لم يروا شينا في كونهم يتباحثون في قضايا فلسفية ميتافيزقية رغم مكانتهم العلمية المرموقة.

 

مع دخول القرن التاسع عشر الميلادي بات سلطان الكنيسة و رجال الدين الكنسي المحرف يتقلص شيئا فشيئا و ذلك لأسباب، منها ظهور خطئ الكنيسة في كل ما كانت تعارض فيه العلم و العلماء الذي أدى بالتالي إلى ازدراء كل ممثليها، ومنها ظهور مناقضة نصوص النصرانية المقدسة لحقائق علمية قطعية و كذلك احتوائها نفسها على تناقضات مما أدى إلى فقد الثقة بقدسيتها و بإﻻهية مصدرها ، و منها ظهور الثورة الصناعية التي جعلت الرفاهية المادية تطغى على الجانب الروحي للحياة، و منها اقتفاء العوام لمواقف العلماء الذين كان يجلهم لما يسدون له من خدمة و تيسير للحياة باكتشافاتهم و اختراعاتهم، و المﻻحظ هنا أن مواقف هؤﻻء العلماء التي تبنوها بخصوص الإﻻهيات و الغيبيات من خﻻل مشاركاتهم التيولوجية كانت بالنسبة لكثير منهم خارجة عن محل تخصصاتهم الأصلية التي بها اشتهروا و كسبوا سمعتهم و ذاع صيتهم، كعلوم الرياضيات و الفيزياء و الهندسة و الفلك، لكن عوام الناس اتبعتهم لما ترسخ في مخيلتها من ضبطهم لكل مباحثهم و تحريهم، كما قال الغزالي من قبل في حق فﻻسفة اليونان ما معناه أن من رأى دقة علومهم في المنطق و الهندسة و غيرها حسب أنهم كذلك دقيقون في غيرها من العلوم، لكن هيهات، و هل اختلفوا في الرياضيات كما اختلفوا في الاﻻهيات، كﻻ و هذا أعظم دليل على اختﻻف المجالين. لكن الشاهد أن الشعب أصبح يهتدي بهدى العلماء فما زكوه فهو المزكى و ما أثبتوه و تبنوه فهو الحق الذي ﻻ ريب فيه، و العكس بالعكس.

ومن أسبابها التقدم العلمي المذهل إبان الثورة الصناعية الذي جعل الإنسان يتوهم أن بإمكانه تفسير كل شيء و بالتالي الاستغناء عن الخالق،

كل هذه الأسباب أدت إلى ظهور منظري الإلحاد الحقيقي أي ليس فحسب عدم اعتبار الوازع الديني في الحياة و إنما التصريح بعدم وجود الخالق، و من ابرزهم نيتشه، لكن الذي كان له أكبر الأثر على الاطﻻق فهو داروين الذي بعد عقود من مراقبة الحيوانات قدم تفسيرا بزعمه لتطور الكائنات عبر عملية الانتقاء الطبيعي الذي يقوم على بقاء الأصلح عبر التناسل و توريث الخواص، و قد تاثر من جاء بعده بل حتى من عاصره بنظريته أبلغ الأثر حيث ظنوا أنه فك لغز الحياة، فبدأت العلوم الأخرى تتأثر بنظريته و تتبناها كأساس لتطور حال الإنسان في كل المجالات كمجالي الاقتصاد و الاجتماع.

 

و مع حلول القرن العشرين عملت كل هذه العوامل عملها مع ظهور عامل جديد كان له دور جوهري في نفخ تيار الإلحاد و تفشي أفكاره و مبادئه في عموم الشعب و حتى البسطاء منهم، أﻻ و هو الإعﻻم، ذاك الإعﻻم الممول من الأنظمة ذات التوجهات المغرضة سواء الشيوعية او الإمبريالية و من الشركات الرأسمالية ليجعل من الإنسان شيئا شبيهابالخرفان يساق يمنة و سيرة حيث يراد به أو  شبيها بالحيوان الذي ﻻ هم له إﻻ قضاء أوطاره،ذاك الإعﻻم الذي يدعو إلى تتفيه عقائد الدين من مثل العمل لله و للدار الآخرة و كل ما يمت إلى الفضيلة، ذاك الإعﻻم الذي يشتغل لزعزعة كل الثوابت و بث الشبه، ذاك الإعﻻم الذي يمثل المتدينين كأناس بسطاء سذج و سطحيين، في مقابل تمجيد كل ماهو مادي و تشجيع بل الحث على إذكاء نيران الشهوات و الشبهات في المجتمعات.

 

قد يتساءل متسائل هنا أين كان هؤﻻء من الإسلام، حيث يﻻحظ أنه كانت هناك حركات من أناس ذوي عقول و ضمائر انسلخت من عقائد المسيحية المحرفة و دعت إلى العودة الى عقيدة المسيح منهم كما يقال إسحاق نيوتن و الكميائي جوزيف برسلي و كذا الطائفة التوحيدية الشهيرة المنتشر اتباعها إلى يوم الناس هذا خصوصا في الوﻻيات المتحدة و غيرها من الأصقاع، فنقول بينهم و بين الإسلام حواجز شتى منها، الحرب التي طالت مدتها بين الغرب و الشرق و التي ذاقت أوربا ويﻻتها منذ مهد حضارتها مما كان له أثر في النفوس ادى الى النفور من كل ما يأتي من الإسﻻم و المسلمين، رغم تاثرهم بهم و بعلومهم و بثقافتهم كما هو معلوم في موضعه،
ثم هناك حال المسلمين المتخلفة في العلوم المادية و كذا إغراقهم في التقليد و الجمود في علوم الدين مما جعلهم ﻻ يحسنون دعوة غيرهم بالأساليب المناسبة، ثم من الأسباب غلبة البﻻد الغربية و استيﻻؤها على معظم بﻻد الإسﻻم مما يجعل القوي يأنف من تقليد الضعيف، ثم هناك الدراسات الإستشراقية التي كشفت بزعمها عوار الإسﻻم و ثغراته و هي تدعي الموضوعية و التجرد في كل بحوثها و ما أنتجت، فلهذه الأسباب و غيرها لم يلتفت الغرب للاسﻻم كحل لمشاكله.

فلنرجع لنظرية داروين، قد ابانت هذه النظرية عن حدودها حينما لم تفسر أهم نقطة ترتكز عليها أﻻ و هي كيفية وقوع هذا التطور المزعوم و آلياته، حيث جاء علم الجينات لتكميل النظرية بفرض التطور عبر طفرات الشفرات الوراثية للكائن ثم يأتي بعد الطفرة تطبيق قاعدة الانتخاب الطبيعي حيث البقاء للأصلح، هذا مع إغفال إعطاء تفسير علمي أي مدعوم بدﻻئل ملموسة مشاهدة لظهور الحياة أول مرة على الأرض.
لقد عرف العلم تقدما كبيرا في كل مجاﻻت الحياة من طب و فلك و فيزياء و جينات و كيمياء بيولوجية و غيرها من العلوم، و الغريب انه كلما ازداد الانسان من اكتشاف المزيد من الحقائق المذهلة عن نفسه و أرضه و كوكبه كلما ازداد بعدا من خالقه و استكبارا، و لقد كان أحرى به أن يزداد تسليما و تواضعا و خضوعا لهذا الخالق المحكم المتقن لكل شيء صنعه كما ألمح إليه موريس بوكاي في كتابه عن العلم و الكتب المقدسة، لكن ماذا يعني الاعتراف بالخالق، أي ما الربط الذي ترسخ في ذهن هؤﻻء للنفور من فكرة الخالق حتى صار ذكر اسم الإﻻه في المحافل العلمية شيئا معيبا قد يؤدي بصاحب هذا الجرم إلى قطيعة من إخوانه في العلم، و خذ كمثال جورج سموت الحائز على جائزة نوبل سنة ألفين و ستة في الفيزياء حين استعمل في إحدى المحاضرات عبارة انه حين نظر إلى الصور الملتقطة (من القمر الصناعي المسمي كوبي الذي كان مشرفا عليه) قال لو رآها متدين لقال كأنما أنظر إلى وجه الله، و قد اعترف هو فيما بعد أن هذه الجملة كلفته مضايقات كثيرة من المجتمع العلمي فضﻻ عن خروج بعض من كان حاضرا في تلكم المحاضرة، و هو يشبه ما وقع قبل للعالمين ويلسون و بنزياس (سيأتي ذكرهما) حين غادر القاعة العديد من الحضور عند عرضهما لدﻻئل الانفجار الكبير و ربطهما المباشر له بخلق الكون.

إن الاعتراف بوجود الخالق صار مرتبطا بقبول الكنيسة ووصايتها على العقول بل و على الجنة و النار بزعمها، و صار مﻻزما في كثير من الأذهان لقبول تلك الكتب المتناقضة التي تدعى الكتاب المقدس، و قد تعني عند البعض اعتناق الإسﻻم، ذاك الدين الذي يدعو بزعمهم إلى قطع الأيدي و ضرب النساء،أو غيره من الأديان  البين عورها، و كل هذه الخيارات غير مقبولة طبعا، إذا فلا رجوع.

 

ﻻ رجوع و ان كانت نظرية داروين ﻻ دليل عليها كما يعترف به زعيم الإلحاد دوكنز في كتابه عن وهم الإﻻه و إنما هي تقدم تفسيرا للتطور و تنوع الخلق فحسب، ﻻ رجوع و إن كانت نظرية داروين ﻻ تقدم أي إجابة أم تفسير فيما يخص ظهور الحياة في البداية، ﻻ رجوع و إن كانت أبحاث جادة من علماء متخصصين كمايكل بيهي الذي قوض دعائم النظرية بأمثلته من المكونات البيوكيماوية البالغة التعقيد و التي تمثل كﻻ ﻻ معنى لأجزائه و ﻻ وظيفة إن لم تعمل في إطار النظام الكلي كالعين و النظر أو كآلية تجلط الدم عقب الجرح و كون نظامه يودي بصاحبه إلى الموت لو نقص من مكوناته مكون واحد و غيرها من الأمثلة التي لوﻻ ما ذكرنا قبل من الموانع لأذعن لها كل منصف،
ﻻ رجوع و إن كانت نظرية داروين للتطور تعني أن كل هذا الجمال و هذا الاختﻻف و هذا الإتقان إنما هو تطور بمحض الصدف، فالطفرات كالقائد الأعمى، يسير في الظﻻم و قد يسلك كل الطرق التي ﻻ نهاية لآحادها لكن الانتقاء يبقي الأصلح، أﻻ يعني هذا الهذيان لو سلم أن مﻻيير الحاﻻت الشاذة من الكائنات الهجينة كان ينبغي أن توجد لو كانت النظرية حقة، ثم كيف يفسر كل هذا الجمال و التناسق في عالمي الطبيعة و الحيوان بنظرية البقاء لﻷصلح حيث ﻻ يبقى إﻻ ذو الوظيفة المتميزة و ليس الجميل الخﻻب،على أني ﻻ أغفل عامل الألوان الجذابة لدى بعض النباتات أو الأريش الخﻻبة لدى بعض الطيور في عملية التكاثر و التناسل، ثم أي وظيفة مميزة في جزيئ من الألف من اليد أو العين أو الأذن أو الرئة أو القلب و قس على ذلك كل الأعضاء حيث إن أردنا أن نطبق عليها نظرية التطور للزم أن تكون هذه الأعضاء في كل مراحل تطورها ذات وظائف مميزة لحامليها عن غيرهم كي ينجحوا في عملية الانتخاب الطبيعي،  أين هم من الرقم الذهبي الذي يﻻحظ في شتى الخﻻئق من أطراف الإنسان إلى مجرة درب التبانة مرورا بالزهور و بعض الحلزونات، أهي الصدف، قال جون كويتون Jean guiton بأي صدفة غريبة نجد طول إنسان يساوي شعاع الأرض مضروب بشعاع الذرة، و كيف بنفس الطريقة نجد وزن إنسان يساوي وزن الأرض مضروب في وزن الذرة، إنها الصدف!

ﻻ رجوع و إن كان العلم الحديث قد أثبت بالبراهين عبر نظرية التوسع الكوني التي أدت بعد ذلك بسنوات  إلى اكتشاف حدث الانفجار الكبير big bang  الذي دل على أن الكون له بداية و بالتالي سببا إذ أحدث بعد أن لم يكن. تلك النظرية التي لم تلق رواجا في المحيط العلمي رغم تقديم العالمين فريدمان السوفييتي و بعده لوميتر البلجيكي لبراهين عليها عبر معادﻻت رياضية و قوانين فزيائية، بل على العكس لقيت أشد المعارضة ممن كان يعتبر مقدم العلماء آنذاك أينشتاين الذي كان يرفضها حذرا مما كانت تستلزم من كون الكون له أصل و مبدأ.
لكن لما قدم بعد ذلك إدوين هوبل شهاداته المبنية على الرصد لم يبق مجال للشك و أصبحت النظرية أي توسع الكون محل اتفاق بين العلماء. وجاء بعد هوبل كامو gamow مؤلف كتاب خلق الكون، و هرمان و ألفر alpher الذين قادتهم بحوثهم للتنبؤ بحدث الإنفجار الكبير الذي لقي معارضة شديدة هو الآخر حيث أهملت بحوث هؤﻻء الثﻻثة لسنوات إلى أن اكتشفت الإشعاعات الكونية الناتجة عن الانفجار من طرف بنزياس و ويلسن مما أهلهما لنيل جائزة نوبل، و جعل ذاك الحدث شبه محل اتفاق في المحيط العلمي شيئا فشيئا بعد ذلك.

و لنﻻحظ استعمال كامو كلمة الخلق التي تدل على مدى ترابط الانفجار الكبير بحقيقة خلق الكون عنده على أن أكثر المجتمع العلمي فك هذا الترابط حيث أذعنوا لنظرية الإنفجار الكبير و لم يقروا بوجود الخالق.

و قد رد بنزياس على معارضيه الذين اتهموه ب ‘التدين’ بأن الدﻻئل العلمية المعتبرة و المشاهدات المتحققة تدل على أن الكون له خالق، و بالتالي فمعارضيه هم منطقيا أصحاب العقائد الدينية حيث يردون تلك البراهين.

إن ويلسون (شريك بنزياس في الأبحاث) هو الآخر كان يتبنى مذهب أستاذه فريد هويل الذي كان ينتصر لأزلية الكون رغم توسعه، لكن بعد اكتشافه للإشعاعات صار يقول بأن الكون له مبدأ بل له خالق.

و لكي نتصور ما لقيت نظرية الانفجار الكبير من معارضة من طرف المحيط العلمي الملحد، فللنظر إلى ما قال عنها الفيزيائي الماركسي دافد بوهم،قال إن متبنيي نظرية الإنفجار الكبير إنما هم خونة للعلم و يرفضون حقائق علمية للتوصل إلى نتائج تتوافق مع عقائد الكنيسة الكاثوليكية.

فليتأمل الحصيف كيف رد نظرية الإنفجار الكبير زاعما أنها تعارض حقائق علمية ثم أصبحت النظرية هي الأكثر اعتمادا بعد ذلك إثر اكتشاف بنزياس للاشعاعات الأصلية المشار إليها ثم ما عضدت به من براهين بينروز penrose و هوكن hawking الرياضية، و لينظر الربط عند هؤﻻء بين إثبات الخالق و العقائد الكنسية.

ﻻ رجوع و إن كانت تلك الثوابت الكونية مثل ثابتة بﻻنك أو سرعة الضوء أو الثابثة الفلكية أو الشحنة الابتدائية و غيرها من الثوابت التي لو لم تكن كلها مستقرة على تلك الأرقام و القيم بجزئ من المائة فيما يخص بعضها و بعض عشرات الأرقام بعد الفاصلة في أخرى بثانية بعد الانفجار الكبير لما كانت هناك حياة على الأرض، تلك الثوابت التي تأثر في التوازن الكوني من تكوين و تماسك الكواكب و النجوم إلى الأجساد و النباتات، بالتأكيد نحن ﻻ ندري هل هناك سلسلة أخرى من الثوابت كانت ستسمح بظهور الحياة لكنها لو كانت هذه الحياة لما كانت بالتأكيد الحياة التي نعرف، و قد صرح عالم الفيزياء الفلكية ستيفن هوكن في كتابه قصة مختصرة عن الزمان بهذا فقال ما نصه مما يثير الانتباه هو أن قيم هذه الثوابت يبدو و كأنها هيئت بشكل دقيق جدا كي يمكن للحياة أن تتطور، ﻻ تعليق على هذا النص، إنها الصدف. قال تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق و في أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، و لتذكر المؤمن قوله سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق و إن يروا كل آية ﻻ يؤمنوا بها.

فهل يكفي هذا للإذعان، ﻻ طبعا، إنهم سيفترضون للخروج من هذا المأزق وجود ما ﻻ نهاية له من الأكوان (ﻻ ندري كيف) التي كلها أو معظمها ﻻ حياة فيها إﻻ أقل القليل و من هذا القليل كوننا، أو يفترضون أن بعد الانفجار الكبير قد يكون هناك انكماش ثم انفجار و هكذا إلى ما ﻻ نهاية و في إحدى هته الانفجارات ستكون الظروف أي قيم الثوابت مواتية لظهور الحياة،و ﻻ نغفل هنا الفرق الشاسع الواسع بين توفر ظروف تمكن من ظهور الحياة و استمرارها و بين ظهور الحياة نفسه حيث المعادﻻت و القوانين ﻻ تخلق شيئا، وهو ما كان يلمح إليه هوكن المذكور حيث قال ﻻ ندري ما أشعل النار في تلك المعادﻻت.

ﻻ رجوع و إن كانت الخلية الحية هي ﻻ كما كان يتصورها داروين في القرن التاسع عشر لكنها مركب بالغ التعقيد حيث تحوي مخازن للطاقة تدعي ميتوكونديا و وسائل للنقل و مصانع تدعى ريبوزومات و نواة هي العقل المدبر للخلية حيث تحوي الكروموسومات التي فيها بيانات كيفية صنع البروتينات المحتاجة لشتى الوظائف.

إن كان يؤدي العلم  إلى المكابرة و الجحود و جحد الخالق الرازق الرحيم الذي بنكرانه للكﻻم في الفضيلة و الاخﻻق كما قال إمنويل كونت kant، و الذي بنكرانه ننكر مبدأ السببية الذي تعرفه الفطر أكثر من كل شيء بل كل العلوم تتﻻشى كما قال ديكارت، و الذي بنكرانه ننكر فطرنا المجبولة على حبه و عبادته، إن كان العلم يؤدي إلى هذا فمرحبا بالجهل، لكن أين المفر عندهم، فإن الخيارات صعبة أنؤمن بالنصرانية البينة التحريف المنافية للعقل و الفطر، بالطبع ﻻ.

 

هذا بالنسبة لهؤلاء فما بال المسلمين،  ما لهم و لهؤلاء، لماذا افتتنوا بهم و هم على الدين القويم، يمكن إجمال عوامل هذا الافتتان في رأيي فيما يلي،
أوﻻ الجهل بالدين و بدﻻئله و براهينه، و إن لم يكن بأصله فبفروعه، و هذه مسؤولية أهل العلم قبل غيرهم.

ثانيا حالة حامليه حيث نجد الكثير منهم ضعيفي الفكر جامدي الذهن ﻻ فقه لهنم بواقع حال أمتهم و كونها تعاني من انعكاس و تأثير أمم الغرب بفكرها و أخﻻقها و قوتها، ثم هم ﻻ يعنون بتحصين أفراد أمتهم مكتفين بشيء من علمهم التقليدي متجاهلين تلك الأفكار و الشبه الواردة و التي تحتاج إلى معالجة، ﻻ يشعرون أن بعض اجتهاداتهم المصادمة للفطر مع زعمهم أنها من قواطع الدين تجعل الناس يشكون في دينهم، ﻻ يشعرون أن كﻻم الرجل في ما ﻻ يتقن يجعل الناس تشك فيما يقول مما يتقن.

ثالثا تقليد هؤﻻء العلماء المﻻحدة توهما انهم ﻻ ينطقون عن الهوى اعتمادا على إتقانهم للعلوم المادية الملموسة كما مر.

رابعا تقليد الحضارة الغربية عموما و هي سنة كونية قديمة أي اتباع الأضعف الأقوى و توهمه انه بتقليده سيصير قويا مثله.

خامسا حال الأمة الإسلامية و تدنيها في معظم المجاﻻت سواء الأخﻻقية أو العلمية أو السياسية و غير ذلك مما يبعث الشباب و حتى الكهول على التبري منها و من كل ما يأتي منها.

سادسا فقد القدوة و أحيانا خيبة الأمل في القدوة و كثيرا ما يكون هذا عند من كان يتبنى فكرا معينا أو يتبع  طائفة معينة فيتبين له خطؤها فينقلب على عقبيه و قد يصل هذا الانقلاب إلى الإنسلاخ من الدين كما رأيناه و قد نلحق هذا بقلة المعرفة بأصول الدين و الرسوخ في فهمها.

سابعا تغير الفطر وانتكاسها،و هذا ينتج عنه أن كثيرا ممن نشأ في بﻻد المسلمين ﻻ يحيط بالحكمة من تشريع بعض قواطع الدين لمصادمة مادتها لما ثبت لديه من المفاهيم التي يظنها يقينية مما يبعث لديه الشك في أصل دينه و نصوصه، خذ باب الحدود أو الرق كأمثلة، و هذا أهم دوائه التسليم و اتهام النفس و الراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا و ما يذكر إﻻ أولوا الألباب.

ثامنا عدم الإحاطة بكون مسألة خلق الكون من المسائل المختلف فيها في المجتمع العلمي و ينتصر لها الجم الغفير من العلماء المعتبرين بل المبرزين كما قد مر ذكر بعضهم في هذا المختصر، و هذا رغم الضغوط الممارسة عليهم و ما يعنيه اعترافهم من جلب عداوة الفريق المخالف لهم، مما يحدو بنا للظن أن منهم من يخفي اعتقاده اتقاء شرهم.

 

فلينظر الكيس لنفسه فخبر المستور أي من ﻻ يعلم كذبه من صدقه يستوجب التحري و التثبت فما بالك بمن ذكرنا من ذوي الاختصاص و ما أوردنا من دﻻئلهم. وليﻻحظ القارئ أنا لم نناقش في هذا البحث إﻻ دﻻئل الغربيين حيث مهد الإلحاد و عشه، و أضربنا عن ذكر دﻻئل الإسﻻميين في هذا الباب مع ما يشهد لها من دﻻئل النبوة و دليل القرآن الكريم المعجز التي تحدى به الله عز و جل الإنس و الجن، و لينظر اللبيب بأي منطق يسوغ أن يضرب عنها صفحا اتباعا لقوم هذا حال اختﻻفهم في هذا الباب و هذا حال دﻻئلهم و براهينهم.

و لنختم بما قال أب النسبية أينشتاين كل من هو ضالع في العلوم بشكل جدي سيؤول به الأمر يوما لفهم أن عقﻻ يظهر وراء قوانين الطبيعة عقﻻ ﻻ نسبة بينه و بين عقل الإنسان.

هذا و ﻻ شك أن معالجة ظاهرة الإلحاد يمر عبر التربية السليمة و التحصين العلمي المتين، و من أعظم العون على هذه المعالجة كون الإنسان يولد على الفطرة سويا، و هذا يعني أن إيﻻء العناية الكافية بالنشئ كفيل بالقضاء على هذا الداء، و الحمد لله أوﻻ و آخر، ربنا ﻻ تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.

(المصدر: مركز يقين)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى