عبد الله السكرمي – إسلام أون لاين
لقد كتب كثير من العلماء والباحثين المعاصرين عن العلاقة بين الحكام والمحكومين في الدولة الإسلامية، واختلفت مناهجهم في البحث وآراؤهم، ومن بين تلك المناهج فئة حاولت إقصاء هذا البحث وإماتته، وادعاء أن الإسلام لا يقرر للحكم نظامًا ولا مبادئ، ولا شأن له بإقامة الدولة، يسايرون في ذلك الاتجاه العلماني العالمي الذي يُكرِّس لفصل الدين عن الدولة.
وللأسف ما زالت الردود على هذا الاتجاه ومروجي هذا الزعم ضعيفة، لا تقوى على رد هذه الهجمة، مما يدعو أهل الحق أن يبذلوا أكثر وأكثر، حتى تتضح فكرة شمولية الإسلام واحتوائه على العناصر الأساسية والمبادئ الضرورية لإقامة الدولة اليي يقوم نظامها على الحق والعدل. وحتى تقوى وتتجلى هذه الحقيقة بين جمهور المجتمع المسلم، والرأي العام، وأوساط القانونيين والسياسيين وأهل الفكر، لتهيئة مناخ عام عالمي يتقبل وجود الدولة التي يريدها الإسلام.
ومن تتبع أصول التشريع في الإسلام يجد أنه قد عني بتنظيم هذه العلاقة بين الراعي والرعية وضَبَطها بضوابط تمثل مصلا واقيا من الثورات والاضطرابات التي قد تؤدي إلى تدهور الدولة إذا انحرف الحكم عن سواء السبيل.
كما تخلق روح المشاركة بين الجميع حكامًا ومحكومين، راعيًا ورعية، في تحقيق أهداف دولة الإسلام.
فالأصل أن الإسلام يقيم دولته على أهداف عظيمة، والمسلمون جميعًا يتشاركون في تحقيق هذه الأهداف، كلٌّ في موقعه، وقدر استطاعته. ولذا تبايع الأمة حاكما يحرسها ويرعاها، ويحرس دينها ويحميه، وتقف الأمة من خلفه سندًا وظهيرًا. وهذا سر قوة الدولة، وغلبتها في كل ميدان. كما أنه سبب انتشار الإسلام في الأقطار، وانبهار العالم بمبادئه السامية، ونظمه الشاملة المستوعبة لشؤون الفرد والجماعة.
وقد دلَّت الأدلة الشرعية على أن الإسلام وضع نظامًا للعلاقة بين الفرد والدولة، سماه علماء النُّظُم: (نظام الحكم)، وذلك من خلال ما ورد في القرآن والسنة، وهما المصدران الأساسيان اللذان نستمد منهما الأحكام.
فنجد في القرآن الكريم توضيح حقوق الحاكم وحقوق المحكومين، وحقوق أهل الذمة، وحق العدل والمساواة، وحرية الرأي، والشورى في الحكم.. موضِّحا ذلك في أصول عامة، لا تفصيل فيها؛ لأنها مما يتغير من جيل إلى جيل.
كما عنى النبي صلى الله عليه وسلم بتقرير هذه العلاقة بين الحاكم والمحكومين وتجلية قواعدها للناس، عمليًّا ونظريًّا، فأقام دولة المدينة عقب الهجرة، ومارس الحكم فيها بنفسه، ووضع بذلك القواعد والأسس العامة لنظام الحكم في الإسلام، كما رأينا نصوصًا نبوية، تتحدث عن هذه العلاقة بألفاظ منها: البيعة، والإمارة، والإمامة، والطاعة، وغيرها.
ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جلّي لأمته هذا الجانب المهم من جوانب الشريعة، ولذا سارع الصحابة رضوان الله عليهم إلى اختيار خليفة له فوراً عقب وفاته، لحُكم الدولة الإسلامية، مُقَدِّمين هذا الاختيار على دفن جسده الشريف.
وبناء على ذلك أكَّد علماء الإسلام من قديم على أن الحكم أصل في الإسلام، وأن الحكومة ركن في بنائه، يقول الإمام الغزالي رحمه الله: (المُلك والدين توأمان، فالدين أصل والسلطان حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع، ولا يتم الملك والضبط إلا بالسلطان، وطريق الضبط في فصل الحكومات بالفقه). أي: الدين.
وقد ذكر بعض العلماء هذه المسألة في كتب العقائد والأصول، حين تعرضوا لمسألة وجود الله سبحانه وتعالى، وصفاته، وخصوصًا صفة العدل، والقائمون بالعدل بين الناس وهم الأئمة والأمراء، فيجرهم ذلك إلى الكلام عن شيء من هذه العلاقة بين الحكام والمحكومين.
كما ذكرها بعضهم في كتب الأحاديث والسيرة النبوية، حيث تمثل التطبيق العملي الصحيح، لهذا النظام في أيام النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده خصوصًا أبا بكر وعمر، ومنها يستخرج العلماء الخصائص الحقيقية لهذه العلاقة بين الحكام والمحكومين.
وبعضهم خصَّ هذا الموضوع بالتأليف، وتلك هي كتب الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية، ومما يُعاب على هذه الكتب أنها اقتصرت على وصف السلطة فقط، وأهملت الشعب والتوازن بينهما، إهمالًا تامًّا.
يقول الدكتور مصطفى كمال وصفي: (والمصدر الحقيقي لنظام الحكم في الدولة الإسلامية هو: كتب أصول الدين (أي: العقيدة) وكتب الحديث والسيرة النبوية. ولا تقوم كتب الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية، إلا كمكمل لهذا المنبع الأساسي) .
وهكذا اختلفت رؤية العلماء من قديم لهذه العلاقة بين اعتبارها من قضايا الأصول والعقائد، أو اعتبارها من قضايا الفروع والفقهيات، وسواء كان هذا أو ذاك فالجميع متفق على الاعتقاد بوجوبها ولزومها، واعتبارها من الأصول يقينًا. فالإسلام ليس عقائد فحسب، بل هو عقيدة وعمل، والإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل.
وهكذا نفهم أن الإسلام عنى بتنظيم العلاقة بين الحكام والمحكومين اهتمامًا كبيرًا، لما لنظام الحكم من أهمية كبيرة في حراسة النظم الأخرى؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فهو يحكمها جميعًا، ويقيم شعائرها، ويحفظ قواعدها.
ولكن الإسلام لم يقف كثيرًا -في تنظيم هذه العلاقة- عند التفصيلات التي تتغير مع الزمن، واختلاف أحوال الناس، وإنما وضع الأسس العامة والأصول الثابتة التي تنظم هذه العلاقة، وتحدد منهج الحكم وغايته، وتُقوِّم مسيرته، تاركا للناس حرية الابتداع والابتكار، وإنشاء المؤسسات، والتوسع في إصدار الأحكام، وسن القوانين التي تحقق في النهاية هذه الأصول العامة.
وهذا ما نجليه من خلال المقالات التالية..