تناقض فج لدى الفرنسيين بين صورة الحضارة الإسلامية والإسلام نفسه
إعداد إسلام فرحات
هو د. مصطفى الحلوجي، الأستاذ بكلية اللغات والترجمة جامعة الأزهر والرئيس الأسبق لقسم اللغة الفرنسية بها، وواحد من أصحاب المشروعات الفكرية الملهمة في علاقة الإسلام بالغرب، منذ العام 2004م وهو يعمل على مشروع كبير يحاول من خلاله تصحيح الصورة المغلوطة عن الإسلام ورسوله وشريعته في المناهج الدراسية الغربية.. المشروع ومع أول ضوء نور له احتضنته منظمات دولية كـ»اليونسكو»، وعملت عليه واعتبرته من مشروعاتها الرائدة.
«المجتمع» التقت الحلوجي لتسأله عن الطريقة التي يمكن من خلالها النفاذ إلى العقل الغربي بعيداً عن التشنجات والعنتريات الزائفة التي توسع الفجوة بيننا وبينهم، ولتسأله كذلك عن الصورة المغلوطة وحجمها، وقضايا المغالطة، ووسائل التصحيح، بوصفه خاض تجربة في وقت صعب كانت الأقليات المسلمة فيه تعاني من حالة عدائية داخل المجتمع الغربي، بدا وكأنها تتجدد على ألسنة ساسة كبار؛ كالرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» وغيره.
بداية، نريد أن نسأل فضيلتكم سؤالاً تأسيسياً: هل ثمة فرق بين صورة الإسلام وصورة المسلمين في مناهج الغرب؟ بمعنى: هل يتضح في أذهانهم ذلك أم أنهما متطابقان؟
– لا أعتقد أن فرقاً ما يمكن أن يكون حاضراً في أذهانهم بين الأمرين، ودعني أؤكد لك ذلك من خلال ما كتبه مؤلفو كتب التاريخ المدرسية في الدول الغربية، حيث لا يقدمون الحضارة الإسلامية -حتى بعيداً عن الإسلام نفسه كشريعة- كحضارة مزدهرة، ولكن يقدمونها في صورة سلبية، وبالطبع تصحيح هذه الأخطاء يحتاج إلى نفَس طويل من قبل الأساتذة الباحثين الذين يجيدون لغات وثقافات تلك الدول.
لكن الحق يقال، فإن هناك بعض الجهود في دارسات عديدة لتصحيح صورة الإسلام في طبعات متتالية للكتب المدرسية التي تمت دارستها ومناقشة الدارسات المتوالية عقب كل طبعة جديدة مع المسؤولين عن التعليم ودور النشر المدرسية في فرنسا على سبيل المثال، ويمكنني القول: إن ذلك أدى إلى تصحيح ما يقارب الـ90% من الأخطاء في بعض الطبعات الأخيرة لبعض تلك المناهج.
أيعني ذلك أن جميع المناهج هناك تنكر تقدمنا عبر التاريخ حتى في فترات ازدهار المسلمين؟
– للإنصاف، هناك بعض الكتب المدرسية تشير إلى تقدم المسلمين في الطب والعلوم والفلك والرياضيات والآداب والفنون والفلسفة.. إلخ.
لكن على النقيض من ذلك، فصورة الإسلام في بعض كتب التاريخ المدرسية (الفرنسية تحديداً) كانت سلبية، وذلك من خلال تقديم بعض المفاهيم الإسلامية بشكل خاطئ.
هذا يجرنا للحديث عن أهم تلك القضايا التي يتم الشغب من خلالها على عقول الطلبة هناك في مراحل التعليم المختلفة؟
– نعم، يمكنك أن ترى مثلاً إيرادهم لآيات قرآنية تأمر المسلمين بالجهاد، بمعنى قتال العدو، دون ذكر السياق النصي أو التاريخي، أو أسباب النزول أو شرح -ولو بإيجاز- ليعرف التلاميذ أن المقصود بالجهاد في الإسلام هو الدفاع وليس الهجوم.
كما يمكنك أن ترى مثلاً أنهم يقدمون “الحجر الأسود” كصنم يعبده المسلمون في بعض كتب الدول التي تناولتها الدارسة مثل روسيا، على سبيل المثال.
أيضاً يقدم مؤلفو كتب التاريخ هناك الخلافة على أنها سلطة دينية وسياسية، في حين أن الإسلام لا يعرف السلطة الدينية.
كذلك وضع المرأة في الإسلام من خلال قضايا تخصها كتعدد الزوجات ونصيبها في الميراث وما إلى ذلك.
لكن يبدو أن الأزمة الكبرى في هذه المناهج هي مفهوم الجهاد وما يستتبعه؟
– نعم هو كذلك، فمفهوم الجهاد يقدَّم في بعض كتب التاريخ المدرسية في تلك الدول على أنه حرب مقدسة لنشر الإسلام بالقوة، والنبي محمد عليه الصلاة والسلام رجل يحارب غير المسلمين لإجبارهم على اعتناق الإسلام، وذلك بدون التطرق للتعريف الكامل للجهاد في اللغة العربية أو لذكر أسباب الغزوات التي خاضها المسلمون للدفاع عن أنفسهم ضد مشركي مكة الذين هاجموا المسلمين في عدة غزوات حدثت بالقرب من المدينة.
ولا شك أن هذا يشجع بعض التلاميذ المسلمين في الدول الغربية وغيرها على التطرف والوقوع فريسة سهلة في أيدي الإرهابيين، كما أن هناك تجاهلاً من المؤلفين لآراء المؤسسات الإسلامية ذات التاريخ العريق مثل الأزهر الذي يقدم الصورة الصحيحة للإسلام منذ أكثر من ألف عام.
ولا شك أن المفاهيم الخاطئة التي تشوّه صورة الآخر وثقافته تؤدي إلى فقدان الثقة في الشعوب الأخرى والخوف منها، وقد تؤدي إلى تواجد الإرهاب واشتعال الحروب، في حين نجد أن الاحترام المتبادل بين الشعوب والثقافات ومتابعة التصحيحات يساعد على التعاون والتعايش في سلام.
برأيكم، هل هذا التشويه الذي يتم يدخل في باب العمد أم الخطأ؟ وما أسبابه؟
– دعنا نسميها أخطاء، لكن دعنا نؤكد أيضاً أن هذه الأخطاء كانت بسبب الميراث العدائي للإسلام منذ ظهوره وحتى الآن، ولهذا يتم تقديم الآيات القرآنية وبعض النصوص العربية بعيداً عن سياقاتها، والأحكام المسبقة الخاطئة التي تناقلتها الأجيال منذ الحروب الصليبية، وتاريخ الإمبراطورية العثمانية في أوروبا، وتاريخ الاستعمار والحملات الإعلامية ضد «المتطرفين» من المسلمين، يضاف إلى ذلك الاعتماد أحياناً على مراجع ثانوية أو على ترجمات خاطئة.
في المقابل، هل ترى أن هناك مساعي جادة لتصحيح هذه المفاهيم المغلوطة؟
– هناك بالطبع محاولات جادة لحل مشكلة ربط الثقافة العربية والإسلامية بالإرهاب؛ فمثلاً سبق أن عقدت منظمة «اليونسكو» مؤتمراً عام 2004م تحت عنوان «صورة الثقافة العربية الإسلامية في كتب التاريخ المدرسية الأوروبية»، وذلك بمشاركة جامعة الدول العربية والمجلس الأوروبي والمعهد السويدي بالإسكندرية.
وقدم الباحثون العرب والأوروبيون والأمريكيون أبحاثاً رائعة، ترصد مشكلات الواقع، وتقدم اقتراحات الحل عن صورة الآخر في المناهج الدراسية في الغرب وفي الدول الإسلامية، وأكدوا أنه آن الأوان لتصحيح صورة الآخر أو المسلم المشوّهة في المناهج الدراسية في الدول الأوروبية، وكذلك صورة الآخر اليهودي والمسيحي المشوهة أيضاً في كتب التاريخ المدرسية في الدول العربية والإسلامية؛ لأن مؤلفي كتب التاريخ المدرسية الأوروبية يصدرون أحكاماً خاطئة وهم يعرضون الأحداث التاريخية الخاصة بالإسلام، وغالباً ما تكون سرداً لهذه الأحداث التي هي عبارة عن أحكام تقديرية مسبقة، تعكس وجهة نظرهم وموقفهم المتعنت تجاه الإسلام وفقدانهم لروح الموضوعية والأمانة العلمية.
أشرتم إلى المؤتمر العالمي الذي نظمته «اليونسكو» مع جامعة الدول العربية؛ فما التوصيات التي انتهى إليها حتى نعرف إذا كان قد تم تنفيذها أم لا؟
– لا أظن أن فكرة التنفيذ يمكن رصدها بسهولة؛ فالأمر بحاجة إلى متابعة حثيثة، وكما قلت نفَس طويل أيضاً، وجهد مؤسسي لا مجرد جهد بحثي فردي.
وعلى مستوى توصيات المؤتمر، كان هناك بعض ما تم تنفيذه وتمت الاستفادة منه بالفعل، مثل الاستعانة بالخبراء والمتخصصين في عرض القضايا الشائكة في المنطقة لتقديم الصورة الصحيحة عن الآخر، وكذلك تشجيع تبادل الطلاب وعقد حلقات دراسية لمدرسي مادة التاريخ وأيضاً دعوة المنظمات الدولية، و”الإيسيسكو”، بالإضافة إلى المجلس الأوروبي والجامعة العربية لتكوين فريق عمل يتولى اتخاذ الإجراءات العملية لتطوير ومراجعة المقررات الدراسية في الكتب المدرسية.
وقد تم تنفيذ بعض هذه التوصيات وتصحيح الأخطاء كما قلت، لكن العمل يسير ببطء بسبب الصراعات السياسية وأباطرة الإعلام وتحالف المعادين للإسلام وقوة تيار “الإسلاموفوبيا”.
ولذا لا بد من تكثيف التعاون الوثيق مع الهيئات الدولية العاملة في مجال التربية والتعليم والثقافة، فهذه الهيئات هي خير من يقوم بتصحيح صورة الآخر المشوهة في المناهج الدراسية بالدول الأوروبية؛ لأنها متخصصة في قضايا التعليم في العالم، وكذلك تكثيف العلاقات والاتصالات مع القوى السياسية وأصحاب القرار في الدول الأوروبية، وكذلك في المجتمع المدني أي المنظمات الأهلية غير الحكومية التي تعمل في مجال حقوق الإنسان.
بحكم تخصصكم، تتركز معظم دراساتكم حول صورة الثقافة العربية والإسلامية الخاطئة في كتب التاريخ المدرسية بفرنسا؛ فماذا وجدتم فيها قبل أن يتم تصحيح بعضها بالفعل؟
– يمكننا في فرنسا تحديداً أن نرصد تناقضاً فجاً بين صورة الحضارة الإسلامية في كتب التاريخ، وصورة الإسلام نفسه.
فمثلاً، في حين تقدم تلك الكتب الحضارة العربية والإسلامية على أنها حضارة ساطعة دامت لسنوات، وأنها لم تحتفظ فقط بالتراث الثقافي والعلمي اليوناني والفارسي، وإنما قامت بتطويره، إذا بها تقدم صورة الإسلام نفسه كشريعة ومنهج حياة بطريقة سلبية!
ففي جميع كتب التاريخ المدرسية الفرنسية، نجد كثيراً من الأخطاء والتفسيرات السلبية المستندة بصفة خاصة على آيات قرآنية مترجمة ترجمة خاطئة أو مقتضبة.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، تقدم الكتب الدراسية الفرنسية للطالب ظهور القرآن الكريم من خلال مجموعة من أساطير غير منطقية مستوحاة من صورة من نفس الطبيعة، كما تقدم المناهج الدراسية آيات قرآنية محرفة أو آيات مرتبطة تحديداً بسياقات لا تذكرها.
فمثلاً يقدمون قوله تعالى: (قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة: 29)، يقدمون الآية كدليل على دموية الإسلام واستغلاله دون نظر إلى سياقاتها وما أنتجته من أحكام اختلف حولها حتى فقهاء المسلمين.
على ذكر نصوص القرآن، كيف تعرض هذه المناهج ما جاء في السُّنة النبوية؟
– كانت بعض كتب التاريخ المدرسية الفرنسية تتناول الأحاديث النبوية الشريفة بصفتها شروحات قام بتأليفها أساتذة القانون خلال الفترة ما بين القرنين السابع والتاسع الميلاديين، وهذا يؤكد الجهل الفاضح بأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد عملنا على توضيح حقيقة السُّنة النبوية وهناك استجابة إلى حد ما لذلك.
ولذلك، فإن الكتب الدراسية هناك تقدم للطالب مثلاً تاريخ ظهور القرآن من خلال صورة للنبي محمد بين جناحي سيدنا جبريل، كما تقدم صورة النبي على أنه محارب وليس رجل سلام.
في النهاية، ما الحل –من وجهة نظركم- حتى يتم تصحيح صورة الإسلام والمسلمين في المناهج الغربية؟
– لا بد من عمل مزيد من الدراسات والأبحاث، على أن يقوم بها مفكرون وواضعو مناهج التاريخ المؤهلون لذلك، بعد إبراز أوجه الخلل في المناهج التاريخية الموجودة، والعمل على تصحيحها من خلال استعراض الصورة العامة للثقافة العربية الإسلامية في كتب التاريخ الأوروبية، وآليات تحسين الحوار بين الثقافتين العربية والأوروبية، وذلك بهدف الوصول إلى تدريس التاريخ من أجل المصالحة والتسامح على أساس تعدد وجهات النظر.
ولهذا لا بد من العمل على تصحيح هذه الصورة النمطية السلبية التي تؤخذ عن المجتمعات العربية والإسلامية التي لها تأثير كبير في تشكيل الرأي العام في تلك المجتمعات الغربية عنا، خاصة أن كثيراً منها توارثته وتناقلته الأجيال الغربية منذ القرون الأولى لظهور الإسلام، واستمرت حتى الآن من خلال ما يسمى “الإسلاموفوبيا” أو العداء للإسلام.
(المصدر: مجلة المجتمع)