إعداد : د. ناصر بن عبد الله القفاري
لقد أخبرنا الله جل وعلا أن ما جاء من عنده سبحانه لا اختلاف فيه ولا تناقض، وما كان من وضع البشر فسيجد فيه الناس اختلافاً كثيراً، قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 28]، قال ابن عباس: «يريد لو كان من عند مخلوق لكان فيه كذب واختلاف وباطل»[1].
وقد قرر أهل العلم أن التناقض علامة على كذب الدعوى وعدم صدق المدعي.
ولذا كان من مناهج العلماء في نقد المذاهب المخالفة والحوار مع المخالفين إثبات تناقض المخالف وبيان الاختلاف والتضاد بين أقواله. وقد اعتمد عليه كثيراً شيخ الإسلام ابن تيمية في حواره ونقده للمخالفين من الباطنية والجهمية والمعتزلة وغيرهم.
إن إبراز التناقض والتضاد في مقالات المخالفين لهو من الوسائل المهمة في كشف الباطل وفضح دعاته، وكل الفرق التي انحرفت عن جادة أهل السنة كان نصيبها من التناقض بقدر انحرافها وضلالها، وكانت الرافضة (الإمامية الإثنى عشرية) هي أكثر الطوائف تناقضاً، وكان تناقضها بادياً ظاهراً على رؤوس الأشهاد، جزاء وفاقاً لكذبهم وافترائهم، حتى صار دينهم كما يقول ابن تيمية: «من أفسد أقوال طوائف الأمة؛ فإنه ليس معهم حجة شرعية ولا عقلية»[2].
ومن صور تناقضهم أنهم «لفرط جهلهم وهواهم يقلبون الحقائق في المنقول والمعقول، فيأتون إلى الأمور التي وقعت وعلم أنها وقعت فيقولون: ما وقعت، وإلى أمور ما كانت ويعلم أنها ما كانت فيقولون: كانت، ويأتون إلى الأمور التي هي خير وصلاح فيقولون: هي فساد، وإلى الأمور التي هي فساد فيقولون: هي خير وصلاح؛ فليس لهم لا عقل ولا نقل»[3]، «فهم دائماً يعمدون إلى الأمور المعلومة المتواترة ينكرونها، وإلى الأمور المعدومة التي لا حقيقة لها يثبتونها، فلهم أوفر نصيب من قوله تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْـحَقِّ } [العنكبوت: 86] فهم يفترون الكذب، ويكذبون بالحق»[4]، «ولهذا صار الرفض مأوى الزنادقة الملحدين من الغالية والمعطلة، كالنصيرية والإسماعيلية ونحوهم»[5].
بل إن سبب إلحاد الملاحدة ظنهم أن ما عليه الرافضة هو الإسلام، فشكوا في الإسلام ذاته، فجو التشيع مناخ خصب لمختلف النحل والأهواء، وقد سجل محب الدين الخطيب أن التشيع كان عاملاً من عوامل انتشار الشيوعية والبهائية في إيران[6].
وقد انتهى شيخ الإسلام ابن تيمية في حواره معهم إلى أن «الإمامية لا يرجعون في شيء مما ينفردون به عن الجمهور إلى الحجة أصلاً؛ لا عقلية ولا سمعية، ولا نص ولا إجماع؛ وإنما عمدتهم دعوى نقل مكذوب يعلم أنه كذب، أو دعوى دلالة نص، أو قياس يعلم أنه لا دلالة له»[7].
وقد أقض مضاجع الروافض هذا التناقض، وكان من أسباب تخلي كثير منهم عن نحلتهم، ولذا حاولوا الخروج عنه ما وسعتهم المحاولة أو الحيلة فما زادهم ذلك إلا تناقضاً واختلافاً.
استمع إلى أحد من كان من كبار أتباعهم[8]، وهو يشرح بعض حيلهم للخروج من هذا التناقض، إذ يقول: «إن أئمة الرافضة وضعوا لشيعتهم مقالتين لا يظهرون معهما من أئمتهم على كذب أبداً، وهما: القول بالبداء، وإجازة التقية»، ثم كشف من خلال حياته في المجتمع الشيعي، ومخالطته لهم كيف يتخذون من عقيدة البداء وسيلة للتستر على كذبهم في دعوى علم الأئمة للغيب فقال: «إن أئمتهم[9] لما أحلوا أنفسهم من شيعتهم محل الأنبياء من رعيتها في العلم فيما كان ويكون، والإخبار بما يكون في غد، وقالوا لشيعتهم: إنه سيكون غداً وفي غابر الأيام كذا وكذا، فإن جاء ذلك الشيء على ما قالوه، قالوا لهم: ألم نعلمكم أن هذا يكون، فنحن نعلم من قبل الله عز وجل ما علمته الأنبياء، وبيننا وبين الله عز وجل مثل تلك الأسباب التي علمت بها الأنبياء عن الله ما علمت، وإن لم يكن ذلك الشيء الذي قالوا إنه يكون على ما قالوه، قالوا لشيعتهم: بدا لله[10] في ذلك فلم يكوِّنه، وأما التقية فإنه لما كثرت على أئمتهم مسائل شيعتهم في الحلال والحرام وغير ذلك من صنوف أبواب الدين، فأجابوا فيها وحفظ عنهم شيعتهم جواب ما سألوهم وكتبوه ودونوه، ولم يحفظ أئمتهم تلك الأجوبة بتقادم العهد وتفاوت الأوقات؛ لأن مسائلهم لم ترو في يوم واحد، ولا في شهر واحد، بل في سنين متباعدة، وأشهر متباينة، وأوقات متفرقة، فوقع في أيديهم في المسألة الواحدة مرة عدة أجوبة مختلفة متضادة، وفي مسائل مختلفة أجوبة متفقة، فلما وقفوا على ذلك منهم ردوا إليهم هذا الاختلاف والتخليط في جواباتهم وسألوهم عنه، وأنكروه عليهم، فقالوا: من أين هذا الاختلاف؟ وكيف جاز ذلك؟! قالت لهم أئمتهم: إنما أجبنا بهذا للتقية، ولنا أن نجيب بما أحببنا وكيف شئنا؛ لأن ذلك إلينا، ونحن نعلم بما يصلحكم، وما فيه بقاؤكم وكف عدوكم عنا وعنكم. فمتى يظهر من هؤلاء على كذب؟! ومتى يعرف لهم حق من باطل؟!»[11].
فتأمل كيف يحاولون الخروج من تناقضهم في الأخبار بدعوى البداء الذي يستلزم نسبة الجهل إلى الله – تعالى وتقدس -، فحاولوا الخروج من الجهل فوقعوا في الكفر والنفاق، وتأمل كيف يحاولون الخروج من جهلهم في الأحكام وتناقض الفتاوى الصادرة منهم بدعوى التقية، وأن هذا أمر مقصود، كما يقول سليمان بن جرير الذي خرج من دين الإثنى عشرية واعتنق مذهب الزيدية، وأسس فرقة تنتسب إليه، لكنه ينسب هاتين المقالتين المبنيتين على المكر والخداع إلى بعض أهل البيت، والحق أن ذلك من أولئك الزنادقة المنتسبين إلى أهل البيت لأكل أموال الناس بالباطل.
وجاء في كتابهم «بحار الأنوار» الذي يقول عنه أحد شيوخهم المعاصرين: إنه المرجع الوحيد لتحقيق معارف المذهب[12]. وعدوه أحد المصادر المعتمدة في التلقي ما نصه عن موسى بن أشيم قال: دخلت على أبي عبد الله فسألته عن مسألة فأجابني فيها بجواب، فأنا جالس إذ دخل رجل فسأله عنها بعينها، فأجابه بخلاف ما أجابني، وخلاف ما أجاب به صاحبي، ففزعت من ذلك وعظم عليَّ، فلما خرج القوم نظر إليَّ، وقال: «يا ابن أشيم، إن الله فوض إلى داود أمر ملكه فقال: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص: 93] ، وفوض إلى محمد r أمر دينه فقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: ٧] ، وإن الله فوض إلى الأئمة منا وإلينا ما فوض إلى محمد r، فلا تجزع»[13]، فتأمل التناقض في الجواب ثم ارجع البصر إلى ما هو أعظم كفرًا، وهو دعواهم أن للأئمة حق تغيير دين الله وشرعه؛ لأن الله قد فوض الأمر في ذلك إلى الأئمة، كما يفترون.
ولقد أقر شيخهم محمد بن الحسن الطوسي باختلاف أحاديثهم التي يقوم عليها مذهبهم وتناقضها، واشتكى مما «آلت إليه أحاديثهم من الاختلاف والتباين والمنافاة والتضاد» حتى قال إنه «لا يكاد يتفق خبر إلا وبإزائه ما يضاده، ولا يسلم حديث إلا وفي مقابلته ما ينافيه»، واعترف بأن هذا الاختلاف قد فاق ما عند أصحاب المذاهب الأخرى، وأن هذا كان من أعظم الطعون على مذهبهم، وأنه جعل بعض الشيعة يترك هذا المذهب لما انكشف له أمر هذا الاختلاف والتناقض»[14].
وقام بمحاولة يائسة لتدارك هذا الاختلاف وتوجيه هذا التناقض فلم يفلح؛ بل زاد الطين بلة، حيث علق كثيراً من اختلاف الروايات على التقية بلا دليل سوى أن هذا الحديث أو ذاك يوافق أهل السنة.
ومن ينظر في معتقد التقية لديهم ينكشف له شيء من هذا التناقض، والتقية عندهم أن يقول أو يفعل خلاف ما يعتقد[15]، وهي النفاق بالمفهوم الشرعي، وإنما سموها تقية للخداع والتمويه، وهي أساس التناقض، ومع ذلك جعلوها من أصول دينهم، حتى قالوا: «تسعة أعشار الدين في التقية»[16].
بل إنهم يجعلون تارك التقية لا دين له، فعن أبي عبد الله قال: «اتقوا الله في دينكم فاحجبوه بالتقية، فإنه لا إيمان لمن لا تقية له»[17]، وقالوا: «لا دين لمن لا تقية له»[18].
وكذلك يروي الكليني عن أبي جعفر – المولود بالمدينة سنة 57هـ والمتوفى سنة 114هـ أي في العصر الذهبي للإسلام وفي خير القرون وأفضل البقاع – أنه يقول: «التقية من ديني ودين آبائي، ولا إيمان لمن لا تقية له»[19]، ويقول: «خالطوهم بالبرانية، وخالفوهم بالجوانية إذا كانت الإمرة صبيانية»[20]، فأي تقية يريدون وهم في أفضل البقاع وبين خير القرون، وبعدما أعز الله الإسلام إلا التظاهر بالإسلام وإبطان الكفر؟!
ويبدو أن الذي أسس هذه العقيدة الغريبة، وجعلها من أصول دينهم هو شيخهم الكليني (ت 329هـ أو 328هـ) حيث يعتني بأمر التقية، ويعقد لها باباً خاصاً بعنوان: (باب التقية)، ويضعه ضمن كتاب «الإيمان والكفر»، وهذا دليل على أنهم يرون أن ترك التقية كفر كما أن فعلها إيمان، وقد ذكر الكليني في باب التقية 23 حديثاً لهم[21].
وقد حمل شيوخهم جميع ما ورد في مصادرهم من تناقضات على التقية، فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار!
يذكر العلامة السويدي عند حكاية مناظرته مع شيوخ الرافضة أن أحد علمائهم قال: مذهبنا أن الإنسان إذا صارت له أهلية الاجتهاد يجتهد في أقوال جعفر الصادق فيصحح واحداً منها، فقلت: وما يقول في الباقي؟ قال: يقول: إنها تقية. فقلت: إذا اجتهد واحدٌ فصحَّح غير هذا القول، فما يقول في القول الذي صححه المجتهد الأول؟ فقال: يقول: إنها تقية. فقلت: إذن ضاع مذهب جعفر الصادق؛ إذ كل مسألة تنسب له يحتمل أن تكون تقية؛ إذ لا علامة تميز بين ما هو للتقية وبين غيره، فانقطع ذلك العالم، فما جوابك أنت؟ فانقطع هو أيضاً[22]. ثم قلت له: فإن قلتم: ليس في مذهب جعفر الصادق تقية، فهو ليس المذهب الذي أنتم عليه؛ لأنكم كلكم تقولون بالتقية[23]، فانقطع، ثم ذكرت له دلائل غير هذا تدل على أن الذي في أيديهم ليس بمذهب جعفر الصادق.
وقد اشتكى بعض شيوخهم من هذه الظاهرة وهو الفيض الكاشاني صاحب الوافي أحد الكتب الثمانية المعتمدة لديهم، فقال عن تناقض طائفته: «تراهم يختلفون في المسألة الواحدة على عشرين قولاً أو ثلاثين قولاً أو أزيد؛ بل لو شئت أقول: لم تبقَ مسألة فرعية لم يختلفوا فيها أو في بعض متعلقاتها»[24].
ومن الملاحظ أن اختلافهم هو اختلاف في الأحاديث أو النصوص وليس اختلافاً في الاستنباط، ولا شك أن التناقض أمارة على بطلان المذهب، وكذب الروايات، وأن ذلك ليس من عند الله؛ لقوله سبحانه: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 28] ، وتلك سنة إلهية في كل ديانة وضعية.
أما المخرج الثاني الذي اخترعوه لمحاولة الخروج من التناقض والذي أشار إليه سليمان بن جرير الزيدي في مقالته السابقة فهو البداء. والـبداء في الأصل عقيدة يهودية ضالة, وقد وردت في التوراة التي حرفها اليهود وفـق ما شاءت أهواؤهم نصوص صريحـة تتضمن نسبـة معنى البـداء إلى الله سبحانه[25].
وانتقل الاعتقـاد في البداء أولاً إلى فرق السبئية المدعية للتشيع، ففرق السبئية «كلهم يقولـون بالبداء؛ إن الله تبدو له البداوات»[26]، ثم أخـذ بفكرة البداء المختار بن أبـي عبيد الثقفي[27] «لأنه كان يدعي علم الغيب، فكان إذا حدث خلافُ ما أخبر به قال: قد بدا لربكم»[28].
إذن البداء فرية يهودية، حاولت السبئية أن تدخلها في عقائد المسلمين وأخذ بها المختار لتأييد دعواه الكاذبة في علم الغيب، وهي لا تجوز نسبتها إلى الله، ولكن الشيعة الإمامية تلقفتها وجعلتها من أصول عقائدها وقالوا: «ما عبد الله بشيء مثل البداء»[29]، «وما بعث الله نبياً قط إلا بتحريم الخمر وأن يقر لله بالبداء»[30]، «ولو علم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه»[31].
وفي صحيحهم «الكافي» باب في هذا بعنوان «باب البداء» جاء ضمن كتاب التوحيد! وفي هذا الباب 16 حديثاً في البداء[32]، وفي «البحار» للمجلسي ذكر أحاديث البداء في باب بعنوان: «البداء والنسخ» وذكر فيه 70 حديثاً[33].
أما الأمثلة على الاختلاف والتناقض في مصادرهم ورواياتهم فهي باب واسع جداً[34]. ومن أطرف وأغرب ما وقفت عليه من صور التناقض، ولم أر من أشار إليه مع أهميته أن الشيعة الإثنى عشرية تحكم على من زعم من أتباعهم أنه رأى مهديهم المنتظر الذي لم يوجد أصلاً بالعدالة، بل يعتقدون أنه قد بلغ بهذه الرؤية المزعومة أعلى درجات العدالة والصدق – مع أنه بلا ريب إما أن يكون كذاباً، أو رأى شيطاناً؛ لأن مهديهم المزعوم لا وجود له أصلاً – في حين تحكم على أصحاب رسول الله r الذين شرفوا بلقائه وصحبته والإيمان به واتباعه بالنفاق والكفر!
يقول شيخهم الممقاني – وهو من آياتهم في هذا العصر التي ينسبونها زوراً إلى الله -: «تشرف الرجل برؤية الحجة – عجل الله فرجه وجعلنا من كل مكروه فداه – بعد غيبته، فنستشهد بذلك على كونه في مرتبة أعلى من مرتبة العدالة ضرورة»[35].
ولكن لماذا لا يُجرون مثل هذا الحكم في صحابة رسول الله، ويعتبرون تشرف الصحابة برؤية رسول الهدى r برهان عدالتهم، أليس رسول الله أعظم من منتظر موهوم، لا وجود له، بل مشكوك في وجوده عند شيعة عصره، فكيف به اليوم بعد تعاقب القرون.. أليس هذا هو التناقض بعينه؟! فانظر وتعجب كيف يزكى رجل يدعي رؤية معدوم، والأصل أن يعتبر هذا دليل كذبه، ويطعن في صحابة رسول الله الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه لو لم يرد من الله عز وجل فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد والنصرة، وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين القطع على عدالتهم والاعتقاد بنزاهتهم»[36].
ولقد تنبه لهذا التناقض العالم الإيراني الشيعي المفارق لهذا المذهب الخرافي أحمد الكسروي فقال: «أما ما قالوا عن ارتداد المسلمين بعد موت النبي r إلا ثلاثة أو أربعة منهم فاجتراء منهم على الكذب والبهتان، فلقائل أن يقول: كيف ارتدوا وهم كانوا أصحاب النبي r، آمنوا به حين كذبه الآخرون ودافعوا عنه، واحتملوا الأذى في سبيله ثم ناصروه في حروبه ولم يرغبوا عنه بأنفسهم. ثم أي نفع لهم في خلافة أبي بكر ليرتدوا عن دينهم لأجله فأي الأمرين أسهل احتمالاً: أكذب رجل أو رجلين من ذوي الأغراض الفاسدة، أو ارتداد بضع مئات من خلص المسلمين؟ فأجيبونا إن كان لكم جواب»[37].
ومن تناقضاتهم: أن شيوخ الشيعة شرعوا لأتباعهم الطواف بأضرحة الموتى من الأئمة، ووضعوا من الروايات على آل البيت ما يسندون به هذا الشرك، فذكر المجلسي أنه ورد في بعض زيارات الأئمة: «إلا أن نطوف حول مشاهدكم»، وفي بعض الروايات: «قبِّل جوانب القبر»، كما قال إن الرضا كان – على حد زعمه – يطوف بقبر رسول الله r [38]، وأخذ من ذلك شرعية هذا النسك الوثني في مذهبهم، ولم يلتفت إلى نصوص القرآن الصريحة الواضحة في النهي عن الشرك والوعيد عليه بنار جهنم وبئس المصير، ولكن أشكل عليه روايات لهم تناقض – كالعادة – مذهبهم في المشاهد وهي مروية عن أئمتهم فرام التخلص منها بالتأويل.
جاء في رواياتهم ما ينهى عن الطواف بالقبور كقول إمامهم: «لا تشرب وأنت قائم ولا تطف بقبر، فإن من فعل ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه، ومن فعل شيئاً من ذلك لم يكن يفارقه إلا ما شاء الله»[39]. وقد أجهد المجلسي نفسه في تأويل هذه الرواية فقال: «يحتمل أن يكون النهي عن الطواف بالعدد المخصوص الذي يُطاف بالبيت، ويحتمل أن يكون المراد بالطواف المنفي هنا التغوط»[40].
فأنت ترى أن المجلسي لم يحاول أن يسلك ما يتفق مع كتاب الله سبحانه وما عليه المسلمون، وما جاء عندهم أيضًا: «ولا تطف على قبر»، فينصح لنفسه وطائفته بالنهي عن هذه البدعة، بل تكلف في تأويل نصهم الذي يدل على المعنى الحق! فدين الشيعة هو دين المجلسي لا دين الأئمة، وعمل الشيعة بما قاله شيوخهم لا ما قاله أئمتهم، فأعرضوا عن قول الإمام: «ولا تطف بقبر»، كما أعرضوا من قبل عن قول الله ورسوله وإجماع المسلمين، واتبعوا شيوخهم فضلوا وأضلوا قومهم سواء السبيل.
ومن الأمثلة أيضاً في هذا الباب أن شيخهم المجلسي يقول: «إن استقبال القبر أمر لازم، وإن لم يكن موافقاً للقبلة.. واستقبال القبر للزائر بمنزلة استقبال القبلة وهو وجه الله، أي جهته التي أمر الناس باستقبالها في تلك الحالة»[41]، وحينما وجد المجلسي في روايات قومه ما يعارض هذه الوثنية المقررة في دينهم وهي ما جاء في مصادرهم المعتمدة عن أبي جعفر محمد الباقر يقول: إن رسول الله r قال: «لا تتخذوا قبري قبلة ولا مسجداً، فإن الله لعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»[42].
وما جاء في «الوسائل» – وهو من مصادرهم المعتمدة أيضاً – أن علي بن الحسين قال: قال النبي r: «لا تتخذوا قبري قبلة ولا مسجدًا؛ فإن الله لعن اليهود حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»[43]، كما ورد أيضاً بطلان الصلاة إلى غير القبلة في مصادرهم، وقد ذكر صاحب الوسائل في هذا المعنى خمس روايات[44].
وحينما وجد المجلسي ذلك رجح لقومه العمل بالنص الوثني الشركي، فقال: «يمكن حمل الخبر السابق على التقية أو على أنه لا يجوز أن يجعل قبورهم بمنزلة الكعبة يتوجه إليها من كل جانب[45]… وستأتي الأخبار المؤيدة للخبر الثاني (يعني في اتخاذ القبر قبلة) في أبواب الزيارات»[46].
انظر كيف يؤيد شيوخهم الشرك بالله سبحانه، ويردون الحق ولو جاء في كتبهم.
وقد توقف المجلسي أيضاً عند قول إمامه وهو يبين طريقة زيارة القبر لمن هو بعيد عنه، قال: «اغتسل يوم الجمعة أو أي يوم شئت، والبس أطهر ثيابك واصعد إلى أعلى موضع في دارك أو الصحراء فاستقبل القبلة بوجهك بعدما تبين أن القبر هنالك». توقف المجلسي عند هذا النص، لأن استقبال القبر في دينه أمر لازم فقال: «قوله: فاستقبل القبلة بوجهك لعله عليه السلام إنما قال ذلك لمن أمكنه استقبال القبر والقبلة معاً… ويحتمل أن يكون المراد بالقبلة هنا جهة القبر مجازاً.. ولا يبعد أن تكون القبلة تصحيف القبر»[47]. كل هذه التكلفات والتأويلات لأنه يقول بأن طائفته «حكموا باستقبال القبر مطلقاً (أي في كل أنواع الزيارات)، وهو الموافق للأخبار الأخر في زيارة البعيد»[48]، وقال: إنه مع بعد الزائر عن القبر يستحسن استقبال القبر في الصلاة واستدبار الكعبة[49]، وذلك عند أداء ركعتي الزيارة التي قالوا فيها: «إن ركعتي الزيارة لا بد منهما عند كل قبر»[50]. وهذا ليس بغريب من قوم زعموا أن كربلاء أفضل من الكعبة، بل قالوا: إن الكعبة ليست سوى ذنَبٍ ذليل مهين لأرض كربلاء – كبرت كلمة تخرجها أفواههم أو تسطرها أقلامهم -، ففي حديث لهم عن أبي عبد الله أنه قال: «إن الله أوحى إلى الكعبة لولا تربة كربلاء ما فضلتك، ولولا من تضمنه أرض كربلاء ما خلقتك ولا خلقت البيت الذي به افتخرت، فقرِّي واستقري وكوني ذنَباً متواضعاً ذليلاً مهيناً غير مستنكف ولا مستكبر لأرض كربلاء، وإلا سخت بكِ وهويت بكِ نار جهنم»[51].
فماذا نسمي هذا الدين الذي يأمر أتباعه باستدبار الكعبة واستقبال قبور الأئمة؟ وماذا نسمي هؤلاء الشيوخ الذين يدعون لهذا الدين؟ فليسم بأي اسم إلا الإسلام دين التوحيد الذي نهى رسوله r عن الصلاة في المقابر، فكيف باتخاذ القبور قبلة؟!
يقول أحمد الكسروي: «ومما يرى من لجاج الشيعة أنه قد انقضى منذ ظهور الوهابيين أكثر من مائة وخمسين عاماً، وجرت في تلك المدة مباحثات ومجادلات كثيرة بينهم وبين الطوائف الأخرى من المسلمين، وانتشرت رسالات وطبعت كتب، وظهر جلياً أن ليست زيارة القبب، والتوسل بالموتى، ونذر النذور للقبور وأمثالها إلا الشرك، ولا فرق بين هذه وبين عبادة الأوثان التي كانت جارية بين المشركين من العرب فقام الإسلام يجادلها ويبغي قلع جذورها، يبين ذلك آيات كثيرة من القرآن، فأثرت الوهابية في سائر طوائف المسلمين غير الروافض أو الشيعة الإمامية، فإن هؤلاء لم يكترثوا بما كان، ولم يعتنوا بالكتب المنتشرة والدلائل المذكورة أدنى اعتناء، ولم يكن نصيب الوهابيين منهم إلا اللعن والسب كالآخرين»[52].
والتناقض في هذا المذهب من أعجب العجب، ومن ذلك: ما جاء في كتاب التوحيد لابن بابويه: «عن منصور بن حازم قال: سألت أبا عبد الله – عليه السلام – هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم الله تعالى بالأمس؟ قال: لا، من قال هذا فأخزاه الله، قلت: أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة أليس في علم الله؟ قال: بلى، قبل أن يخلق الخلق»[53].
ولا شك بأن عقيدة البداء بمقتضى معناها اللغوي، وبموجب روايات الإثنى عشرية، وبحسب تأويل بعض شيوخهم تقتضي أن يكون في علم الله اليوم ما لم يكن في الأمس. وبحسب الإثنى عشرية عار وفضيحة أن تنسب إلى الحق جل شأنه هذه العقيدة، على حين تبرئ أئمتها منها، فإذا وقع الخلف في قول الإمام نسبت ذلك إلى الله لا إلى الإمام.
ومن تناقضاتهم الفاضحة أنهم يقولون في سبب غيبة مهديهم المعدوم بما جاء في كتابهم الكافي عن زرارة قال: «سمعت أبا عبد الله يقول: إن للقائم – عليه السلام – غيبة قبل أن يقوم، قلت: ولم؟ قال: إنه يخاف – وأومأ بيده إلى بطنه – يعني القتل»[54].
وأكد ذلك شيخ الطائفة الطوسي بقوله: «لا علة تمنع من ظهوره إلا خوفه على نفسه من القتل، لأنه لو كان غير ذلك لما ساغ له الاستتار وكان يتحمل المشاق والأذى، فإن منازل الأئمة وكذلك الأنبياء – عليهم السلام – إنما تعظم لتحملهم المشاق العظيمة في ذات الله تعالى»[55].
ولكن هذا التعليل للغيبة الذي يؤكده شيخ الطائفة لا يتصور في حق الأئمة – على ما يعتقد الشيعة – لأن الأئمة «يعلمون متى يموتون، ولا يموتون إلا باختيار منهم»، كما أثبت ذلك الكليني في «الكافي» في روايات عديدة، وبوب لها بهذا اللفظ المذكور[56]، وأثبت ذلك المجلسي في «بحار الأنوار» وبوب له بلفظ: «أنهم – عليهم السلام – يعلمون متى يموتون، وأنه لا يقع ذلك إلا باختيارهم»[57]. فكيف يخرجون من هذا التناقض؟!
كما أن الأئمة – على حد ما يعتقد الشيعة – «يعلمون ما كان وما يكون ولا يخفى عليهم الشيء»، كما قرر ذلك الكليني في باب يحمل العنوان المذكور[58]، فبوسعهم أن يحترزوا من الخطر بما لا يخطر على بال أحد، ومظاهر التناقض وصوره في هذه النحلة أكثر من أن تحصر.
ولذلك سخر منهم رئيس المحاكم الإيرانية، العالم الخارج عن هذه النحلة الخرافية أحمد الكسروي، قائلاً: «إذا كان منتظرهم قد اختفى لخوفه على نفسه فلم لم يظهر عندما استولى آل بويه الشيعيون على بغداد، وصيروا خلفاء بني العباس طوع أمرهم؟ فلم لم يظهر عندما قام الزمان) ويعد نفسه وكيلاً عنه؟ وبعد، فلم لا يظهر اليوم وقد كمل عدد الشيعيين ستين مليوناً وأكثرهم من منتظريه؟!»[59].
ولو كان الكسروي حياً لقال: لم لم يظهر وقد قامت دولة الملالي في إيران وحكموا باسم النيابة عنه ونادوا بتصدير ثورتهم التي تقوم على أساس دعوى غيبته وأن بقاء حكمهم مرهون بخروجه من سردابه؟!
—————————————-
[1] «التفسير البسيط» (6/ 630) للواحدي.
[2] «منهاج السنة النبوية» (2/ 259).
[3] «منهاج السنة النبوية» (6/ 121).
[4] «منهاج السنة النبوية» (4/493).
[5] «منهاج السنة النبوية» (7/ 219).
[6] «الخطوط العريضة» (ص44-45).
[7] «منهاج السنة النبوية» (8/ 343).
[8] هو سليمان بن جرير الذي خرج من نحلة الرافضة وتبعه جماعة، واعتنق مذهب الزيدية، وتنسب له فرقة السليمانية أو الجريرية من الزيدية.
[9] الحقيقة أنه من افتراء الزنادقة ونسبتهم الأكاذيب إلى الأئمة علها تجد القبول، وأئمة أهل البيت من هذه الضلالات براء.
[10] انظر في معنى البداء: «أصول مذهب الشيعة» (2/937)، «مسألة التقريب» (1/344).
[11] «المقالات والفِرَق» للقمي (ص78)، «فرق الشيعة» للنوبختي (ص64-65)، وانظر في هذا المعنى: «محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين» للرازي (ص249).
[12] «مقدمة البحار» للبهبودي (ص19).
[13] «الاختصاص» (ص329-330)، «بحار الأنوار» (23/185).
[14] «تهذيب الأحكام» (1/2-3).
[15] انظر: «شرح عقائد الصدوق» للمفيد (ص261) (ملحق بكتاب أوائل المقالات).
[16] «الكافي» (2/217).
[17] «الكافي» (2/218).
[18] «الكافي» (2/217).
[19] المصدر السابق (2/219).
[20] المصدر السابق (2/220)، والبرانية: العلانية، والجوانية: السر والباطن. «هامش الكافي» (2/220- 221).
[21] «الكافي» (2/217- 221).
[22] ولهذا قرر شيخهم صاحب الحدائق أنهم – بسبب التقية – لا يعلمون من أحكام دينهم إلا القليل، حيث قال: «فلم لم من أحكام الدين على اليقين إلا القليل لامتزاج أخباره بأخبار التقية كما قد اعترف بذلك ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني حتى إنه تخطأ العمل بالترجيحات المروية عند تعارض الأخبار والتجأ إلى مجرد الرد والتسليم للأئمة الأبرار» [الحدائق/ يوسف البواني: 1/5].
[23] انظر: باب التقية في «أصول الكافي» (2/217) وراجع مبحث التقية فيما سبق، وقد ورد في دواوينهم المعتبرة أحاديث في مدح الصحابة، وفي مدح علي t لعمر، كما وردت نصوص في تحريم المتعة وفي غسل الرجلين وأن عليّاً غسل رجليه إلخ. وهذه كلها تختلف مع أُصولها ولهذا حملوها على التقية بلا دليل، ومن يراجع على سبيل المثال كتاب «التهذيب» أو «الاستبصار» ـ كلاهما للطوسي ـ يرى أحاديث كثيرة خالفت أُصولهم ولم يجد الطوسي لها تأويلاً غير حملها على التقية.
[24] «الوافي» المقدمة (ص9).
[25] برغم أن المشهور عن اليهود أنهم ينكرون النسخ لأنه يستلزم البداء. انظر: «مسائل الإمامة»: ص75 و«مناهل العرفان»: (2/78). ومع ذلك فقد جاء في التوراة: «ورأى الرب أن شر الناس قد كثر على الأرض، وأن كل تصور أفكار قلوبهم إنما هو شر في جميع الأيام. فندم الرب أنه عمل الإنسان على الأرض وتأسف في قلبه، فقال الرب: أمحو الإنسان الذي خلقت عن وجه الأرض، الإنسان مع البهائم والدبابات وطير السماء لأني ندمت على خلقي لهم». «الكتاب المقدس» الفصل السادس من تكوين التوراة (ص12).
[26] الملطي: «التنبيه والرد» (ص19).
[27] المختار ابن أبي عبيد بن مسعود بن عمرو الثقفي، تنسب له طائفة الكيسانية من الشيعة، وهو الذي قام للأخذ بثأر الحسين، وادعى إمامة محمد بن الحنفية، وشاعت في الناس أخبار عنه بأنه ادعى النبوة ونزول الوحي عليه وأنه كان لا يوقف له على مذهب.. قتل عام 67هـ. «البداية والنهاية»: (8/289) وما بعدها، «الفرق بين الفرق» (ص 38)، «الأعلام» للزركلي (8/70).
[28] انظر بعض أخباره في هذا في «الملل والنحل» (1/149).
[29] «الكافي»، كتاب التوحيد، باب البداء (1/146).
[30] المصدر السابق (1/148).
[31] المصدر السابق (1/148).
[32] المصدر السابق (1/146- 149).
[33] «البحار» (4/92- 129).
[34] انظر أمثلة كثيرة لذلك في «كتابي أصول مذهب الشيعة».
[35] «تنقيح المقال» (1/211).
[36] «الكفاية» (ص49).
[37] «التشيع والشيعة» (ص66).
[38] «بحار الأنوار» (100/126).
[39] ابن بابويه «علل الشرائع» (ص283)، «بحار الأنوار» (100/126).
[40] «بحار الأنوار» (100/126).
[41] «بحار الأنوار» (101/369).
[42] ابن بابويه «علل الشرائع» (ص358)، «بحار الأنوار» (100/128).
[43] «من لا يحضره الفقيه» (1/57)، «وسائل الشيعة»(3/455).
[44] انظر: «وسائل الشيعة» (3/227)، وانظر في بطلان الصلاة إلى غير القبلة عندهم: «من لا يحضره الفقيه» (1/79،122)، و«تهذيب الأحكام» (1/146، 178، 192، 218)، و«فروع الكافي» (1/83).
[45] أي أنها قبلة – في مذهبهم – من جهة واحدة، وليست كالكعبة قبلة من كل الجهات، وليس ذلك لأفضلية الكعبة عندهم، ولكن خشية التقدم على الضريح كما يشير إليه خبر مماثل مروي عن مهديهم المعدوم (انظر: الاحتجاج للطبرسي: 2/ 312 ط. النجف، بحار الأنوار: 100/ 128).
[46] «بحار الأنوار» (100/ 128).
[47] «بحار الأنوار» (101/369).
[48] «بحار الأنوار» (101/369-370).
[49] «بحار الأنوار» (100/135).
[50] «بحار الأنوار» (100/134).
[51] «بحار الأنوار» (101/ 107).
[52] «التشيع والشيعة» (ص89).
[53] «التوحيد» (ص334)، «أصول الكافي» (1/148) رقم (10)، وانظر قريباً من هذا المعنى رواية أخرى في «الكافي» (1/148) رقم (9).
[54] «أصول الكافي» 1)/338)، «الغيبة للنعماني» (ص(118، «إكمال الدين» (ص449).
[55] «الغيبة للطوسي»، فصل في ذكر العلة المانعة لصاحب الأمر من الظهور (ص(199.
[56] «أصول الكافي» (1/(258.
[57] «بحار الأنوار» (27/285).
[58] «أصول الكافي» (1/260).
[59] «التشيع والشيعة» (ص42).
*المصدر : مجلة البيان