مقالات

تجسيد الأنبياء في ميزان المصالح الشرعية

بقلم إدريس أبيدمي أحمد

اتفقت فتاوى العلماء من القرن الماضي على مستوى أفراد ومنظمات وهيئات ومجمعات فقهية على تحريم تمثيل الأنبياء والرسل لقداسة مكانتهم وعظم فضلهم وكرمهم عند الله، فإن (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) ، ورغم ذلك تصر إيران على مخالفة هذا الأمر المجمع عليه ويناقض مقتضى اصطفاء الله للملائكة والانبياء بالرسالة والشريعة، وتستفز حفيظة المسلمين بالفيلم المزعوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن جانب آخر نرى حيال هذا الموقف الإيراني بعض فئات من المسلمين يذكر أن هذا المسلسل التمثيلي يساعد في نشر ثقافة الإسلام، والوعي الديني، والرد على الغرب في إساءتهم لرسولنا صلى الله عليه وسلم، ولكن القداسة التي بوأها الأنبياء في عقيدتنا تطرح علينا تساؤلات متعددة، هل تمثيل النبي صلى الله عليه وسلم فعلا يحقق مصلحة ؟ وأي نوع من المصلحة يحقق ؟ وهل التمثيل المسرحي وغيره من أنواع الفنون المباحة ؟ وهل إباحة فن التمثيل تضفي جوازا على إنتاج هذا النوع من الفيلم ؟.

حين ننظر إلى التمثيليات بوصفها عملا فنيا من مجالات الفنون المتنوعة الموجودة ، ونعرضها على قاعدة المصالح والمفاسد فإنها تدخل بشكل عام في باب التحسينيات، فإن الشريعة مصالح كلها، وهي تتفاوت حسب الأحوال والذوات، منها ما هي ضرورية ، ومنها حاجية ، ومنها تحسينية، فالمصالح الضرورية هي التي يتحتم إيجادها لأن الحياة بدونها مستحيلة، لذلك يقال إنها قوام الحياة والدنيا والدين، وأما الحاجيات فهي المصالح التي لو فقدت تلحق المسلم المشقة والحرج ولكن لا يؤدي فقدانها إلى الهلاك، والتحسينيات وهي ثالثة الأثافي في قاعدة المصالح والمقصود بها ما يتعلق بمحاسن العادات والتوسع في المباحات.

وعامة الفنون ومنها التمثيليات لا يمكن أن تصنف في الضروريات ، لأن الحياة تبقى وتستقيم بها أو بدونها ، وهل رأينا أحدا قط أشرف على الموت كونه منع من حضور العرض السينمائي! أو أوشك على الهلاك لأنه حيل بينه وبين هواية الموسيقى ؟! كلا .. وكلا، اللهم إلا من أقوام وهم فئة قليلة أشربوا من هواهم وبالله المستعان!.

وهل يسوغ لنا أن نخرج الفنون من باب الحاجيات التي إذا فقدت عسرت الحياة ، وتقع بدونها المشقة التي توجب الترخص الشرعي للمسلم، امتثالا بقوله سبحانه ” ما جعل الله عليكم في الدين من حرج”! وهذه المصلحة مثل سابقتها لم نر من أحد وضعه سوي اشتكى المشقة والتعب النفسي حين لم يجد غذاءه اليومي من الطرب واللعب على جيتار!.

يبقى أمامنا خيار واحد وهو النظر إلى الفنون في باب التحسينيات، وقد تقدم أنها التوسع في المباحات، وهي بمثابة الزائدات على الضروريات والحاجيات، فإن المصلحة التي تجلبها الفنون تحسينية لأن الشرع يقر بها بشكل عام ، ووجد لها التحذير كذلك من الافتتان والانشغال بها عن الواجبات الضرورية ، لهذا يلزم أن تكون المصلحة الحاصلة من التحسينيات -من حيث كونها جائزة- خادمة للضروريات والحاجيات، ولا يجوز أن تعارضهما، مثال ذلك من أكل حتى أتخم فاقعده ذلك عن الذكر وعن الصلاة، فإن المباح في حالته عارض ما هو أولى منه! ومثله من اجتهد في ركعات الليل فأرهقته عن القيام لفريضة الفجر!.

وإذا اختل القيام بأي نوع من الفنون بشيء من ضروريات الحياة فإنه يمنع ، وهذا ما يوحيه قوله تعالى: “رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله” ! وما ذكرناه هو ما عبر عنه العلامة الشاطبي حين قال: يلزم من اختلال الضروريات اختلال الحاجيات والتحسينيات، فإن الضروريات هي الأصل، والباقيان فرع لها. لذلك لا يمكن أن يعتنى بالفن على حساب ما هو ضرورية ، وهو الإبقاء على قدسية الأنبياء.

وحين نتحدث عن المصالح لا يغيب عنا أن المقصود بها المصالح الشرعية وهي التي تكون منافعها خالصة غير مشوبة بشيء من المفاسد لا قليلا ولا كثيرا ، واقعية أو متوقعة ولو توهما، مثال ذلك قوله تعالى “يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا “، ومنفعة الخمر والميسر المذكورة دنيوية محدودة، وهي غير معتبرة لما ثبت فيهما من التحريم.

ننظر على وفاق ما تقدم نازلة تمثيل الرسول صلى الله عليه وسلم في المسلسلات المزعومة فإن التمثيل كعمل فني يعتبر تقمص دور الآخرين وحالتهم ، أو محاكاتهم للتاثير في المشاهدين ، وهو سلاح ذو حدين ، يجلب النفع والضرر في آن واحد ، تلابسه المحامد والمثالب ، حسب الأدوار المعروضة وأداء القائمين بها ، ناهيك عن استنادهم أحيانا إلى روايات مختلقة – متعمدا – للإساءة إلى شخصية الممثل به ، وكم من شخصيات تاريخية أسيئت إلى سيرتهم الحافلة بهذه الأفلام التمثيلية.

ولو أردنا ان نجيز فن التمثيل كوسيلة مباحة لبعض منافعه فلا بد ان نضع له بعض ضوابط محددة منعا للتوصل به إلى مفاسد أكبر من منافعه ، يقول د. أحمد الريسوني: لا بد من النظر إلى القصد، ولا بد من النظر إلى النتيجة النهائية ودرجتها في الفساد والضرر او الصلاح والنفع، ولا بد من النتائج الجانبية أيضا ودرجتها وهذه عادة ما تهمل!.

وأما التمثيل بالرسول صلى الله عليه وسلم بشكل خاص فإن مفاسده أكثر من مصالحه، فإن شخصيته هو وسائر الأنبياء صلوات الله عليهم ليست موضع الترفه والتسلية، والتشبه والمحاكاة ، أو إثارة الجدل والمناقشة ، بل إن تجسيدهم بالتمثيل يهدم معنى الاصطفاء الإلهي للأنبياء في الآية “اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ”، ونوافق ابن عاشور حين قال : إن المحيط علمه بالأشياء هو الذي يختص بالاصطفاء. وليس لأهل العقول ما بلغت بهم عقولهم من الفطنة والاختيار أن يطلعوا على خفايا الأمور فيصطفوا للمقامات العليا من قد تخفى عنهم نقائصهم!.

المصدر: اسلام أون لاين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى