بقلم الشيخ وليد بن فهد الودعان
نبين هنا تقسيمًا للاجتهاد، نص عليه الشَّاطبي ووضحه، وهو تقسيمه من حيث الاعتبار وعدمه، والاعتبار بمعنى الاعتداد بالشيء، يقال: اعتبرت بكذا؛ أي: اعتددت به، ويأتي الاعتبار بمعنى الامتحان والاختبار[1]، وكلا المعنيين يوافقان المقصود هنا؛ فالاعتبار بالاجتهاد هو بمعنى الاعتداد به، ولا يكون الاعتداد بالاجتهاد إلا بعد امتحانه واختباره، ويكون ذلك بمعرفة موافقته للشريعة من مخالفته.
رأي الشَّاطبي:
قسم الشَّاطبي الاجتهاد الشرعي بهذا الاعتبار إلى قسمين:
القسم الأول: الاجتهاد المعتبر شرعًا.
القسم الثاني: الاجتهاد غير المعتبر شرعًا.
والقسم الأول، وهو الاجتهاد المعتبر شرعًا، عرَّفه الشَّاطبي: بأنه الصادر عن أهله الذين اضطلعوا بمعرفة ما يفتقر إليه الاجتهاد[2].
فهذا النوع موافق لقواعد الشريعة، جارٍ على مقاصدها.
أما القسم الثاني: فهو الاجتهاد غير المعتبر شرعًا، وقد عرفه الشَّاطبي: بأنه الصادر عمن ليس بعارف بما يفتقر إليه الاجتهاد[3].
ولما أن كان النوع الأول اتباعًا لأمر الله واهتداءً بصراطه المستقيم، كان النوع الآخر اقتفاءً للهوى، وخبطًا في عَماية، ورأيًا صادرًا بمجرد التشهِّي ومتابعة الأغراض؛ فهو والحقُّ ضدانِ، والله إنما أمر بالحكم بالحق، فقال سبحانه: ﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ﴾ [المائدة: 49]، وقال تعالى: ﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾[4] [ص: 26].
فاجتهاد المجتهِد بما يوافق هواه: اجتهاد غير معتبر شرعًا، ولا يخفى أن إطلاق الاجتهاد على هذا النوع من باب اللغة، وإلا فليس هو اجتهادًا شرعيًّا.
وهذا النوع من التقسيم موجود ضمنًا في كلام الأصوليين؛ فهم لا يخالفون الشَّاطبي في أن الاجتهاد المستوفي لشروطه محل اعتبار؛ ولذلك أطلق عليه بعضُ الأصوليين الاجتهادَ التام[5]، ولم يرتبوا هذه الأحكام الكثيرة على الاجتهاد إلا لاعتبارهم به، ولأجل هذا أيضًا قرر العلماء جانب مراعاة الخلاف، بل جعل الزركشي مراعاة الخلاف نابعًا من القول بالتخطئة، ومن المعلوم أن الجمهور هم القائلون بالتخطئة[6].
كما أنهم موافقون للشاطبي في أن من الاجتهاد ما لا يعتبر؛ ولذا أطلق بعضهم على هذا النوع من الاجتهاد: الاجتهاد الناقص[7]، ولم يدرجوه ضمن الاجتهاد الشرعي، بل أخرجوه منه، وهذا يفيد عدم اعتبارهم بهذا النوع من الاجتهاد.
وقد صرح الأصوليون بعدم اعتبار أنواع من الاجتهاد؛ كالاجتهاد المقابل للنص أو الإجماع، أو الواقع ممن لا تتوفر فيه شروط الاجتهاد؛ كالعامي، أو الاجتهاد الذي قصَّر فيه صاحبه عن بلوغ منتهى الوسع[8].
وبهذا يُعرَف أن الأصوليين موافقون للشاطبي في هذا التقسيم، ولكني – حسب تتبعي – لم أرَ أحدًا من الأصوليين – عدا المحدَثين[9]- أظهر هذا التقسيم بالصورة الواضحة كما وضحه الشَّاطبي هنا، وإنما كان اعتبارهم بهذا التقسيم اعتبارًا ضمنيًّا كما سبق، فيكون الشَّاطبي أيضًا متميزًا بإظهار هذا التقسيم وإبرازه.
——————————————-
[1] انظر: المصباح المنير (2/ 390) مادة: “عبر”.
[2]الموافقات (5/ 131).
[3] الموافقات (5/ 131).
[4] وانظر: الموافقات (5/ 131).
[5] انظر: المستصفى (2/ 350) روضة الناظر (2/ 345) شرح مختصر الروضة (3/ 576) وأشار إليه في الإحكام (4/ 16) والتقرير والتحبير (3/ 291).
[6] انظر: البحر المحيط (6/ 265).
[7] انظر: شرح مختصر الروضة (3/ 576) وسماه في الإحكام (4/ 162) والتقرير والتحبير (3/ 291) اجتهاد المقصر، ويُفهَم هذا القسم من المستصفى (2/ 350) روضة الناظر (2/ 345).
[8] انظر: ما سبق (ص 147).
[9] فقد نقله بعضهم عن الشاطبي؛ انظر: الاجتهاد لمحمد سلام مدكور (46).
المصدر: شبكة الألوكة.