تقديم وتعريف بكتاب: منهج ابن تيمية في مسألة التكفير
التكفير باب خطير، زلّت فيه الأقدام, وضلّت فيه الأفهام، وتجرّأ على خوض غماره أشخاص لا علم لهم ولا وَرَع، فأطلقوا ألسنتهم بالتكفير دون حجّة من كتاب أو سنّة، ومن غير بيّنة أو تثبّت، فأوقعوا شرًا عظيمًا، وزادوا في تفرّق الأمّة، وأحدثوا فتنًا كبيرة سُفكت فيها الدماء وسُلبت الأموال وقُطّعت الأرحام.
لكنّ أهل العلم يعلمون أنّ التكفير من الأحكام الشرعية التي مردّها إلى الكتاب والسنة، فيتثبّتون فيه غاية التثبت، فلا يُكفّرون ولا يُفسّقون إلا من دلّ الكتاب والسنة على كفره أو فسقه، قال ابن تيمية رحمه الله: “الكفر حكم شرعي متلقىً عن صاحب الشريعة، والعقل قد يُعلم به صواب القول وخطؤه، وليس كل ما كان خطأً في العقل يكون كفرًا في الشرع”[ 1 ].
وقال أيضًا: “فإنّ الكفر والفسق أحكام شرعية، ليس ذلك من الأحكام التي يستقل بها العقل، فالكافر مَن جعله الله ورسوله كافرًا، والفاسق من جعله الله ورسوله فاسقًا، كما أنّ المؤمن والمسلم من جعله الله ورسوله مؤمنًا ومسلمًا”[ 2 ].
وقال أيضًا: “وليس لأحد أن يكفّر أحدًا من المسلمين وإن أخطأ وغلط، حتّى تقام عليه الحجّة وتبيّن له المحجّة، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجّة وإزالة الشبهة”[ 3 ].
وهذا الذي قرّره ابن تيمية رحمه الله هو ما عليه أهل السنّة والجماعة، وقد سار -رحمه الله- في التكفير على هذا المنهج، فقال: “هذا مع أنّي دائمًا -ومَنْ جالسني يعلم ذلك منّي- أنّي من أعظم الناس نهيًا عن أن يُنسب مُعَيَّنٌ إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا عُلِم أنّه قد قامت عليه الحجّة الرسالية التي من خالفها كان كافرًا تارة وفاسقًا أخرى وعاصيًا أخرى، وإنّي أقرّر أنّ الله قد غفر لهذه الأمّة خطأها، وذلك يعمّ الخطأ في المسائل الخبرية القولية، والمسائل العملية، وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل، ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا معصية”[ 4 ].
وقال أيضًا: “ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن يكون الله -تعالى- فوق العرش لمّا وقعت محنتهم: أنْ لو وافقتُكم كنت كافراً، لأنّي أعلم أنّ قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون، لأنّكم جُهّال! وكان هذا خطابًا لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم”[ 5 ].
بل اتّبع شيخ الإسلام -رحمه الله- هذا المنهج حتى مع خصومه الذين كفّروه، كالبكري الذي كفّره، وأرسل للسلطان يحرّضه على قتله بتهمة الردّة، ومع ذلك لم يكفّره ابن تيمية، بل قال فيه: “فلهذا لم يُقابل جهلُه وافتراؤه بالتكفير بمثله، كما لو شهد شخص بالزور على شخص، أو قذفه بالفاحشة كذبًا عليه، لم يكن له أن يشهد عليه بالزور ولا أن يقذفه بالفاحشة، وقد كفانا ذلك شيخُه وغيره من الناس، فبيّنوا من ضلاله وجهله ما ذكروه وذمّوه وعابوه وتنقصوه به، كما هو معروف عن شيخه الجزري وغيره من أهل العلم”[ 6 ].
بل ذهب ابن تيمية أبعد من ذلك، فكان يلتمس العذر لمن خالفوه وآذوه وكفّروه، ففي قصّة طويلة ذكرها الحافظ ابن عبدالهادي -رحمه الله- ملخّصها: أنّ قومًا ضربوا شيخ الإسلام وكادوا يقتلونه لرأي يقول به، فانتصر له جماعة من مؤيديه، “وقال له بعضهم: يا سيدي قد جاء خلقٌ من الحسينية ولو أمرتهم أن يهدموا مصر كلها لفعلوا، فقال لهم الشيخ: لأيّ شيء؟ قال: لأجلك، فقال لهم: هذا ما يحقّ! فقالوا: نحن نذهب إلى بيوت هؤلاء الذين آذوك فنقتلهم ونخرّب دورهم فإنّهم شوشوا على الخلق وأثاروا هذه الفتنة على الناس، فقال لهم: هذا ما يحل! قالوا: فهذا الذي قد فعلوه معك يحل؟! هذا شيء لا نصبر عليه، ولا بد أن نروح إليهم ونقاتلهم على ما فعلوا. والشيخ ينهاهم ويزجرهم.
فلما أكثروا في القول قال لهم: إمّا أن يكون الحقّ لي، أو لكم، أو لله، فإن كان الحقّ لي فهُمْ في حلٍّ منه، وإن كان لكم فإن لم تسمعوا مني ولا تستفتوني فافعلوا ما شئتم، وإن كان الحقّ لله فالله يأخذ حقه إن شاء كما يشاء.
قالوا فهذا الذي فعلوه معك هو حلال لهم؟
قال: هذا الذي فعلوه قد يكونون مثابين عليه مأجورين فيه!!
قالوا: فتكون أنت على الباطل وهم على الحق! فإذا كنت تقول: إنّهم مأجورين، فاسمع منهم ووافقهم على قولهم!
فقال لهم: ما الأمر كما تزعمون، فإنّهم قد يكونون مجتهدين مخطئين، ففعلوا ذلك باجتهادهم، والمجتهد المخطئ له أجر” !!!
قال الحافظ ابن عبدالهادي في آخر القصّة: “فدخل الجامع … فصلى العصر ثم افتتح بقراءة {الحمد لله رب العالمين}، ثمّ تكلّم في المسألة التي كانت الفتنة بسببها إلى أذان المغرب، فخرج أتباع خصومه وهم يقولون: والله لقد كنّا غالطين في هذا الرجل لقيامنا عليه، والله إنّ الذي يقوله هذا هو الحق، ولو تكلّم هذا بغير الحق لم نمهله إلى أن يسكت، بل كنّا نبادر إلى قتله، ولو كان هذا يُبطن خلاف ما يُظهر لم يَخْفَ علينا، وصاروا فرقتين يخاصم بعضهم بعضًا”[ 7 ].
وخلاصة الأمر: أنّ شيخ الإسلام ابن تيمية على المنهج الحق في التكفير والتفسيق والتبديع، يتّبع في ذلك هدي الكتاب والسنّة، ويعمل بعمل سلف الأمّة، ويوافقه على ذلك أئمة الهدى من الذين عاصروه والذين جاؤوا من بعده. وصدق الشيخ محمد أبو زهرة -رحمه الله- عندما قال عنه: “ولقد أدته بحوثه ودراساته للثروة الفقهية والعقلية التي كانت بين يديه ميراثًا عن الأسلاف، إلى أن يجعل من نفسه حاكمًا على مُتِخِالفِها، قاضيًا في الآراء المختلفة في قضاياها، ولقد سار في الحكم عليها سير القاضي العادل، تسيّره المقدمات ولا يسيّرها، وتوجّهه البينات ولا يوجّهها. وما كانت بيّناته إلّا كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وآثار الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وما كان منهاجه إلا منهاجهم في أقضيتهم وأحكامهم، وما يجده مخالفًا لها جاهر ببطلانه أيًّا كان قائله، ومهما يكن ناصره، فتحرّكت بذلك الطوائف المعتنقة لهذه الآراء التي يهدمها لمنازلته ومناهضته ورميه بالشطط ومجاوزة الحدّ”[ 8 ].
إذن: فشيخ الإسلام -رحمه الله- بريء مما يفعله بعض أهل الأهواء والمتعالمين الذين يتناقلون أجزاء من كلامه ليجعلوه مؤيدًا لاعتقاداتهم، فيظهرونه كأنّه على منهجهم في الغلو والتكفير.
وهو بريء أيضًا من التهم التي ألصقها به بعض الجهلة الحاقدين الذين زعموا أنه تكفيري، أو أنّه متناقض في التكفير، وأفضلهم حالًا الذي زعم أنّه رجع في آخر حياته عن تخبّطه ذلك!
ولبيان منهجه -رحمه الله- في التكفير، ودفع التهم الباطلة عنه، كان تأليف هذا الكتاب الذي بين أيدينا.
معلومات الكتاب:
عنوان الكتاب: منهج ابن تيمية في مسألة التكفير.
مؤلفه: د. عبد المجيد بن سالم بن عبد الله المشعبي.
عدد المجلدات: الكتاب يقع في مجلدين (تم دمجهما في ملف واحد)
الناشر: أضواء السلف
سنة النشر: 1418 – 1997
رقم الطبعة: الأولى
عدد الصفحات: 599
حالة الفهرسة: مفهرس على العناوين الرئيسية
أصل الكتاب: رسالة علمية
محتويات الكتاب:
المقدّمة: وتشمل خطة البحث وترجمة موجزة لشيخ الإسلام ابن تيمية.
التمهيد: يشمل تعريف الردّة، والأحكام المتعلّقة بالمرتدّ.
الباب الأول: إطلاق الكفر على ما دلّ الكتاب والسنة على أنّه كفر.
ويشمل ثلاثة فصول:
الفصل الأول: تحذير شيخ الإسلام من التكفير بغير دليل شرعي ولا علم.
الفصل الثاني: بيان شيخ الإسلام للأفعال والأقوال المكفّرة.
وفيه ثمانية مباحث:
المبحث الأوّل: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوها.
المبحث الثاني: تارك أركان الإسلام بالكلّية.
المبحث الثالث: ردّ شرع الله أو ردّ بعضه.
ويشتمل على ثلاثة أمور:
الأول: كفر من ردّ ما ثبت بالكتاب والسنّة.
الثاني: كفر من خالف الإجماع أو المتواتر.
الثالث: كفر من أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة.
المبحث الرابع: سبّ الله أو الاستهزاء به أو بآياته أو سبّ أحد أنبيائه، أو الاستهزاء بأحد منهم، أو تكفيره.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: كفر من سبّ الله تعالى أو استهزأ بآياته.
المطلب الثاني: كفر من سبّ أحد الأنبياء أو استهزأ به أكفّره.
المبحث الخامس: استحلال الحكم بغير ما أنزل الله.
المبحث السادس: نفي صفات الله وأسمائه، أو تشبيه الله بخلقه، أو وصف غير الله بصفة لا تكون إلا لله.
المبحث السابع: ما يكفّر من علاقة المسلمين بالكافرين
وفيه ثلاث مسائل:
الأولى: التشبّه بالكفار مطلقًا.
الثانية: عدم تكفير اليهود والنصارى أو الشك في كفرهم، أو تسويغ اتباع دينهم.
الثالثة: موالاة الكفار ولاءً مطلقًا.
المبحث الثامن: استحلال قتل المسلم أو قتله من أجل إسلامه.
الفصل الثالث: لا يكفّر شيخ الإسلام مرتكب الكبيرة ما دون الشرك.
الباب الثاني: ضوابط تكفير المعين.
ويشتمل على ثلاثة فصول:
الفصل الأول: التفريق بين التكفير المطلق وتكفير المعيّن.
الفصل الثاني: شروط تكفير المعيّن.
الفصل الثالث: موانع تكفير المعيّن وما يمحوه.
وتنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: موانع إلحاق التكفير بالمعيّن.
القسم الثاني: ما يمحو الكفر بعد ثبوته على المعيّن.
المجلد الثاني
الباب الثالث: موقف شيخ الإسلام من تكفير الفرق.
وفيه فصول:
الفصل الأول: حكم المعين من أهل البدع.
الفصل الثاني: الفرق التي لا يكفّرها شيخ الإسلام.
ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: حكم شيخ الإسلام على الثنتين والسبعين فرقة عمومًا.
المبحث الثاني: حكم شيخ الإسلام على آحاد فرق أهل البدع.
ويشتمل على مطالب:
- المطلب الأول: حكمه على الخوارج.
- المطلب الثاني: حكمه على الشيعة المفضّلة.
- المطلب الثالث: حكمه على المرجئة.
- المطلب الرابع: حكمه على القدرية.
- المطلب الخامس: حكمه على المعتزلة.
- المطلب السادس: حكمه على الكلابية.
- المطلب السابع: حكمه على الأشاعرة.
الفصل الثالث: الفرق التي يكفرها شيخ الإسلام.
وفيه مباحث:
المبحث الأول: تكفير الفلاسفة.
المبحث الثاني: تكفير الجهمية.
المبحث الثالث: تكفير الباطنية.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكمه على طوائف الباطنية، وبيان أسباب تكفيرهم.
المطلب الثاني: بيانه لطوائف الباطنية، وكفريات كل طائفة منهم.
وفيه فرعان:
- الأول: باطنية المتصوفة، أصحاب وحدة الوجود.
- الثاني: باطنية الشيعة.
- وفيه مسائل:
- الأولى: كفريات الإسماعيلية.
- الثانية: كفريات النصيرية.
- الثالثة: كفريات الرافضة.
المبحث الخامس: الطوائف التي تكفّر من القدرية.
الباب الرابع: موقف شيخ الإسلام من الفرق المفرِّطة في التكفير والمفرّطة فيه.
وفيه فصلان:
الفصل الأول: موقفه من إفراط الفرق في التكفير.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: عرضه أسباب إفراط الفرق في التكفير.
المبحث الثاني: ردّه على إفراط الفرق في التكفير.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: ردّه على إفراط الخوارج والمعتزلة في التكفير.
المطلب الثاني: ردّه على إفراط الرافضة في التكفير.
الفصل الثاني: موقفه من التفريط في التكفير.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: بيان شيخ الإسلام أسباب التفريط في التكفير.
المبحث الثاني: ردّه شيخ الإسلام على تفريط المرجئة في التكفير.
الخاتمة: وتتضمن أهم النتائج.