الكتاب الذي بين أيدينا هو أحد أهم مؤلفات الشيخ راشد الغنوشي، صدرت الطبعة الاولى له عن دار الراية للتنمية الفكرية، سنة 1426هـ-2005 م، تحت عنوان “المرأة بين القرآن الكريم وواقع المسلمين”.
يقع الكتاب في 219 صفحة، ويتضمن قسمين كبيرين شاملين وخلاصة. خصّص الكاتب القسم الأول منهما لموضوع “المرأة في القرآن الكريم”، وحاول فيه تصحيح فهوم خاطئة لمجموعة من النصوص القرآنية التي ساهمت في نظره في التنقيص من صورة المرأة ومكانتها، وقد عمد في هذا القسم إلى كشف بعض المغالطات من خلال معالجة موضوعات فرعية وزعها على خمس حلقات.
في أولى هذه الحلقات، وقف الكاتب عند مسألة الأصل الواحد للإنسان كما ورد في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء﴾ (النساء 1) ففي هذه الآية عرض الشيخ راشد الغنوشي بعض أقوال المفسرين في معنى النفس الواحدة، ورجّح منها قول من يرى أن المراد من هذه النفس هو الماهية أو الحقيقة التي كان بها الإنسان إنسانا، ونفى أن يكون المراد من خلق حواء من ضلع هو الدلالة على أنه ضلع آدم، فمسألة خلق آدم و”حواء” وتفاصيلها تدل على وجود تماثل يشير إلى استقلال شخصية المرأة التي حملت مسئولية وجودها ومصيرها كاملا، ولا مجال في نظره للقول بخلق حواء من ضلع زوجها، كون ذلك يقتضي التنافي مع مقررات مقاصد الشريعة ويكرس تبعية المرأة للرجل وأفضليته.
بعد هذا التوضيح انتقل الكاتب في الحلقة الثانية إلى قوله تعالى: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾ (البقرة 35)، فقارن بين ما جاء في قصة الخلق الأولى والدخول إلى الجنة في التوراة، وبين ما ورد في القرآن بشأن ذلك، وأبرز أن القرآن جعل من المرأة مخاطبا كفئا للتلقي عن ربها على قدم المساواة مع زوجها، لأن استعدادها كاستعداد الرجل في جميع الشؤون البشرية ولا اعتداد بما يخالف مبدأ المساواة هذا، وأما ذاك الذي تقرّر في الأذهان نتيجة التصورات الخاطئة عن المرأة وقضاياها فمصدره الإسرائيليات التي نفذت إلى التفسير حتى غدا موقع هذه الأفكار في التفسير مدعاة وأداة لتحقير المرأة.
وعلى سبيل توضيح هذه الفكرة عمد الشيخ راشد في الحلقة الثالثة إلى بعض النصوص التي تنطوي على فهوم خاطئة ومنها قوله تعالى:
﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى﴾ (آل عمران 36) فهذه الآيات الشيخ راشد الغنوشي تُجتزأ من سياقها للإيهام بأهمية الذكر على الأنثى، بيد أنها وردت في سياق تكريم المرأة، فما كان الرد الإلهي على قول امرأة عمران إلا لبيان أن الله تعالى أعلم بالمولود الذي وضعت، وأدرى بما هو مهيأ له في الغيب، وكذا لبيان أنها لو علمت لاستيقنت أن الله تعالى سيحقق عن طريق هذه الأنثى ما كانت تتمناه بأحسن وجه وأرضى طريق.
وفيما يشبه أسلوب الحجاج، أكّد الشيخ راشد أن قضية نبوة مريم ونبوة النساء هي من صميم نظرية التساوي بين الذكور والإناث، واستدل لذلك بما ذهب إليه الإمام ابن عاشور حين نبّه إلى أن لفظ الرجال الوارد في قوله تعالى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم ﴾ (يوسف 109) إنما يراد به الدلالة على النوع الإنساني لا على جنس الذكور، والله تعالى أرسل ملائكته إلى نساء فأخبروهن بوحي حق من الله عز وجل.
خلاصة قول الشيخ راشد الغنوشي أن قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى﴾ لا تعني مطلقا تفضيل الذكر على الأنثى، وإنما تحمل معنى الاختصاص أو معنى التسرية عن امرأة عمران، كما يقول صاحب الظلال- لأنها ولدت أنثى لا تضطلع عادة بما نذرت إليه وليدها، وما عدا هذا فإن البنية الطبيعية للمرأة ليس فيها ما يحول بينها وبين بلوغ درجات الكمال الإنساني والتكريم الإلهي كالنبوة مثلا، لأن مجالات الترقي مفتوحة للجنسين على حد سواء.
في الحلقة الرابعة والتي أدارها حول محور الآية الكريمة: ﴿إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ (يوسف 28) بيّن الشيخ راشد الغنوشي أن من الكيد ما يحمد وما يذم، وأنه ليس نقيصة أو ذميمة في ذاته، لكونه ورد في القرآن الكريم منسوبا إلى الله وإلى الإنسان والشيطان وإلى الرجال والنساء، إلا أنه لم يُوفّ البيان حقه وهو يقرر هذه النتيجة، وظهر في تحليله كمن يستبق دون أن يفصل في الدلالات الاصطلاحية للكيد الوارد ذكره في مواضع مختلفة من القرآن الكريم، وهكذا قرّر أن وصف النساء بالكيد في الآية لم يكن حكما إلهيا قاطعا محدّدا للطبيعة الخاصة بالنساء، وإنما هو حكم نسبه عزيز مصر إلى جنس النساء تخفيفا من وقع فعلة زوجته وتهوينا لها، ونوع من التبرير لموقفها.
وقد أبرز الشيخ راشد الغنوشي بهذا الصدد أن الآيات التي تحدثت عن الطبيعة الإنسانية لم تميّز بين الذكر والأنثى في استعدادهم للخير والشر، وكل حصر لمنازع الشر في المرأة هو انحراف عن مبادئ الدين وتكريس لمنطق لا زال متفشيا في تراثنا وعاداتنا وتقاليدنا يحقر المرأة ويلصق بها كل ما هو وضيع ممتهن.
في الحلقة الخامسة والأخيرة من هذا القسم والتي حملت عنوان “حب النساء” انطلق الشيخ راشد الغنوشي من قوله تعالى:
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ (آل عمران 14)
ليبيّن أن حبّ النساء راسخ في قلوب الرجال رسوخا فطريا، ويؤدي دورا أساسيا في حفظ الحياة وامتدادها ورقيها، وأن الإسلام يقرّ هذا الحب ويضبطه وينظمه، وفي هذا السياق أورد الكاتب رأي بعض المفسرين وكذا علماء النفس الجنسي، وخلص إلى أن نصوصهم تكاد تتفق على إقرار الاختلاف بين طبيعة كل من الجنسين والتكامل بينهما، وعلى الإقرار بعمق الدافع الجنسي وقوة ميل كل من الجنسين إلى الآخر، وخلص إلى أن الحياة الجنسية في إطار الزواج ليست مجرد لذة عابرة بل هي تكامل وسكينة وتشارك “جهادي” لترقية الحياة وتطويرها نحو الوحدة والبذل والحرية.
أما القسم الثاني من الكتاب والذي تمحور حول “المرأة في واقع المسلمين” فقد شخّص فيه الشيخ راشد الغنوشي حال المرأة في الواقع المعاصر، حيث بدأ بتقديم صورة عن وضعية المرأة في عصر الانحطاط، وأكّد على أن المرأة في هذا العصر عانت من تضييق آفاقها بعزلها عن هموم المجتمع ومشاغله ثم أبرز الدور الاستعماري في الدعوة إلى تحرير المرأة من منظومة القيم الإسلامية، وذكر في هذا السياق أن المرأة الغربية بدورها عانت من الاستغلال الرأسمالي لجسدها، لكون الثورة التحررية التي قام بها الغرب لم تقم على منظومة قيمية تحميها من السقوط في براثن الاستغلال. ودون أن تغيب عنه معطيات الواقع التونسي، انتقد الكاتب تزكية النظام البورقيبي لدعوات الغرب التحررية، كما انتقد رد الفعل الإسلامي الذي وصفه بأنه عنيف وغير متبصر بحقيقة الدين الإسلامي.
وتحت عنوان “العمل النسائي في طريق التطور” تطرق الشيخ راشد الغنوشي إلى موقف الحركة الإسلامية في تونس من مجموعة قضايا تخص المرأة، فأوضح دور النساء في العمل الإسلامي وأكّد على ضرورة مراجعة مجموعة من المفاهيم ذات العلاقة بالمرأة ولزوم إعادة النظر في دلالاتها انطلاقا من النصوص الثابتة على اعتبار أن الصورة التي اتخذتها المرأة في بعض العصور الإسلامية لم تكن إلا تعبيرا عن ظروف سياسية واجتماعية خاصة عاشها المسلمون في أزمنة معينة، وحيث غابت هذه الظروف وتغيّرت الأحوال، كان لا بد أن يتم التحول إلى صورة تعبّر بأمانة عن النصوص الثابتة وتلبي مطالب المرحلة، والسبيل إلى ذلك يتوقف على إعادة تشكيل مفاهيم تعبّر عن كمال شخصية المرأة، ومن ذلك معالجة مفاهيم العمل والتعلم ومفهوم الاختلاط، وهي نماذج عَرض لبعض إشكالاتها في هذا المبحث، وحاول أن ينظّمها في نسق منسجم مع الرؤية الإسلامية البعيدة عن الإفراط والتفريط. وتجدر الإشارة هنا أن الكاتب أردف هذا المبحث بملحقين، ناقش في الأول منهما مفهوم القرار في البيوت، حيث بيّن دور المرأة “الداعية” في تثبيت ركائز المجتمع. وأوضح في الثاني مجموعة من العوائق التي تقف حجر عثرة في وجه “الأخوات المسلمات”.
وبعيدا عن هذه المفاهيم وتحت عنوان “حوار المرأة في ثانوية للبنات في تونس” سرد الشيخ راشد الغنوشي وقائع ندوة في موضوع “المرأة والإسلام” فأكّد وهو يناقش مضامين الندوة أن هذا الموضوع يُطرح في العادة بشكل خاطئ، فهو بحسبه موضوع في غاية الغموض والتعقيد لكونه لا ينزّل في المكان المناسب من الهيكل العام الذي انتُزع منه وهو الإسلام بما هو وحدة متكاملة ويمثل عضوية متفاعلة.
وفي سياق آخر ناقش ظاهرة التمزق الأسري في تونس وتطرق إلى الأسباب الكامنة وراء استفحال ظاهرة الطلاق، وذكر بالمناسبة أن مجلة الأحوال الشخصية (يقصد التونسية) وإن كانت قد حرّرت المرأة من مظالم عصور الانحطاط وأعادت إليها ثقتها بنفسها كإنسان مسئول مسئولية كاملة أو جزئية عن مصيرها، إلا أنها (المجلة) أثارت موجة من التغريب والثورة العمياء ضد كل تراثنا الفكري والثقافي والتشريعي، كما أبطنت رغبة دفينة في تقويض البناء الاجتماعي الموروث لاكتساب بطولة التجديد، ولذلك لم تكن مجلة الأحوال الشخصية التونسية ثمرة تطور ذاتي للمجتمع التونسي ولا تلبية لضغوط ومطالب إنسانية، بل جاءت ضمن الأجواء التغريبية للمجتمع والقضاء على ذاتيته.
ومحاولة منه لوضع المرأة أمام مسئولياتها الحقيقية أكّد الشيخ راشد الغنوشي على طبيعة خطاب التكليف الذي يستوي فيه الرجال والنساء كما تقرّر عند العلماء، فهو يقتضي حسب قوله تمكين المرأة من حقها بل من واجبها في المشاركة العامة في الحياة السياسية من خلال مطالب ثلاثة:
المطلب الأول يتعلق بالمشاركة العامة للمرأة في الحياة السياسية سيرا على ما جرت عليه أوضاعها زمن النبوة وكذا في عهد الخلافة الراشدة فتلك عصور شهدت للمرأة بتأصُّل مشاركتها إلى جانب الرجل في كافة ميادين الحياة وفي جميع الوقائع والأحداث، وهذا يدخل في مقتضى قوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ (التوبة 71) وقد قرّر الكاتب أن هذه الآية حسمت مشاركة المرأة في الدعوة بكل وسائلها الفردية والجماعية، وبكل أبعادها الفكرية والسياسية والأخلاقية.
وأما المطلب الثاني فيتعلق بمشاركة المرأة المسلمة في الحياة السياسية باعتبارها مرشحة وكيلة عن قومها، وهنا عرض الأقوال في المسألة وبسط أدلة كل من المؤيدين والمعارضين.
وفي المطلب الثالث وضّح الكاتب طبيعة الاختلاف الحاصل بين العلماء في الولاية العامة للمرأة.
وفي نهاية الكتاب قدّم الشيخ راشد الغنوشي خلاصة مفادها أنه على قدر ما تنمو مشاركة المرأة في الحياة العامة يزداد وعيها بالعالم وقدرتها على السيطرة عليه، وخلص إلى أنه لا سبيل إلى هذه الغاية دون إزالة العوائق الفكرية والعلمية عن طريق مشاركتها في الشؤون العامة والارتقاء بوعيها بالإسلام والعالم وبالثقة في قدراتها حتى تكون مساهمتها فعالة في صناعة جيل يخرج عن خُوَيصة نفسه لينخرط في الهموم العامة للأمة والإنسانية.
المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.