مقالاتمقالات مختارة

تفكيك منظومات الاستبداد (٥): شورى المستبد والإعلام الكاذب

تفكيك منظومات الاستبداد (٥): شورى المستبد والإعلام الكاذب

بقلم د. جاسر عودة

من الاستراتيجيات الفرعونية الأساسية أن يوصّف فرعون وحاشيته الواقع توصيفاً كاذباً، ويستخدمون شكلاً أو آخر من أشكال الإعلام لنشر هذا التوصيف الكاذب على الناس وتأييده بأكاذيب أخرى كثيرة حتى يجعلوا من الكذب حقيقة لا مراء فيها،

ثم بعد أن يصبح الكذب حقيقة يستشير المستبد وملؤه الناس: ماذا تأمرون؟ فقد طلب موسى من فرعون ببساطة أن يرسل معه بني إسرائيل خارج مصر وأن يكف عن قتلهم وتعذيبهم واستعبادهم. {وَقَالَ مُوسَىٰ يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ. حَقِيقٌ عَلَىٰ أَن لَّا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} الأعراف104-105

ولكن الثلاثي فرعون وهامان وقارون قرروا التمادي في الظلم والاستكبار عن قبول الحق أو التنازل عن منظومتهم الفرعونية السياسية والقارونية الاقتصادية والهامانية الدينية الفاسدة. {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُم مُّوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} العنكبوت39. بل ونلاحظ في هذه الآية أن الله تعالى بدأ بذكر قارون قبل فرعون وهامان، مما يدل على خطره ودوره الكبير في الاستكبار المذكور والدعم المادي للباطل، ولا يخفى دور المال والاستبداد الاقتصادي والمحتكرين الفاسدين في التحكم في وسائل النشر والإعلام كما ذكرنا من قبل.

ولكن في العصور القديمة كان النشر والإعلام عن طريق إرسال من ينادي في الناس في المدن والحواضر الكبرى بآخر الأخبار والتصريحات، ويجمعونهم أو يحشرونهم على فهم مشترك وتوصيف مشترك للواقع كما يريد المستبد. {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ *} الشعراء53-56. وهؤلاء الحاشرون أيضاً كانوا يجندون الأعوان ويوظفون القدرات من المدائن المختلفة في خدمة الاستبداد. {وأرسل في المدائن حاشرين*يأتوك بكل ساحر عليم*وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجراً إن كنّا نحن الغالبين* قال نعم وإنكم لمن المقربين} الأعراف.

وعمل فرعون مع الملأ بشكل لصيق وخاطبهم وأشاع باطله فيهم أولاً. قال مثلاً: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي}سورة القصص38. وبالتالي يتجاوب الملأ أو الحاشية على فرعون بتصور متكامل لعالم كاذب، عالم يصبح فيه المصلحون فاسدين بل ومفسدين لملة الناس. {وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} الأعراف 127

ثم يتحول الملأ للناس فيصورون لهم أيضاً أن الوطن أرضهم حكر على من يؤيد فرعون فقط وأن الآخرين لا ينتمون لهذا الوطن ولا هذه الأرض التي هي أرض من يؤيد المستبد فقط.{قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ. يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}. {قَالُوا إِنْ هَٰذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَىٰ} طه 63. {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ. يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} الشعراء34-35.

وبعد هذا التوصيف الباطل للحقائق يدعي فرعون أنه يترك القرار للملأ ويستشيرهم، ثم يدعي الملأ بدورهم أنهم يتركون القرار للناس ويستشيرونهم وأن الأمر أمر الناس: {مَاذَا تَأْمُرُونَ؟}، وما هو بأمر الناس ولا قرار الناس وما هي شورى ولا استشارة، وإنما الإشكال هو أصلاً في التوصيف الباطل للحقيقة والواقع مما يؤدي إلى قرار جماعي خاطئ أصلاً، قرار بالإقصاء والتهميش والقتل المعنوي لخصوم فرعون بحجة حماية الأرض والوطن.

ولكن فرعون والملأ لا يقتصرون على القتل المعنوي بل إذا سمحت موازين القوى لا يتورعون عن القتل الحقيقي نفسه، دون محاكمة ولا اتهام ولا دفاع. {وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ}القصص20. {وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}الأعراف 127.

ومن أجل تنفيذ القتل فالحاشية لها أعوان من القتلة المحترفين في كل عصر، والذين يعرفون في عصرنا بالشبيحة أو البلطجية أو البلاطجة أو الميليشيات أو الحشود، وما إليها من أسماء، والذين هم جزء من جنود الفرعون. {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ}. {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ. فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ}. وكل هذه الجرائم بدأت بدور فرعون والملأ والحاشرين في التوصيف الكاذب للواقع فأيدها الناس وباركوها. {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوه}. كان هذا دور (الملأ) و(الحاشرين) في قصة فرعون كما رواها القرآن، ولكن ما أشبه الليلة بالبارحة. ما أشبه المستبدين المعاصرين بالفراعين القدماء، وما أشبه قوارين وهوامين هذا العصر بقارون وهامان، وما أشبه الصفوة من المستشارين المزورين بالملأ من قوم فرعون، وما أشبه الإعلاميين الكاذبين في عصرنا بالحاشرين الكاذبين في مدائن فرعون.

(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى