مقالاتمقالات مختارة

تفكيك أدوات السلطة (3) .. الثروة

بقلم د. عمرو عادل

 

تحدثنا في المقالين السابقين عن حق المراقبة وحق العقاب كأدوات رئيسية في بنية السلطة لفرض سيطرتها واستعبادها للمجتمع؛ ونتحدث في هذا المقال عن الثروة كأحد أهم الأدوات التي تحاول السلطة السيطرة عليها لإخضاع المجتمع وتركيع أي قوة ناشئة تحاول الخلاص من الاستعباد التي تمارسه الدولة الاستبدادية.

لسنا بصدد الغرق في التعريفات المتعددة للثروة، إلا أنها ببساطة كل ما يملكه المجتمع من موارد وأصول وثروات طبيعية وبشرية، وتقوم الدولة بإدارة كل الثروات المتاحة لتحقيق أقصى عائد ممكن لصالح المالك الأصلي وهم أفراد المجتمع، وتستخدم كل إمكاناتها لتحقيق ذلك.

ومن الضروري أن نتفق على أمور رئيسية قبل الخوض في مسألة تفكيك سلطة الدولة المستبدة على الثروة، وأرى أن من لا يتفق مع هذه الأمور فلا داعي لإضاعة وقته في باقي المقال.

1- أن الثروة الموجودة في أي قطاع جغرافي ما هي ملك لجميع من في هذا القطاع.

2- أن القيمة المضافة التي تكتسبها أي سلعة هي نتيجة رأس المال والعمل معا.

3- أن جميع الأفراد لهم حق في المال العام وأن هناك حداً أدني يجب أن يحصل عليه الجميع، وجميع العاملين. لهم حق في المشاركة في القيمة المضافة.

4- أن الفقر مشكلة أخلاقية وليست اقتصادية.

الثروة أحد أهم عناصر القوة التي تملكها الدولة، ولهذا تحاول السيطرة على مصادر إنتاجها وتدفقها في المجتمع، وتستخدم القوانين واللوائح والقوة المادية لفرض سيطرتها على كافة مجالات إنتاج الثروة، وتتدخل في كل تفصيل وتسيطر على تدفقات النقد بالبنوك لمعرفة كل شيء قدر ما تستطيع.

قد يرى البعض أن ذلك جيد؛ إذ يمكن حماية الطرف الأضعف “المجتمع” باستخدام الدولة القوية، ربما يكون ذلك صحيحا؛ هذا إذا كان قدر طغيان الدولة حتميا وضعف المجتمع قدريا، وعلى من يفكر هكذا إدراك خطورة التنازل عن القوة لأي طرف وأن القوة المطلقة والسلطة المطلقة ليس لها طريق إلا سحق الطرف الأضعف؛ هذه معادلة وربما تكون الأكثر وضوحا عبر التاريخ، فقد أدت هذه الفرضية إلى تغول الدولة وانهيار المجتمعات وتحولها إلى وسائل إنتاج للثروة ومجال لإنفاذ إرادة السلطة.
على أي حال نتكلم الآن عن واقع يحاصرنا وليس على آمال لا تزال تبدو بعيدة، والمشكلة الحالية أن مصر وغيرها واقعة تحت نظام دولة مركزية مستبدة وقد جمعت بذلك كل مقدمات الظلم والفساد، وبالتالي أصبحت تستعمل كل أدواتها لكي يكون اتجاه الثروة الحقيقية إلى أعلى، وتبقي غالب طبقات المجتمع تتصارع على ما يسد رمقها.

دعونا نوضح أكثر في نقاط محددة :

1- استخدام القانون والسلطة التشريعية في عمليات احتكار واسعة تتحكم في الأسعار وتستنفد ما تبقى من ثروات المجتمع.

2- السيطرة على منافذ البلاد لتحصيل جبايات، وتمرير الفساد التجاري بعمليات رشاوي لا تخفي على أحد.

3- زيادة معدلات الضرائب من المنبع؛ لامتصاص دماء الفقراء والطبقة الوسطى لحساب أصحاب الثروة.

4- التفريط في الموارد والثروات لحساب قوى إقليمية ودولية؛ للحفاظ على سيطرة الطبقة الحاكمة على السلطة، واستمرار تدفق ثروات مصر للخارج.

5- سيطرة طبقة من رجال الأعمال والمؤسسات على مفاصل الثروة.

6- زيادة نسبة الفقر في المجتمع، وارتفاع نسبة من تحت خط الفقر وتراجع الطبقة الوسطى.

ولا يخفى على أحد حالة الانفصال الطبقي الكبير في مصر، والذي اختبأت فيه الطبقة الحاكمة خلف أسوار عالية وحراسات مسلحة؛ حفاظا عليهم من الغوغاء والبائسين.
وإذا اتفقنا أن الفقر قضية أخلاقية قبل أن تكون اقتصادية؛ فلنعترف أن زيادة حجم الفقر ناتج عن تدفق ما خاطئ للثروة وموجه بفعل أدوات السلطة الأخرى؛ لذلك فإن الفقر في المجتمع الاستبدادي ذي الدولة المركزية ناتج عن سرقة وليس فقط فساد إجرائي قابل للإصلاح.

ولنقف عند نقطتين مركزيتين حتى الآن:

1- لكل فرد الحق في حد أدني للحياة لا يعتمد على قدراته ولكن يعتمد على كونه شريكا في حق الانتفاع بالمال العام، وإذا لم يحدث ذلك فهناك شخص ما في مكان ما يسرقه تحت رعاية السلطة.

2- كل وسائل صعود رأس المال إلى أعلى برعاية السلطة وباستخدام القوانين أو القوة المادية هي سرقة بالإكراه، وهي ليست سرقة بنصوص القانون ولكن سرقة عندما نفكر تحت مظلة العدالة.

إذاً ينبغي على الشعوب التي تعاني من السرقة بقوة السلاح وبقوة القانون أن تستعيد حقها المسلوب بكل الطرق المتاحة، ودعونا نذكر أن الجوع والعوز ليس قضية فرد أو أزمة فرد، ولكنها جريمة مجتمع وسلطة، لا يمكن أن تمر دون حساب، ومن العدل أن يكون حسابا لحظيا سريعا حاسما.

هناك الكثير من الإجراءات الواجبة التي ينبغي على الشعوب المنتهكة تحت استبداد ووطأة استبداد السلطة أن تقوم بها، ويمكن تحديد بعض المسارات والإجراءات كما سيذكر لاحقا؛ إلا أنه من الضروري توضيح نقطتين مهمتين.

1- الحقوق لا تقر بالقوانين ولكن تقر بمعايير العدالة؛ والحق هو ما يجب أن تسعى إلى الحصول عليه بطرق عادلة، وهي ليست بالضرورة “قانونية”، خاصة إذا تحول القانون لأداة في يد السارق!

2- مفاهيم الشرف والنبل والعدالة تستطيع الأنظمة – بالسيطرة على الوعي وبصناعة الصور الذهنية المضللة – تغيير معانيها الحقيقية؛ فليس الجوع الإجباري نبلا، ولا ينال استعادة الحقوق جزءا من الشرف، وليست طاعة القانون دائما من العدالة.

بعد هاتين النقطتين يمكن توضيح بعض المسارات والإجراءات، التي يمكنها المساهمة في تفكيك سيطرة النظام على الثروة.

أولا: تشجيع الاقتصاد الموازي غير المعلوم للنظام الحاكم بكل الطرق، وهو يحمي المجتمع من الخضوع الكامل للدولة؛ إذ يستطيع بذلك الهروب من مسارات السرقة المقننة من ضرائب ورسوم وغيرها.

نقطة إيضاحية: الضرائب حق للمجتمع، وهي ليست منحة من صاحب رأس المال؛ فهو يستخدم الكثير من إمكانات المجتمع لتحقيق ربح ليس له وحده، فالكوادر البشرية التي تعلمت بثروات المجتمع، وكل ما يحصل عليه من مواد خام وموارد هي ملك للمجتمع، ولذلك عند عدم قيام رأس السلطة برد الضرائب للشعب فهي سرقة واضحة، وإذا كانت السلطة لا تقوم بذلك الأمر، فعلى صاحب الحق الأصيل – الشعب – البحث عن الوسائل التي يستعيد بها حقه أو الاحتفاظ به من البداية.

ثانيا: العمال أصحاب الحق المهضوم في توزيع فائض القيمة، لهم الحق في أخذ ما يستطيعون بما يحقق التوزيع العادل للأرباح، وإذا كان القانون يطغى لصاحب رأس المال؛ فليتحمل أصحابه نتائج الظلم البين وليس أصحاب الحق الأصيل من العمال.

ثالثا: لا يجب على أي من أفراد الشعب البقاء جائعا، لا هو ولا عائلته، ومن الواجب عليه الحصول على مصادر طعامه بما يراه مناسبا، وعلى السلطة حل المشكلة ابتداءا؛ ولا تصدر الأزمة للطرف الأضعف، ولنا في رغيف (جان فالجان) عظة.

رابعا: لا شيء من حق النظام ولا “رجال الدولة”؛ فإذا تغولت الدولة واستبدت؛ فلا مانع لها من الشعب ولا يجب أن تسعفها الأسوار العالية ولا الحصون المنيعة من حق الشعب أن يستعيد حقه المسلوب.

خامسا: تقليل التعامل مع البنوك لمن يستطيع إلى أقل قدر، إذ إنها أكبر وسائل النظام لمراقبة الثروة، كما أنها واحدة من أكبر الوسائل لسرقة الشعوب.

سادسا: أي تبرعات أو زكاة مال أو مشروعات خدمية أو تدفق مالي بأي شكل لا تُدفع عبر مؤسسات النظام، أو أي مؤسسات قد يبدو أنها مرتبطة به، والأفضل التعامل المباشر بين مقدم الخدمة والآخر.

سابعا: لا تدفع أي أموال للنظام في أي مجال قدر استطاعتك وبكل الطرق المتاحة، فهي أموال تذهب لمجموعة من اللصوص.

هناك الكثير من الإجراءات والمسارات التي تفكك سيطرة النظام على الثروة، ولا ننسى أن كل ما على أرض البلاد وفي بطنها وهوائها ملكا للشعب؛ وهو صاحب الحق الأصيل ويمارَس عليه أكبر عملية سرقة في تاريخه في هذه الأوقات، لذلك فكل فعل – كل فعل – يستطيع به هذا الشعب استعادة حقه فهو فعل صائب ما دام في إطار مساحة العدالة وليس بالضرورة “القانون”.

المهم أن يكون أي مسار أو إجراء لابد أن يهدف إلى نقل الثروة من الطبقة الحاكمة للمجتمع، أو تقليل تدفق الثروة إلى الطبقة الحاكمة والاحتفاظ بها داخل مساحة المجتمع، والثروة بمعناها الواسع وليس النقدي فقط.

وهذا الفعل هو فعل ثوري ويسرع من انهيار النظام الحاكم ويقوي المجتمع، ولن تحدث ثورة شاملة تطيح بكامل النظام إلا من مجتمع قوي يمتلك كل أدوات القوة، وواحدة منها بالتأكيد هي الثروة.

(المصدر: مجلة كلمة حق)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى