مقالاتمقالات مختارة

تفكيك أدوات السلطة (السيطرة على تدفق المعلومات)

بقلم د. عمرو عادل

تفكيك أدوات السلطة (السيطرة على تدفق المعلومات)

هذا آخر مقال في سلسلة تفكيك أدوات السلطة، وهو حول حق السيطرة على تدفق المعلومات بكل أنواعها التي احتكرته السلطة الحاكمة، وربما هو الأخطر والذي يجعل المجتمعَ كتابا مفتوحا أمام السلطة، بل يمكن القولُ -مع التقدم التكنولوجي الهائل- أن المجتمع أصبح كتابا فارغا في بعض صفحاتِه وأصبحت صفحاتُه الأخرى المكتوبة قابلةً للمسح والتغيير بنسبة كبيرة طبقا لما تحدده السلطة.

والمعلومات هي أي بيانات عُولِجَتْ لتصنعَ وعيا وإدراكا ما، وبالتالي تُستخدم لتوجيه القرار، فالمعلومات هي المُدخلات للعقل التي يُنتِج بها مُخرجا بمنزلة قرار أو فعل أو رؤية، لذلك يمكننا القولَ أن السيطرة على تدفق المعلومات هو المسار الأقوى لصناعة الوعي والعقل وتحديد مسارات القرار والفعل لغالب المجتمع.

ومسارات تدفق المعلومات يسعى أي نظام مركزي للسيطرة عليها، وبالتالي مع مرور الوقت في غياب مسارات بديلة يُصبح العقل والوعي صناعةً احتكارية للنظام، ويتحول أفراد المجتمع أو حتى الكتل المجتمعية إلى مُنتج متوافق تمامًا مع رغبات النظام الفكرية والحركية.

وهذه واحدة من أكبر كوارث السيطرة المركزية الاحتكارية للنُّظم المستبدة، فالنظام يدمر الإنسانَ العاملَ الأعظمَ في التنمية والبناء، ويحاول تفتيت أي مركز بديل لصناعة مسارٍ معادٍ أو حتى مخالف، فيقوم بتأميم أو تحطيم أي مسار بديل، فهو الدولة الإله الذي لا يريد شريكا.

ورهان بعض القوى على وجود حد أدنى للوعي لا يمكن للبشر النزول عنه، هو رهان مخسور تحت الاحتكار الكامل للنظم الاستبدادية لمسارات تدفق المعلومات، وهذا ربما نوضحه لاحقا.

ومسارات تدفق المعلومات يمكن تحديدها في:

1- المؤسسات التعليمية (المدارس والجامعات).
2- المؤسسات الثقافية (بيوت الثقافة والمسارح والسينما وغيرها).
3- الإعلام المرئي والمقروء والمسموع.
4- الأسرة والمجتمع وعلى رأسه المؤسسات الدينية.

أعتقد أن كل البيانات وما يليها من تصنيفها لتتحول لمعلومة تصل للعقل، لا يمكن أن تخرج عن واحدة من المسارات السابقة، ولذلك فإن النظام السلطوي يحاول السيطرة على كل هذه المسارات ليصبح العقل ملعبًا مفتوحًا للسلطة تُشكِّله كيف تشاء، ولمعرفة وسائل حصار أو تفتيت سلطة السيطرة على تدفق المعلومات ومساراتها ينبغي أولا تحديد كيفية عملها والنقاط المفصلية بها.

أولا: المؤسسات التعليمية

خطورة التعليم الذي يخضع لسيطرة الدولة أنه بالتبعية يخضع لسيطرة النظام الحاكم في الدول المركزية المستبدة، ففي الغالب لا يوجد فارق بين الاثنين في هذه الحالة، وفي مصر تُستخدم المؤسسات التعليمية لحصار العقل وترويضه ولإنتاج شيء نمطي محدد سلفا، وأَدَّعي أن هذا هو هدفُ التعليم النظامي في كل العالم الحديث، إلا أن الاستبداد والظلم المركزي يُنتج بالإضافة إلى العقل النمطي عقلا مشوّها، فالتحكم في طبيعة النظام التعليمي وعدد ساعات الحضور وجودة المعلمين ومهاراتهم وفوق ذلك كله المناهج التعليمية كلها أدوات طيعة للنظام في ظل دولة مركزية تحتكر نظم التعليم، وتسمح فقط بالتعليم الغربي البعيد عن صلب الهوية، وتحاصر كل ما يمكن أن يدعم بناء عقل أو فكر مغاير، فقد قامت السلطة بالتالي لإحكام السيطرة:

1- تأميم التعليم وإنهاء كل ما له علاقة بالتعليم خارج النظام الرسمي (الكتاتيب – المعاهد المستقلة) واستبدال بها مؤسسات تحت السيطرة منزوعة الهوية (الحضانة – الأكاديميات المتخصصة).

2- تدمير النظام التعليمي الرسمي، حيث أن أي نظام تعليم جيد يقلل من الآثار السلبية للمركزية والتنميط البِنيوي داخل المؤسسات التعليمية، ويصبح النظام المنهار هو ماكينة لإنتاج عديمي الموهبة والكفاءة وتقِل جدا الاستثناءات المتميزة.

3- وضع مناهج تعليمية تتوافق مع المخرجات المطلوبة من العملية التعليمية وهي في النظام المستبد أشبه بصناعة روبوت لا يعمل إلا كما وضعت برنامجه.

وهناك صعوبة كبيرة في تفكيك منظومة التعليم الحكومية، فقد أصبحت متجذرة في المجتمع. وكذلك هناك صعوبة في تغيير نمط التفكير للمجتمع بعد أن ترسَّخ في عقول الجماهير أن التعليم أحد وسائل الصعود الاجتماعي، كما قام النظام بتدمير كل المسارات التعليمية خارج المؤسسة الرسمية فأصبح يُغرِّدُ وحدَه.

ولتفكيك تلك المنظومة وتقليل أثرها الكارثي على المجتمع يجب:

1- الإيمان بالتعليم الموازي والاكتفاء بالذهاب للاختبارات بالمدارس.

2- تكوين تجمعات مجتمعية للصغار (كالكتاتيب القديمة) لتعليم الأطفال والأولاد قيم مجتمعية حقيقية ووسائل إنتاج تعاوني.

3- نشر فكرة فشل النظام التعليمي الرسمي وخطورته على المجتمع بين الجماهير وتشجيعهم على التعليم الموازي.

المؤسسات الثقافية والإعلامية:

هي أحد روافد إنتاج الوعي العام، ووجود سيطرة مركزية على مؤسسات الثقافة كالمسارح والسينمات والمكتبات العامة -ليس فقط من الناحية اللوجستية، لكن من الناحية الفكرية أيضا- يُمثِّل نقطةَ قوةٍ للنظام لفرض ما يريد، كما أن الدفع بسيطرة تيار فكري واحد مُوالٍ للنظام ويحمل عداءً للمجتمع، يَزيد من الأزمة.

وتُعدُّ الأعمال الفنية على وجه الخصوص كالمسلسلات والأفلام والمسرحيات أكثرَ وسيلة سريعة وفاعلة للتأثير بالمجتمع وتغيير عاداته وأفكاره وثوابته، ولا يمكن إنكار نجاح ذلك بالتعاون مع الوسائل الأخرى التي تُمهِّد الأرض لذلك التشويه، ولذلك يحرص النظام على احتكار هذه المسارات ويمنع أيَّ منافس له في هذا المجال.

وتتكرر الأزمة الخاصة بهذا المحور بوجود سيطرة مركزية للنظام عليه، تماما كمنظومة التعليم، ولذلك تبدو من الصعوبة منازعتُه في هذا المجال دون الوصول إلى رأس السلطة، وهناك أمر آخر أكثرُ أهمية، وهو وجود سيطرة مركزية على المؤسسة ومن الواجب تفتيت هذه السيطرة في حال نجاح الثورة لضمان عدم السيطرة على الوعي العام لاحقا.

وفي هذا الوقت يجب منازعةُ النظام في هذا المجال خاصةً مع الانهيار القيمي والمهني ووجود فرصة لدخول هذا المجال، سواءٌ بإنتاج أعمال فنية أو بالتوسع في مجال الترجمة لإعادة ضبط الوعي العام.

ويرتبط المجال الثقافي بالإعلامي، خاصةً في حال عدم وجود قدرة للوجود على الأرض سواءٌ في الشارع أو المنشآت الثقافية كالمسارح والمكتبات ودور العرض السينمائي. ولذلك تبدو الوسيلة الوحيدة المناسبة مرحليا لتوصيل الأفكار وصناعة الوعي هي الإعلام.

وتحت السيطرة المطلقة للنظام على المصادر الإعلامية، يجب على القوى المجتمعية عمل مسارات بديلة للوعي، وتُعدُّ مواقع التواصل الاجتماعي -بجانب القنوات- المنابعَ الرئيسة لهذا العمل.

ويمكن تحديد النقاط الخاصة الواجب فعلها في هذا الملف كالتالي:

1- إنتاج أعمال فنية تُعبِّر عن ثقافتنا وحضارتنا بشكل احترافي.

2- وضع تصور لإدارة الملف الثقافي والإعلامي عند الوصول للسلطة بشكل مغاير للواقع الحالي.

3- تطوير الكوادر البشرية في المجال الإعلامي وتطوير القنوات التليفزيونية المتاحة للوصول لأكبر شريحة ممكنة.

4- الاستثمار الأمثل لمواقع التواصل الاجتماعي.

5- إنشاء إذاعة، فهي أسهل وأرخص وسيلةِ تواصل، وقادرةٌ على الوصول للجميع في كل مكان، وقادرةٌ على الوصول للمناطق المحرومة من البث التليفزيوني والإنترنت في مصر.

ثالثا الأسرة والمجتمع بمؤسساته الدينية:

الأسرة هي البناء الأصغر في أي مجتمع. تعرَّضت تلك النواة لتأثير مدمر على مدى الخمسين عاما الماضية، وقلَّت مقاومة الأجيال بالتتابع مع الزمن، ووصل الحال بالكثير من الأسر المصرية إلى التغييب الكامل بوعي أو بدونه، وأصبح الجيل الثالث الآن -الكثير منه- يبدو منفصلا تمامًا عن ماضيه وهُوِيَّته، كما لعبت المؤسسات الدينية الرسمية -سواءٌ الأزهر أو الكنيسة التي أصبحت مُؤمَّمة تماما من الدولة والنظام- دورًا كارثيًّا في تدمير القيم والوعي لدي قطاعات واسعة من المجتمع.

وقد قام النظام بتدمير أو تأميم جزءٍ كبير مما بُنِيَ في العقود السابقة من مؤسسات مجتمعية حقيقية، خاصةً بعد انقلاب 2013.

إن هذا الوضع المأسوي في مجال صناعة الوعي أنتج مجتمعا مشوّها جدًّا، فاقدًا للبوصلة والهُويّة، ويبدو أن المحاولات المتتابعة في هذا المسار هي الأكثر صعوبة في محاور تفتيت السلطة كافة، وتبدو هي الأكثر مركزية في سيطرة النظم على الشعوب، ولذلك فإن الإصلاح الجذري في هذا الملف يبدو غير ممكن إلا بالوصول إلى السلطة وتفكيكها من عَلُ وعودة الأمور إلى نصابها بالمشاركة الفاعلة للمجتمع ومؤسساته في كل هذه الملفات بعيدا عن مركزية الإدارة والتوجيه.

أما في الوضع الحالي فإن المزاحمة قدْر المستطاع في كافة هذه المسارات أمرٌ واجب وحتمي بأقصى ما يمكن من الوسائل، وبالتأكيد كل ذلك يحتاج إلى شيء من التنظيم، فهذه الأمور لن تأتي وحدها ولن تُنتَج من العدم، والجميع مهيأ بدرجة ما للمشاركة في هذا العمل الكبير، سواءٌ تفكيكُ السلطة أو مشروعُ المقاومة الشعبية، وهما المحوران اللذان تحدَّثتُ عنهما عبر عدة مقالات متتابعة، وهذا يحتاج إلى بناء تنظيمات بعدة أشكال ليمكنها إنتاج كل هذا العمل.

إن تسليم كل مفاتيح السلطة والقوة للنظام وَضَعَنا في موقفٍ شديدِ الضعف والحرج، وتحتاج الجماهيرُ إلى بناء نفسها -ربما من الصفر- حتى تتمكّن من التحرُّر، والموضوع التالي هو كيفية بناء المسارات التي يمكنها تحقيق ذلك، وهو موضوع مهم قد يكون عنوانُه الكبير “كيف تبني تنظيما ثوريا؟”.

 

 

(المصدر: مجلة كلمة حق)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى