“تفاهة الشر”.. كيف يتم الدفع بالإنسان إلى فعل الشر؟
بقلم مجاهد أحمد
أي أيدولوجيا هذه التي تدفع بجندي لأن أن يضع رصاصةً في قلب طفل لم يتجاوز العاشرة، أي فلسفة تلك التي تبيح لشخص أن يقتل معلماً بخازوق.. أي فكر شيطاني هذا الذي يحول البشر إلى قتلة ومجرمين؟ هل نحن كبشر سيئون إلى ذلك الحد ومليئون بالشرور إلى هذه الدرجة.
الكثير منا قد تغيرت نظرته للبشرية خلال السنوات القليلة الماضية بسبب الكم الهائل من المآسي التي مررنا بها، أصبحنا ننظر لكل رجل باعتباره مشروع طاغية، نتوجس من كل إنسان وكأنه برميل ممتلئ عن آخره بالشرور والأحقاد التي تنتظر فقط من أحدهم أن يفتح لها الغطاء. هذه الظروف القاسية التي نعايشها من الظلم والطغيان باتت تطرح تساؤلاتٍ عميقة عن موقع الشر في النفس البشرية وعن طبيعة الأيدولوجيا التي تُفلح في هندسة عملية استخراجه من قعر النفوس إلى سطح العالم الخارجي.
الصراع الفلسفي عن موقع الشر في النفس البشرية ومدى عمقه وتجذره فيها مر بمراحل طويلة بدءاً من الفلسفة المتأثرة باللاهوت المسيحي والتي كانت ترى أن الشر ليس كامناً فينا فحسب وإنما متجذر في إنسانيتنا منذ الخطيئة الأولى التي اقترفها أبونا آدم وما تبعها من هبوطه المأساوي إلى الأرض، لكن في النهاية هذا الجدل استقر عند الفيلسوف الألماني كانط، الذي كان يرى أن كلاً من الشر والخير كامنان في النفس البشرية، لكن الإنسان هو القادر بفعل “الحرية” على الاختيار في أي الطريقين يسير.. وهو الأمر الذي يكاد يطابق ما قاله الإسلام قبل قرون عديدة: “وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا”.
فالطفل البشري يولد على الفطرة بريئاً من كل خطيئة، لاحقاً تأتي الحرية – مع اكتمال النمو العقلي – ومعها تأتي مسؤولية اختيار أحد المسارين.. لذا فإن الشر ليس جذرياً فينا إلى هذا الحد كما يبدو للوهلة الأولى، فلا أحد يولد طاغية ولا أحد منا يأتي إلى هذا العالم حاملاً معه خطيئة جده أو أباه كما هو الاعتقاد السائد في المُخيِّلة الغربية. لكن وبرغم ذلك فإن الدفع بالبشر إلى فعل الشر لا يحتاج إلى أيدولوجيا معقدة أو فكر عميق، الشر وإن كان موجوداً في النفوس لكنه بطبيعته سطحي وتافه، ولا يحتاج إلى قناعات راسخة، ومن هنا بالذات تأتي خطورته، بعكس الخير الذي يحتاج إلى فهم وإيمان.
مفهوم “تفاهة الشر” ابتكرته الفيلسوفة الألمانية حنًّا آرنت، وحنّا آرنت – لمن لا يعرفها – هي فتاة ألمانية ذات أصول يهودية تعرضت مع عائلتها للتعذيب في معسكرات النازية، لكنها تمكنت من الفرار إلى الولايات المتحدة، درست هناك وتعلمت حتى صارت لاحقاً مفكرة وفيلسوفة مميزة، بعد الحرب العالمية الثانية وتحديداً في العام 1961 حضرت آرنت جلسة محاكمة لأحد قادة النازية الكبار وهو رتشارد آيخمان، تابعت الجلسة وراقبت جيداً الرجل الذي أشرف بنفسه على واحدة من أسوأ عمليات التعذيب آنذاك، وبشكل مفاجئ خُلصت آرنت من تلك المحاكمة بأن إيخمان كان مجرد موظف ينفذ الأوامر التي توكل إليه دون تفكير واعي منه ولا أيدولوجيا حقيقية تحركه، كان آيخمان رغم منصبه الرفيع في الرايخ الثالث مجرد رجل تافه – بحسب حنا آرنت – رجل تافه كان على استعداد أن يفعل أي شيء، لكن ليس من أجل الأيدولوجيا أو الفكر النازي، وإنما فقط لأجل الحفاظ على وظيفته في الجيش..
هذا هو شأن معظم المجرمين وسدنة الطغاة على مر التاريخ، هامان وزير فرعون الشهير كان مثله مثل ريتشارد آيخمان، رجل تافه لم يؤمن للحظة بأن الفرعون هو الرب الأعلى، ولكنه ومع ذلك ظل إلى جانبه مفضِّلاً مصالحه التافهة ومنصبه في البلاط.. فرد الأمن الذي يمارس القمع والقتل، لا يفعل ذلك لأجل قناعة حقيقية أو إيمان راسخ وإنما من أجل الوظيفة وحفنة الجنيهات في التي يتلقاها آخر الشهر.
الشر لا يستحوذ على المرء إلا بعد أن يعطل فيه كل ملكات التفكير الواعي والمنطقي، لذا فمن النادر جداً أن يُقدم أحدهم على فعل الشر بدوافع عميقة واختيارات واعية، وإنما الدافع في الغالب سطحي وتافه، وإن كان هذا لا يعفي صاحبه من المحاسبة إلا أنه يغيّر نظرتنا للأمر برمته. أما الأيدولوجيات التي يتشدق بها الطغاة والمجرمين فهي في الغالب ليست لإقناع أتباعهم أو حتى أنفسهم، وإنما مجرد شكليات وبروباغاندا تساهم فقط في جعل مظهرهم يبدو لائقاً ومتحضراً أمام الآخر البعيد.
(المصدر: مدونات الجزيرة)