تغييب دور العلماء
بقلم د. عطية عدلان
الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
هل هذا الزمان الذي نعيشه هو نفسه الزمان الذي أنذر به الحديث المشهور: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا»([1])؟ هل هو ذاته الزمان الذي قال في مثله القائل: “قُبِضت الفحولُ وهلكت الوعولُ، وانْقَرض زمانُ العلم، وخَمَدت جمرته، وهَزَمَتْه كَرَّةُ الجهل وعَلَتْ دولته، ولم يبق إلا صبابة نتجرعها، وأطمار نجتابها ونتدرعها”([2])؟
لا أظنُّ ذلك، بل إنني على يقين من أنَّه ليس هو ذلك الزمان؛ لما سوف أذكره مما يُعدُّ مقدمة لما أريد أن أتحدث عنه.
فقد وردت أحاديث يفهم منها أن قبض العلم – الذي لا يكون إلا بقبض العلماء – سيكون في آخر الزمان، إمَّا ضمن أشراط الساعة، أو ضمن مقدمات أشراط الساعة؛ حيث تكثر الملاحم والفتن المؤذنة بخروج الدجال واشتعال فتيل الأشراط الكبرى، كما في حديث أبي هريرة مرفوعاً: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ العِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلاَزِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الهَرْجُ …»([3])، والواقع الذي نعيشه – وإن بدا شبيها بما أنذر به الحديث الآنف – يبقى مبايناً له في جوانب تمنع التطابق، فالحديث الأول يعتضد بالثاني في منع الانحراف بالفهم إلى ما يورث الإحباط ويؤسس للهروب المبرر.
كما أنَّنا في واقعنا الذي نحياه نرى العلماء الربانيين ملء السمع والبصر، لا يحصيهم العدّ ولا يحويهم الخبر، فليس للحديث – إذاً – عمل في زماننا هذا إلا الدلالة “على أنه لا يؤتى الناس قط من قِبل العلماء”([4])، وإنَّما يؤتون من قِبل أدعياء العلم المصنوعين الذين يحتلون الشاشات ويتربعون في (الميديا) بغرض حجب العلماء الحقيقيين وتغييب دورهم، بالإضافة إلى الأغراض الأخرى البادية للناظرين كبدو سوأة القرود للغادين والرائحين.
مِنْ هؤلاء نعاني، ومنهم تعاني الأمّة كلها ويعاني الإسلام نفسه، فكم من راكب فوق ظهر الدين استطاع بمعونة من أركبوه أن يحوز ثقة المسلمين، فلما سقط في الفتنة أو أُسقط فيها انهارت ثقة الناس في العلماء جملة؛ وربما انهارت ثقتهم في الدين نفسه؛ ولا يدري الناس أنَّ هؤلاء (العملاء) ما صنعوا ولا صنعت لهم السمعة والشهرة إلا لأهداف يأتي هذا الهدف في مقدمتها، أمَّا العلماء الربانيون فهم مغيبون، وللتغييب فنون عند من يمارسونه على العلماء، لا تقل خبثًا وإجرامًا عن الفنون التي يمارسون بها إحلال العملاء محل العلماء!!
أَوْضَحُ هذه الفنون وأَصْرَحُها: السجن والاعتقال والقتل والاضطهاد والنفي والإيقاف عن العمل وحظر الحركة وغير ذلك من وسائل القمع السافر، ووراء هذه الفنون فنونٌ أخرى أكثر خبثًا وأفدح أثراً، منها فنُّ الإلهاء، وهو فنّ يركز على شَغْل العلماء بأمور شكلية وتضييع أوقاتهم في أنشطة هامشية، مع إيهامهم بأنهم يخدمون الإسلام، أو على أقل تقدير يقومون بما يُستطاع تجاه دينهم وأمتهم؛ لذلك يعجب كثير من العقلاء من ظاهرة التباين الشديد بين ضآلة وضحالة المخرجات وقصورها وعجزها وبين ما أنفق في سبيلها من أوقات العلماء وجهودهم وأموال الأمة ومقدراتها، وذلك إذا ما قَيَّموا مؤتمرا من المؤتمرات التي تُفتح لها حسابات البنوك وباحات الفنادق على مصاريعها.
وهناك فنَّ أغوص وأعوص، لا تستطيع أن تحدد ملامحه ولا أن تمسك بخيوطه، فالذي يبدو منه أنه عملية تسخير للإمكانات المادية في تقديم من يستحق التأخير وتأخير من حقه أن يكون مقدماً، فأنت لا ترى شيئا ولا تحس بشئء؛ بينما تُفاجأ بمرور الأيام بأنّ إمكانات لا محدودة من مقدرات المسلمين تحت تصرف فئة تمارس – باسم التنوير – علمنة الإسلام من داخله، هذه الفئة أو تلك الفئات لم تكن في أصلها منسوبة للعملاء المصنوعين، ولا هي ترضى لنفسها أن تكون كذلك، ولا تستطيع أنت أن تحكم عليها بالإخراج التام من زمرة المفكرين الأعلام، ولكن هكذا تصنع الساحرة “العملة الخضراء”!! وتفاجأ كذلك بأنّ الدنيا تفتح لهم أبوابها، فإذا هم يسيحون في الأرض مُلْهِمين ومُنَوِّرين، بينما في المقابل لا يجد العلماء منبرا يبثون فيه شجونهم إلا القليل من المواقع على خوف أن تغلق أبوابها دونهم !!
لماذا يجري تغييب دور العلماء بهذه الكيفية التي يبدو أنها ليست عفوية ولا ينقصها الترتيب والتدبير؟ لا بد أنّ العلماء دور كبير يراد للأمة ألا تظفر باستحقاقه، ومن أعظم ما منيت به الأمّة في واقعها المعاصر – بل ربما من وقت مبكر في تاريخ الأمة – أنّ الدور الكبير المنوط بالعلماء تعطل إلى حد كبير حتى لم يبق منه سوى اجتهادات وقتية ومواقف فردية لا تفي بالغرض إلا بقدر ما تروى الأرض الجرداء الجدباء قطرات متقطعة من ماء السماء.
إنّ العلماء ليسوا مجرد دعاة ووعاظ ومعلمين ومرشدين، وإنما هم إلى جانب ذلك أولياء أمر المسلمين، وهم صلب أهل الحل والعقد الذين يناط بهم سياسة الأمة وتوجيه أحداثها وصناعة حاضرها ومستقبلها، وهم الذين عناهم الله بالدرجة الأولى في الآيات التي تأمر بالطاعة لأولى الأمر وردِّ الأمور إليهم في سلمهم وحربهم وفرحهم وكربهم، فمن هذه الآيات: قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾[النساء: 59]، فهذه الآية الكريمة تأمر المسلمين بطاعة أولى الأمر، وهذا يعني أن لهم نفوذا وسلطانا، وأولوا الأمر هنا هم: «أصحاب الأمر وذووه، وهم الذين يأمرون الناس، وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة وأهل العلم والكلام؛ فلهذا كان أولوا الأمر صنفين: العلماء والأمراء»([5]).
يقول الإمام أبو بكر بن العربي: “والصحيح عندي أنهم الأمراء والعلماء جميعا، أما الأمراء فلأن أصل الأمر منهم والحكم إليهم. وأما العلماء فلأن سؤالهم واجب متعين على الخلق، وجوابهم لازم، وامتثال فتواهم واجب … وقد سماهم الله تعالى بذلك فقال: ﴿يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ﴾… فأخبر تعالى أن النبي r حاكم «والرباني حاكم»، والحبر حاكم، والأمر كله يرجع إلى العلماء؛ لأن الأمر قد أفضى إلى الجهال، وتعين عليهم سؤال العلماء …”([6]).
ويقول الإمام الجصاص: بعد أن ذكر خلاف العلماء حول أولى الأمر: أهم العلماء أم الأمراء: “ليس بممتنع أن يكون هذا الأمر للفريقين…إذ ليس في تقديم الحكم بالعدل ما يوجب الاقتصار بطاعة أولى الأمر على الامراء دون غيرهم”([7]) بل إن قوله تعالى بعد ذلك «فإن تنازعتم في شي فردوه إلى الله الرسول» يدل على أنهم العلماء لأنهم الذين يعرفون كيفية الرد على كتاب الله وسنة رسوله r.
ويقول ابن عاشور – مبينا طريق ثبوت صفة ولاية الأمر: “وطريق ثبوت هذه الصفة لهم إمّا الولاية المسندة إليهم من الخليفة ونحوه، أو من جماعات المسلمين إذا لم يكن لهم سلطان، وإمّا صفات الكمال التي تجعلهم محلّ اقتداء الأمّة بهم وهي الإسلام والعلم والعدالة. فأهل العلم العدولُ من أولي الأمر بذاتهم لأنّ صفة العلم لا تحتاج إلى ولاية، بل هي صفة قائمة بأربابها الذين اشتهروا بين الأمّة بها، لما جرب من علمهم وإتقانهم في الفتوى والتعليم”([8]).
ومنها قول الله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾[النساء: 83]، وأولو الأمر هنا أيضاً هم الأمراء والعلماء، يقول الإمام الجصاص: “قوله تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾. قال الحسن وقتادة وابن أبي ليلى: «هم أهل العلم والفقه»، وقال السدي: «الأمراء والولاة»، قال أبو بكر: يجوز أن يريد به الفريقين من أهل الفقه والولاة لوقوع الاسم عليهم جميعا، فإن قيل: أولوا الأمر من يملك الأمر بالولاية على الناس، وليست هذه صفة أهل العلم، قيل له: إن الله تعالى لم يقل «من يملك الأمر بالولاية على الناس» وجائز أن يسمى الفقهاء أولي الأمر لأنهم يعرفون أوامر الله ونواهيه ويلزم غيرهم قبول قولهم فيها، فجائز أن يسموا أولي الأمر من هذا الوجه كما قال في آية أخرى: ﴿لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾، فأوجب الحذر بإنذارهم وألزم المنذرين قبول قولهم، فجاز من أجل ذلك إطلاق اسم أولي الأمر عليهم؛ والأمراء أيضا يسمون بذلك لنفاذ أمورهم على من يلون عليه([9]).
ومن هنا كان للعلماء دور كبير عند شغور الزمان من السلطان العام وخلوه من إمامة جامعة تلتقي عليها كلمة المسلمين، يقول الإمام الجوينيّ: ” فإذا شغر الزمان عن الإمام وخلا عن سلطان ذي نجدة وكفاية ودراية، فالأمور موكولة إلى العلماء، وحق على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم، ويصدروا في جميع قضايا الولايات عن رأيهم، فإن فعلوا ذلك، فقد هدوا إلى سواء السبيل، وصار علماء البلاد ولاة العباد”]([10]).
هذا الدور الجوهري المؤثر المحرك هو الذي يخشاه ويتحاشاه النظام الدوليّ الذي تقوم مؤسساته وأنظمته على أساس مضاد تمام المضادة لما في رأس هؤلاء العلماء؛ ومن ثمَّ فلابد من وضعهم في (ثلاجات) تُحَوِّلُهم إلى مجرد أجساد وتَحُولُ بينهم وبين دِفء التغيير وحرارة التأثير، وتقطع الصلة بينهم وبين الشعوب، ولا سيما الشباب الغَلَّاب الوَثَّاب؛ لنبقى هكذا أبداً؛ يدور حالنا بين فقه مقيد أسير، ونضال بلا وعي ولا منهجية في كل أفق يعن له يجمح ويطير، ويظل علماؤنا بين شجب وشجب، شجب لعدو متجبر وشجب لشباب متعثر.
فليس من طريقة هذا الدين أن يترك المسلمين في لحظة من لحظات دهرهم فوضى لا سراة لهم، كيف وهو الدين الذي اشتمل على ما لا يقوم ولا يقام إلا (بالنظام) على أيِّ وجه من الوجوه الشرعية أتى هذا النظام !!
ومن عجب أن يستدل العلماء على وجوب الإمامة بأنها ضرورية لإقامة أحكام الدين التي لا تقوم إلا بها؛ اتباعاً لقاعدة: “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”، ثمّ إذا شغر الزمان من الإمامة، وصفرت يد المسلمين من القدرة على إقامتها؛ أفلتت القاعدة من أيديهم؛ فتركوا الأمّة سدى والأحكام الشرعية هملاً، وكأنَّ هذه القاعدة الفقهية الكلية الممتدة قد حبست في إطار الإمامة فهي متعلقة بها وجوداً وعدماً !!
كلا .. لم يترك الله تعالى أمّة الإسلام سدىً، ولم يَدَعْ أحكام دينه هملاً، وإنما نحن من أوجد هذه الحالة الناشزة عن طبيعة الإسلام؛ إذ لم نعمل بذات القاعدة في تفعيل الدور القياديّ للعلماء، وخالفنا منهج الله في الترتيب لدينه وأمته؛ فطبيعيّ أن ندعو فلا يستجاب لنا، وأن نسعى ونجتهد فلا نصل إلا إلى فشل يتلوه فشل، ثم نتعجب ونقول: “أنّى هذا” ! والعجب كل العجب إنما هو من تعجبنا ذاك !!
إنّ هذا الزمان الذي نعيشه زمان خلا من الإمام العام القوام على الأنام بشريعة الإسلام، وفرغ من السلطان الشرعيّ الذي يناط به قيام أحكام الشريعة والحفاظ على الملة، ووجود بعد سلاطين العدل في بقاع قليلة متفرقة لا يكفي مع اتساع خطة بلاد الإسلام وتفرق أمصار المسلمين، ومن هنا وجب على العلماء أن يقودوا الشعوب إلى التحرر من الأنظمة المرتبطة بأعداء دينها، ولا يكون هذا إلا بأن يجتمعوا ويضعوا رؤيتهم ومشروعهم يتقدموا الجموع على كل المستويات. والله تعالى أعلم
ـــــــــــــــــــ
([1]) متفق عليه صحيح البخاري برقم (100) مسلم برقم (2673)
([2]) الوجيز للواحدي (ص: 85)
([3]) صحيح البخاري (2/ 33)
([4]) الاعتصام للشاطبي ت الهلالي (2/ 574)
([5]) مجموع فتاوى ابن تيمية (28/170)، والاستقامة لابن تيمية (2/295).
([6]) أحكام القرآن لأبي بكر محمد بن عبد الله (ابن العربي) (1/534) دار المنار القاهرة ط أولى 2002
([7]) أحكام القرآن للجصاص، أبو بكر أحمد الرازي (الجصاص)، دار الفكر ط أولى 2001 (2/298).
([8]) التحرير والتنوير(5/98).
[9]) أحكام القرآن للجصاص (2/304).
(6) الغياثي غياث الأمم في التياث الظلم – للإمام أبي المعالي الجويني إمام الحرمين ت: عبد العظيم الديب – مكتبة إمام الحرمين الطبعة: الثانية، 1401هـ ص 391
(المصدر: مجلة “كلمة حق”)