مقالاتمقالات مختارة

تعويض الله لمن خافه

تعويض الله لمن خافه

بقلم د. شيلان محمد علي القرداغي

قصة واقعية

كانت تلكَ الليلةُ هي المنعطفَ الحادَّ الذي غيَّر حياتها إلى الأبد، فهي العروس التي زُيِّنَتْ ليتمَّ عقْدُ قرانها على الشابِّ الذي خطبها، وبعد أن طال انتظارها لوالدها، دخل الوالد المسكين شاحبًا، وقد شخصَتْ مُقْلتاه في ذهولٍ وصدمةٍ كانت باديةً جدًّا على مُحيَّاه، فقال لابنته بلهجة مِلؤها الارتعاش من الحزن والأسى، وفيها أيضًا دفءُ صوت الوالد الحنون الخائف على ابنته من الضياع: ابنتي الحبيبة، لا يكن عدد الحضور الكبير سببًا لأن تخجلي وتضطري للموافقة على هذا الرجل، فهو أصمُّ وأبكمُ، وهذا مالم يخبرنا به أهلُه من قبلُ! هم فقط قالوا: عنده مشكلة يسيرة في السمع، لكن هذه هي الحقيقة المؤلمة، فاختاري بين أن ترفضيه ولن يلومَكِ أحَدٌ على ذلك، أو تقبليه على شرط أن تَضعي في حُسبانك أني لن أقبلَ منك أي تذمُّر أو شكوى عن حالك في المستقبل، ولا يزال الأمر بيدك فاختاري!

تقول المسكينة: دارت بي الدنيا في ثوانٍ، وكأني ضربت بمقمعٍ من حديد على رأسي، فتوقَّف عقلي عن التفكير لثوانٍ، وأنا أرى الناس يحيطون بي، وهم جميعًا ينظرون إليَّ في ترقُّب ورأفة؛ ولكنني سرعان ما تمالكت نفسي من الصدمة، واستغفرت الله وحمدته على أن هداني للتوبة والإنابة إليه، وخاصة أن عمر توبتي لم يكن يتعدَّى السنتين، وكنت دائمًا أسأل الله أن يُثبِّتني على ديني، وأن يُلهمني رشدي في كل أمر.

فقبِلتُ الرجل على ما به من عاهة، وأنا ابنة الشرف والنسب والعائلة، الابنة المدلَّلة والمثقَّفة، فكان قراري كالصاعقة على أهلي؛ ولكنهم احترموا رأيي وسكتوا، ولم يعلموا أن قبولي هذا الرجلَ كان من شدَّة خوفي من أن أَسقطَ في أول اختبارٍ من الله لإيماني، كما أني خشيتُ أن يبتليني الله بمرضه، فيجعلني صمَّاءَ بَكْماءَ إن تعاليتُ عليه.

تزوجتُ الرجل المعاق، وانتقلت إلى بيت أهله، وسكنت معه في غرفة واحدة في بيت أهله، وعشت معه عيشة الكفاف، وأنجبت له ثلاثة أولاد.

ثم جاء الفرج وانتقلنا إلى منزلنا الذي كان عبارة عن غرفة واحدة بجدران أسمنتية وسقف من نايلون، كان يتهرَّأ ويتساقط علينا كلما اشتدَّ الحَرُّ أو اشتدَّ البرْدُ، وهطلت الأمطار، وصبرتُ أيضًا حتى عَلِمَ بحالنا عددٌ من الخيِّرينَ، فأكملوا لنا البيت، وقدَّموا لنا ضرورات الحياة من ثلَّاجة وطباخ وفراش (مساحة البيت لا تتجاوز 70 مترًا).

قد نعجب كثيرًا لحياة هذه المجاهدة الصابرة؛ ولكننا نغفل عن حقائقَ وعَدَنا بها الله تعالى وهي: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]، وكذلك: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2، 3].

فهذه الزوجة لا تغادر الابتسامة وجْهَها، وكلمةُ الحمد لله لسانَها، وهي تقول: لو عاد بي الزمان إلى تلك اللحظة لاخترتُ زوجي هذا مرة أخرى لشدَّة سعادتي معه وحُبِّي له، فهو رجل مُتَّقٍ يخاف الله كما لا يخافه كثيرٌ من الأسوياء، وهو مواظب على صلواته، ولم أُوقظه لصلاة الفجر أبدًا؛ بل هو من يوقظني دائمًا، ويصلي صلاةً حُرِمَ من مثلها الكثير، (أسألُ الله أن يرزقنا جميعًا صلاة مثلها)، فهو يقف بين يدي ربِّه خاشعًا والدموع تتساقط من عينيه، واللهِ لكأنِّي أرى النور يحيط به، وهو يواظب على حضور صلاة الجمعة وكل المحاضرات التي تُقدَّم في المسجد؛ بل إنه يجلس أمام التلفاز ساعات حين يرى شيخًا يتكلم في التلفزيون، ويرفع يديه بالدعاء حين يدعو الشيخ، ويُلحُّ بالطلب والبكاء، حتى أسمع أزيرًا من صدره من شدة البكاء، (وهو لا يسمع).

وتقول أيضًا: حين أمشي معه في الشارع أمشي وأنا مرفوعة الرأس، أحسُّ بفخر شديد؛ لأن الله حباني هذا الزوجَ الصالح، والله لو كان زوجي من كبار رجالات الاقتصاد أو الفن، لَما أحسستُ تُجاهه بهذا الفخر والعزِّ.

سبحان الله! حين كانت المرأة تتكلم كان يجول بخاطري من نرى يوميًّا من الأخوات اللواتي يتقلبنَ في النعيم بأنواعه، وهنَّ لا يعرفْنَ طَعْمًا للسعادة، ولم يَذُقْنَها، ويبحثْنَ عنها دون جدوى، وينتهي المطاف بهِنَّ عند الأطباء النفسيين، أو أحيانًا عند عتبة القبر بعد انتحارهِنَّ، وهُنَّ لم يَعلمْنَ أن السعادة ليست بالمال ولا بالجمال ولا بالجاه ولا..، لكن السعادة في الرضا، فحين ترضى بما قسَّمه الله لك في كل شيء، فإنه سيُودِع في قلبك من السعادة ما لا يخفى على مَنْ يراك، حقًّا وصِدْقًا، هذا وعد الله تعالى لعباده: ﴿ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ﴾ [البينة: 8].

فحياتها بدأت بخشية الله، وهي الآن تنعَم برضاها عن الله، وسيرضى الله عنها في الدنيا والآخرة تكملةً لوعده، وسيُعوِّضها عن صبرها بلا حساب: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10].

ونفهَم خطأً أن الأجر في الآخرة فقط؛ لكننا هنا ندرك أن الأجر يكون في الدارين.

 

 

(المصدر: شبكة الألوكة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى