تطبيق الاشتراكيَّة في دار الإسلام: أسبابه وتداعياته المؤسفة 2 من 10
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
النَّموذج النَّاصري للاشتراكيَّة: ما ثمار تصدير ثورة يوليو إلى العالم العربي؟
تُعرف الحركة القوميَّة التي نشأت في ظلّ حُكم الرَّئيس المصري الأسبق جمال عبد النَّاصر (1956-1970م) بالتَّيَّار النَّاصري، وبالحركة النَّاصريَّة، وبالنَّاصريَّة، وتُنسب صياغة ذلك المسمَّى إلى الصحافي المصري المقرَّب إلى عبد النَّاصر، محمَّد حسنين هيكل، وذلك في مقال نشره في صحيفة الأهرام المصريَّة في 14 يناير 1972م، وفق ما تنشره موسوعة ويكيبيديا الرَّقميَّة. أمَّا عن أهم مبادئ التي قامت عليها النَّاصريَّة، فكانت الحريَّة والاشتراكيَّة والوحدة لا غنى عنها في معالجة المشكلات الأربع التي اعتبرتها الحركة الأجدر بالمعالجة، وهي الاستعمار والتَّخلف والطَّبقية والتَّجزئة بين أقطار العالم العربي. وبرغم ما حرص الزَّعيم القومي الرَّاحل على نشْره من أفكار ثوريَّة كان من شأنها نقْل المنطقة العربيَّة من الرَّجعيَّة إلى التَّقدُّميَّة والحداثة، مُنيت التَّجربة النَّاصريَّة بانتكاسات وتعثُّرات نالت من إيجابيَّات الحركة.
تتناول الدُّكتورة بثينة التَّكريتي في كتابها جمال عبد النَّاصر: نشأة وتطوُّر الفكر النَّاصري (2000م)، الصَّادر عن مركز دراسات الوحدة العربيَّة، الحركة النَّاصريَّة منذ نشأتها، وتأثير التَّجارب الحياتيَّة للرَّئيس الرَّاحل في بدايات حياته في تشكيل اتّجاهاته السّياسيَّة. تُفرد الباحثة فصلًا كاملًا عن نشأة عبد النَّاصر، وبدايات تطوُّر الفكر القومي لديه، معتبرةً إيَّاه أكثر زعيم قومي استأثر باهتمام العالم العربي في تاريخه الحديث، ومنذ عهد صلاح الدّين الأيُّوبي. تقول التَّكريتي عن عبد النَّاصر “لم تُنجب الأمَّة قائدًا واجَه التَّحديَّات الأجنبيَّة والإمبرياليَّة والصُّهيونيَّة والرَّجعيَّة بشجاعة استثنائيَّة مثلما واجهها جمال عبد النَّاصر، ابن الصَّعيد” (ص57). ينتمي عبد النَّاصر إلى قرية بني مُرّ في محافظة أسيوط في صعيد مصر، كانت تحت وطأة الجهل والتَّردّي المعيشي الذي عانى منه جنوب مصر، ولم يزل. انتقل والد الرَّئيس للعمل في مصلحة البريد في الإسكندريَّة، وهناك وُلد جمال في 15 يناير 1918م، لينتقل به والده إلى إحدى قرى الوجه البحري الفقيرة، ليبدأ في إدراك “الواقع الاجتماعي للقرية المصريَّة” منذ صغره، كما ترى الباحثة التي تتكهَّن عن أنَّه “من المؤكَّد أنَّ هاجس الاحتلال الاستعماري الذي يلاحقه ويؤرقه قد ترك أثره في تمسُّك جمال” بقيم القوميَّة المصريَّة (ص64).
تعتقد التَّكريتي أنَّ الوعي القومي بدأ يتكوَّن في ذهن عبد النَّاصر منذ طفولته، وساعد في ذلك الأجواء السّياسيَّة، وبخاصَّة مع تفشّي الظلم النَّاتج عن الإقطاع؛ والقيم التي اكتسبها بالانتماء إلى أسرة لها تاريخها في الكفاح الوطني؛ واتّساع دائرة السَّخط الشَّعبي من الهيمنة الأجنبيَّة على مفاصل العالم العربي والرَّغبة في القضاء على الاستعمار. انضمَّ عبد النَّاصر في المرحلة الثَّانويَّة إلى جمعيَّة (مصر الفتاة)، وهي جمعيَّة تأسَّست عام 1933م على الفكر القومي، متأثّرة بالحركات الشَّبيهة التي تأسَّست في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وربَّما اشتراكها في الاسم مع حركة (تركيا الفتاة) يجعلها الأقرب من حيث التَّوجُّه والأهداف، التي كان على رأسها القضاء على الاستعمار والإقطاع والرأسماليَّة. وكما تذكر التَّكريتي، “كان لهذه الجمعيَّة تأثيرها الكبير في الشَّبيبة التي أصابها جمود الأحزاب التَّقليديَّة بالإحباط البالغ”؛ وتنقل الباحثة عن عبد النَّاصر قوله في إحدى رسائله عن سبب انضمامه للجمعيَّة “كنتُ أبحث عن العزَّة القوميَّة، وذهبتُ إلى مصر الفتاة” (ص73). لعبت هذه التَّجربة الحزبيَّة دورها في “صقل بناء جمال عبد النَّاصر الفكري”، هذا إلى جانب قراءاته التَّاريخيَّة-السّياسيَّة التي كان لها دورها في “تحفيز ملكاته القياديَّة” (ص74).
جدير بالذّكر أنَّ الباحثة ألقت الضَّوء على المدارس التي التحق بها عبد النَّاصر في المرحلة الابتدائيَّة في القاهرة والإسكندريَّة، محدّدةً الأسماء والعناوين (ص65-67)، لكنَّها تجاهلت مدرسته الثَّانويَّة، التي أشارت إليها صحيفة اليوم السَّابع المصريَّة في تحقيق نشره في 15 يناير 2018، في الذّكرى المائة لميلاده، شمل المنطقة التي عاش فيها الزَّعيم الرَّاحل، وهي حارة خميس العدس، القريبة من حارة اليهود، بمنطقة الجمَّاليَّة بالقاهرة.
كاميرا اليوم السابع في حارة اليهود.. هنا عاش الزعيم الراحل جمال عبد الناصر
3حارة خميس العدس من حارة اليهود بالقاهرة هذا هو عنوان الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، الذي التحق بمدرسة النهضة الثانوية بحي الظاهر بالقاهرة وعمره تقريباً 15 عاما حتى دخوله الكلية الحربية، وقتها ترك السكن مع والده الذي كان يعمل موظفاً في مكتب بريد.
من الملفت أنَّ التَّحقيق نقل عن بعض الجيران حديثهم عن وجود جار يهودي للزَّعيم القومي، مع التَّشكيك في صحَّة ذلك لعدم وجود دليل، وإن كانت نجمة داود المحفورة على جدار مدخل العقار تؤكّد أنَّ يهودًا كان من سُكَّانه.
ويحكى الجيران العديد من الحكايات، منها أن الدور العلوي لجمال عبد الناصر كان به جارا يهوديا، ولكن ليس هناك بالمنطقة من يؤكد هذه المعلومات أو ينفيها.
لم يعد موجوداً بالبيت سكان بعد أن أخلى، استعداداً لهدمه، تحطمت نجمة داود التي كانت على الباب الخارجي للمنزل، ولم يتبقى به سوى الخلاء وبعض القمامة التي ألقيت به.
وتبدو نجمة داود-داخل الدَّائرة السَّوداء-متآكلة، كما أظهرها المقطع المصاحب للتَّحقيق.
منزل زعيم العروبة في حارة اليهود-مصر
وبرغم نفي اليوم السَّابع وجود دليل على أنَّ منزل عبد النَّاصر سكنه يهوديٌّ، فالصَّحيفة ذاتها نشرت عبر قناتها على موقع يوتيوب في 15 أكتوبر 2014م، مقطعًا عنوانه “شاهد المنزل الذي عاش فيه «جمال عبد الناصر» و«موشى ديان» بوسط القاهرة”، وتظهر نجمة داود، المتآكلة تمامًا بعد مرور 3 سنوات و3 أشهر في مقطع 15 يناير 2018م، واضحة تمام الوضوح.
نجمة داود أعلى مدخل منزل زعيم العروبة في حارة اليهود-مصر
والسؤال الذي يفرض نفسه: هل السَّاكن اليهودي في منزل عبد النَّاصر هو موشي ديان؟ ولمن لا يعرف موشي ديان، ويُكتب اسمه كذلك موشيه دايان، فهو العسكري والسّياسي الإسرائيلي البارز، الذي شغل عدَّة مناصب مرموقة في إسرائيل، ربَّما يكون أجدرها بالإشارة في هذا السّياق تولّيه وزارة الدّفاع في إسرائيل في الفترة ما بين 5 يونيو 1967 و3 يونيو 1974م، أي الفترة التي شهدت حروب الأيَّام السّتَّة (5 يونيو 1967م) وحرب الاستنزاف (1967-1970م) وحرب يوم الغفران/حرب أكتوبر (6 أكتوبر 1973م).
تشكُّل الفكر النَّاصري
تعتبر الباحثة أنَّ الفترة ما بين عاميّ 1938 و1952م شهدت “ولادة الفكر النَّاصري”، وهي الفترة التي شهدت اندلاع الحرب العالميَّة الثَّانية (1939-1945م)، شديدة التَّأثير على الاقتصاد المصري بالسَّلب، بسبب عدم إمكانيَّة تصدير المنتجات المصريَّة، وبخاصَّة القطن المصري الذي كانت الأسواق العالميَّة تتهافت عليه (ص97). تضاعفت معاناة الشَّعب المصري في تلك الفترة، ودفع ذلك عبد النَّاصر إلى تكثيف جهوده في محاولة وضْع حدّ لمعاناة الشَّعب، وتنقل الباحثة عن أنور السَّادات، أحد الضُّبَّاط الأحرار وعضو مجلس قيادة الثَّورة ورئيس مصر لاحقًا، رأيه الذي أدلى به في كتابه أسرار الثَّورة المصريَّة: بواعثها الخفيَّة وأسبابها السَّيكولوجيَّة (1957م)، أنَّ برنامج عبد النَّاصر الفكري حينها ركَّز على “تخليص مصر من الهيمنة الاستعماريَّة وتوحيد التَّيَّارات الفكريَّة في إطار سياسي واحد، ليذيب مصر في حياة الأمَّة، ويجمع الأمَّة العربيَّة حول مصر”، نقلًا عن التَّكريتي (ص100). استطاع عبد النَّاصر بشخصيَّته الآسرة اجتذاب صغار ضبَّاط الجيش من زملائه، وكان “القلب النَّابض لحركة التَّمرُّد، عقلها الدّيناميكي الخلَّاق” (ص101). ” وقد أسَّس عبد النَّاصر عام 1942م تنظيم الضُّبَّاط الأحرار، وضمَّ إليه أهل الثّقة من زملائه “ذوي الأفكار الوطنيَّة” و “المنتمين إلى جميع الاتّجاهات السّياسيَّة المعارضة”، وكان نشاط ذلك التَّنظيم السّري يتَّسع مع ازدياد المظالم والفساد، الذي أفضى إلى هزيمة حرب فلسطين عام 1948م (ص113).
المصدر: رسالة بوست