تشويه الإسلام.. الحرب المدروسة
بقلم أحمد الجنابي
منذ ارتكاب برينتون تارانت جريمة القتل الجماعي ضد مصلين مسلمين في مسجد النور بمدينة كرايستشيرش النيوزيلندية، والمتشددون النصارى في الغرب يحاولون بطرق عديدة تبرير الجريمة الشنعاء.
ومن أكثر التبريرات لفتاً للانتباه أن شهداء مسجد النور يستحقون ما جرى لهم، لأنهم يدعمون الإرهاب، في إشارة إلى اعتقاد شائع في الغرب وهو أن الإسلام دين يغذِّي العنف والإرهاب.
هذا الانطباع لا يقتصر على المتشددين في الغرب، بل يكاد يكون انطباعاً عاماً تحالَف على ترسيخه الإعلامُ الغربي ودوائر سياسية ودينية على مدى العقود الثلاثة الماضية، باستراتيجية مدروسة.
وربما يقول قائل إن ما قام به متشددون مسلمون في العقود الثلاثة الأخيرة هو سبب تشويه صورة الدين الإسلامي، فنقول في ذلك إن التناغم بين “الأعمال الإرهابية” والتصعيد الإعلامي والدعائي الغربي ضد الإسلام يرسم ألف علامة استفهام حول الموضوع، وتصير في أذهاننا تساؤلات عديدة عن حقيقة العمليات الدموية التي نُفِّذت باسم الإسلام. ببساطة؛ الغرب هو المستفيد الأول والأوحد منها، فهل هي مصادفة؟
وفي هذا السياق، يجادل المتزمتون في الغرب بأن القرآن الكريم فيه آيات تحرّض على العنف والقتل، في حين أن الإنجيل لا يحتوي إلا على آيات المحبة والسلام، وأن ذلك هو سبب وجود “إرهابيين مسلمين”.
يمكن تقسيم تاريخ تطوُّر كل من الدينين النصراني والإسلامي إلى مرحلتين؛ فعمل عيسى عليه السلام، على الأرض تقابله دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بمكة؛ ودخول الرومان في النصرانية وما بعدها تقابلها مرحلة الهجرة وما بعدها.
لقد بدأ عيسى عليه السلام رسالته عندما كان في الثلاثين من عمره، وانتهت عندما كان في الثالثة والثلاثين، أي إن دعوته استمرت ثلاث سنين فقط، استغلها في نشر الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.
من جهة أخرى، استمرت دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- 23 عاماً، منها تسع سنين في مكة، حيث نزل عليه ثلثا القرآن الكريم تقريباً، وكان دوره دعوياً حصراً.
يبلغ عدد الآيات المكية التي نزلت إما بمكة وإما في مكان آخر، ولكن قبل الهجرة، 4591 آية من مجموع آيات القرآن التي تزيد على ستة آلاف آية، وهي تدور حول قيم معيَّنة تُعتبر خريطة طريق لبداية الدعوة.
تركز الآيات المكية على الدعوة إلى ترك عبادة الأوثان والاعتراف بوحدانية الواحد الأحد، والتعريف بوجود جنة ونار، وقصص الأنبياء، لغرض التذكير وحثّ الناس على عمل الصالحات، وبثّ روح وقيم المساواة في الحقوق والواجبات بين الناس.
وإذا قارنا بين القيم التي أتت بها الآيات المكية، ودعوة عيسى عليه السلام، فسنجد تشابهاً كبيراً بين الاثنين من حيث الخطوط العامة وعدم وجود ذكر للحرب والقتال.
يكمن سبب ذلك التشابه في أن الفترتين كانتا بداية دعوة جديدة، لذلك من الطبيعي أن يكون الخطاب ليّناً وحَسَناً؛ وهو الأمر الطبيعي، وكما تقول الآية الكريمة: “ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضوا مِن حولك﴾.
أما بعد هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة المنورة، فقد اختلف الأمر؛ إذ أصبحت هناك نواة دولة وهوية جديدة تتشكل، وهناك رعية يجب أن تُرعى مصالحها، وذلك يتطلب وجود قانون ونظام وجيش وعمل سياسي.
ومن هذا المنطلق، ولأن الكيان الجديد كان محاطاً ببحر من الأعداء المتربصين من مشركين ويهود، فإن المواجهة كانت أمراً لا مفر منه في مناسبات عديدة، وهذا تطلَّب أن يتدخل المشرِّع (القرآن الكريم) لتنظيم أمور الدفاع عن الدين والهوية، إما بالحث على الحرب أو القعود عنها، أو أن يبتغي المسلمون بين ذلك سبيلاً، كما حدث في صلح الحديبية.
المشكلة في طرح الآخر أنه يتعمد تجاهل سياقات الآيات القرآنية عندما يثقِّف أتباعه ويستغل ثقتهم العمياء برجال الدين الذين لا يتورعون عن لَيِّ عنق الحقيقة والافتراء على الآخرين في سبيل خلق جيش من الأتباع يتكون من آلات قتل لا تسمع ولا ترى ولا تفقه، وما سفاح نيوزيلندا إلا واحد من جيش جرار من مكائن القتل المتربصة بالمسلمين.
وبالعودة إلى الإنجيل، فسواء صُلِب المسيح أم شُبِّه لهم فإن الحقيقة على الأرض هي أنه لم يعد موجوداً؛ ذهب هو وبقيت الكلمات وانتشرت، وبدأت تشكِّل خطراً على وجود الدولة الرومانية، فانبرى الإمبراطور قسطنطين الذي كان واحداً من أعتى دهاة السياسة في التاريخ، للتصدي للمد المسيحي.
لم يقمع المسيحيين الذين بدأ عددهم بالازدياد بشكل مطرد، وانتفضوا للثأر لنبيّهم، وطالبوا بِحُرية العقيدة، بل درس الوضع بإمعان، ورأى أن الحل الأنجع هو الاحتواء، احتواء التيار قبل أن يتحول إلى ريحٍ صرصرٍ عاتيةٍ لا تُبقي ولا تذر.
ورغم أن دخول قسطنطين في النصرانية كان لغرضٍ بنفسه، فإنه كان من أفضل التطبيقات في التاريخ لمقولة “الناس على دين ملوكهم”، وتنصَّر كثير من الشعوب التي كانت تحت الحكم الروماني، وصارت المسيحية هوية دولة، وأصبحت الدولة والكنيسة صنوَين لا يفترقان.
وهنا يتكرر التشابه بين الإسلام بعد الهجرة والمسيحية بعد أن أصبحت هوية الدولة الرومانية، فكما دافع المسلمون عن كيانهم هكذا فعلت الكنيسة والدولة الرومانية، وبأساليب قمعية غابت عنها أي خطوط حمراء.
مثالان نسردهما هنا، وهما قطعاً ينفيان صورة الحمَل الوديع الذي يحاول بعض دهاقنة الغرب إلصاقها بأبناء جلدتهم، وفي المقابل يُزوِّرون التاريخ لإلصاق صورة الوحش الكاسر بالإسلام.
المثال الأول مصر: فقد كان كافياً اتباع الكنيسة القبطية مذهب اليعاقبة ورفضهم اتباع المذهب الملْكي للدولة الرومانية لفتح أبواب جهنم عليهم، فقضوا قروناً تحت الظلم والتنكيل والقتل.
ويعتبر تحالُف الأقباط مع المسلمين الفاتحين لبلادهم أكبر برهان على ما كانوا يعانونه من الرومان، الذين من المفروض أنهم والأقباط من أنصار المسيح عليه السلام. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن بنيامين الأول، بابا الإسكندرية وبطريرك الكنيسة القبطية الثامن والثلاثين، لجأ إلى الصحراء وعاش فيها متشرداً ثلاث عشرة سنة؛ هرباً من بطش الرومان الملْكيين، ولم تعد له كرامته إلا على يد عمرو بن العاص، الذي أعاده إلى مدينته الإسكندرية، واستأنف نشاطه الكنسي بأمان.
المثال الثاني: مقتل ما بين 200 ألف ومليون نصراني كاثاري على يد فرسان الكنيسة، وتلك كانت العملية التي أطلقت محاكم التفتيش السيئة الصيت في القرن الثالث عشر، والتي أعطت رخصة قتل ذهب ضحيتها الملايين من البشر في القارات الست المأهولة.
استمرت عملية الإبادة الجماعية لهذه الطائفة النصرانية عشرين عاماً، أمعن خلالها فرسان الكنيسة قتلاً وتنكيلاً بالكاثار؛ لأن مذهبهم يختلف عن المذهب الكاثوليكي الذي تسوّقه الكنيسة في أوروبا.
وهنا يفرض السؤال نفسه: لو كان المسيح عيسى بن مريم قد عاش على الأرض مدةً أطول وتحققت له دولة وأتباع، فهل كانت ستحيا دون سيف يدافع عنها؟
والجواب يستند إلى القسم الأول من الإنجيل الذي يسميه النصارى العهد القديم ويسميه المسلمون التوراة كتاب اليهود.
في التوراة نرى الأمثلة عما تقدَّم واضحة جلية، فنرى كيف كان سليمان وداود مَلِكَين هويتهما يهودية، ورغم أنهما نبيان فإنهما خاضا الحروب، وداود سفك الدماء سفكاً للدفاع عن مملكة اليهود، لدرجة أن النصارى البروتستانت والإنجيليين وغيرهم لا يعتبرونه نبياً.
ومن المفارقات في هذا المجال أن هذه الطوائف المسيحية المتشددة دعمت وتدعم بشدةٍ، الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وترى أنه تدبير من الرب ليعيد إلى النصرانية هيبتها، ويردُّون على منتقدي هذا الطرح بأن ترامب قد لا يكون شخصاً صالحاً، ولكن الرب استخدم أيضاً داود الذي سفك الدماء، لإعلاء كلمته.
دهاقنة التفوق الأبيض عندما يدرّسون أتباعهم لا يثقّفونهم بالسياقات التاريخية لأي مسألة، بل يحشون أدمغتهم بقصصٍ بَلهاء تقطر خبثاً، ليتربى الأتباع على الحقد الأعمى والطاعة العمياء، وما مجزرة مسجد النور إلا واحدة من البراهين الواضحة على خبث أولئك الذين يسكنون تحت الأرض.
ولكي لا تصبح المسألة مسألة تنابز بالألقاب، وتباهٍ لا داعي له، نقول إن الدينين الإسلامي والمسيحي خاضا حروباً للدفاع عن كيانهما، وكلاهما استخدم السيف لنشر الدين وللذود عما تحقق له.
وإذا كان القرآن الكريم قد نظَّم مسائل القتال والحرب، فإن الإنجيل لم يحتوِ على ذلك؛ فأخذ أتباعه على عاتقهم تشكيل الجيوش والحروب بما يتلاءم مع أهوائهم ومصالحهم، والنتيجة تاريخ من الدم يجري طمسه وتجاهله، ولكن يأبى الله إلا أن يُتم نوره.
(المصدر: الخليج أونلاين)