مقالاتمقالات مختارة

تشخيص الإمام أبي حامد الغزالي لأمراض المجتمع الإسلامي

تشخيص الإمام أبي حامد الغزالي لأمراض المجتمع الإسلامي

بقلم د. علي محمد الصلابي

شخّص الإمام أبو حامد الغزالي أمراض المجتمع الإسلامي حسب فكره ونظرته إلى عدة نقاط منها:

أ ـ فساد رسالة العلماء: ركز الغزالي في مواقع جمَّة على نقد العلماء المنتسبين إلى الدين، وهم في الحقيقة علماء الدنيا، وهو يحمِّلهم مسؤولية كبيرة في فساد الملوك والحكام، وفساد العوام، ويرى: أن الداء العضال فقد الطبيب، والأطباء هم العلماء، وهم أنفسهم مرضوا مرضاً شديداً، فتحدث عما وقع فيه أهل العلم ورجال الدين من طلب الجاه والرياسة، ونيل الحظوة عند أهل الحكم والسياسة، والجدل الفارغ والنقاش الحاد، والاكتفاء بمسائل الفروع والأحكام، والانصراف عن علم الاخرة، وتهذيب النفس، وحقيقة ما فيه المنتدبون للإصلاح والدعوة من الكلام المزخرف، واللفظ المُسجع، والقصص المُلهية، ورأى عموم الفساد، وغفلة الناس، وسكوت العلماء، وفقدان النذير.

فالغزالي يرى: أن أدلة الطريق هم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، وقد شغر منهم الزمان، ولم يبق إلا المتمرسون، وقد استحوذ على أكثرهم الشيطان، واستهواهم الطغيان، وأصبح كل واحد بعاجل حظه مشغوفاً؛ فصار يرى المعروف منكراً والمنكر معروفاً، حتى ظل علم الدين مندرساً، ومنار الهدى في منطقة الأرض منطمساً، ولقد خيَّلوا إلى الخلق أن لا علم إلا فتوى حكومة تستعين به القضاة على فصل الخصام عند تهاوش الطغام، أو الجدل يتذرَّع به طالب المباهاة إلى الغلبة والإفحام، أو سجع مزخرف يتوسَّل به الواعظ إلى استدراج العوام إذا لم يروا ما سوى هذه الثلاثة مصيدة للحرام، وشبكة للحطام.

فأما علم طريق الاخرة، ممّا درج عليه السلف الصالح مما سماه الله سبحانه في كتابه فقهاً، وحكمة، وعلماً، وضياء، ونوراً، وهداية، ورشداً، فقد أصبح بين الخلق مطوياً، وصار نسياً منسياً، ولما كان هذا ثلماً في الدين مُلماً؛ وخطباً مُدلهماً؛ رأيت الاشتغال بتحرير هذا الكتاب مُهمّاً لإحياء الدين، وكشفاً عن مناهج الأئمة المتقدمين، وإيضاحاً لمناحي العلوم النافعة عند النبيين، والسلف الصالحين.

ويعتقد الغزالي أن التبعة الكبرى في هذا الفساد الشامل، والضَّعف في الدين، والانحلال في الأخلاق، تقع على العلماء، ورجال الدين، وهم السبب الأول في فساد الأوضاع؛ لأنهم ملح الأمة، وإذا فسد الملح فما الذي يُصلحه؟ ويتمثل الغزالي ببيت خوطب فيه العلماء:

يا معشَر القرَّاءِ يا ملحَ البلدِ               ما يصلحُ الملحَ إذا المــلحُ فسد

 ويذكر كيف مرضت قلوب الناس، واشتدت الغفلة عن المعاد، ويذكر أسباب ذلك، فيذكر منها مرض العلماء، واعتلالهم، وهم أطباء القلوب، فيقول: والثالثة: وهو الداء العضال، فَقْدُ الطبيب؛ فإن الأطباء هم العلماء، وقد مرضوا في هذه الأعصار مرضاً شديداً، وعجزوا عن علاجه. ويقول في موضع اخر: فإن الأطباء هم العلماء، وقد استولى عليهم المرض، فالطبيب المريض قلما يلتفت إلى علاجه، فلهذا صار الدّاء عُضالاً، والمرض مزمناً، واندرس هذا العلم، وأنكر بالكلية طبُّ القلوب، وأنكر مرضها، وأقبل الخلق على حب الدنيا، وعلى أعمال ظاهرها عباداتٌ، وباطنها مُراءاة.

ويردُّ الغزالي فساد الملوك والأمراء إلى ضعف العلماء وإهمالهم لواجبهم يقول: بالجملة إنما فسدت الرعية بفساد الملوك، وفساد الملوك لفساد العلماء، فلولا القضاة السوء، والعلماء السوء؛ لقلَّ فساد الملوك، خوفاً من إنكارهم، ويلوم الغزالي العلماء على تقاعدهم عن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكلمة الحق

عند سلطان جائر، ويعلل ذلك بوقوع العلماء في شباك الأمراء، وحبهم للدنيا، وطلبهم للجاه، ولاحظ الغزالي ـ وقد أمضى مدة طويلة في التدريس والإفتاء، وعاش بين العلماء وخبر سيرتهم ـ: أنه قد شغل الناس بالجُزئيات الفقهية، والمسائل الخلافية، ووقع الاكتفاء بعلم الفقه والفتيا، وانصرف بذلك العلماء وطلبة العلم عن العلوم النافعة، والأشغال المفيدة الأخرى، وشُغلوا عن العلم الذي يُصلحون به نفوسهم، وينالون به سعادة الدنيا والآخرة، وقد ترتب عن فساد رسالة العلماء وانتشار الشكلية الدينية في المجتمع الإسلامي آثار؛ من أهمها:

ـ البعد عن قضايا المجتمع، والاشتغال بقضايا هامشية لا طائل تحتها.

ـ التعصب المذهبي، واختفاء الفضائل العلمية.

ـ تفتيت وحدة الأمة، وظهور الجماعات والمذاهب.

ـ انتشار التدين السطحي، والفئات التي مثلته، كفئة العلماء، وفئة أصحاب العبادة والعمل والمغرورون، وفئة المتصوفة، وفئة أرباب المال، وقد فصل الإمام الغزالي في الحديث عن هذه الفئات في كتابه إحياء علوم الدين.

ب ـ انحراف الألفاظ عن مدلولاتها: وقد فطن الغزالي ـ لذكائه الباهر وتجربته العلمية ـ: أنَّ من أسباب الالتباس وانخداع الناس بالمظاهر، وبُعدهم عن الحقائق، هو أنه قد فشا في هذا العصر استعمال كلمات القرآن والحديث في غير محلها، وفي غير معناها الأصيل القديم، وصار يُفهم منها ما لم يكن يفهم في العصر الأول، يعقد في كتاب (الإحياء)  فصلاً خاصّاً في بيان ما بُدِّلَ من ألفاظ العلوم، ويقول في مُفتتحِه: اعلم أن منشأ التباس العلوم المذمومة بالعلوم الشرعية تحريف الأسامي المحمودة، وتبديلها ونقلها، بالأعراض الفاسدة إلى معانٍ غير ما أراده السَّلف الصالح والقرن الأول، وهي خمسة ألفاظ: الفقه، والعلم، والتوحيد، والتذكير، والحكمة، فهذه أسامي محمودة، والمتصوف بها أرباب المناصب في الدين، ولكنها نُقلت الآن إلى معان مذمومة، فصارت القلوب تنصر عن مذمّة بمعانيها لشُيوع إطلاق هذه الأسامي عليهم، ثم شرح الألفاظ المذكورة:

ـ فالفقه: كان يطلق في العصر الأول على علم طريق الاخرة، ومعرفة دقائق افات النفوس، ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلع إلى نعيم الاخرة، واستيلاء الخوف على القلب، فخُصِّص في هذا العصر بمعرفة الفروع الغريبة في الفتاوى، والوقوف على دقائق عِللها، واستكثار الكلام فيها، وحفظ المقالات المتعلقة بها.

ـ العلم: وكان لفظ العلم يُطلق على العلم بالله تعالى، وبآياته وبأفعاله في عباده وخلقه، وتصرَّف فيه أهل الزمان بالتخصيص، حتى شهروه في الأكثر بما يشتغل بالمناظرة مع الخصوم في المسائل الفقهية وغيرها.

ـ التوحيد: وكان التوحيد عند الأولين، وهو أن يرى الإنسان الأمور كُلها من الله عز وجل؛ رؤية تقطع التفاته عن الأسباب والوسائط، فلا يَرى الخير والشرَّ كله إلا منه جلّ جلاله، وقد جعل الآن عبارة عن صناعة الكلام، ومعرفة طريق المجادلة، والإحاطة بطرق مناقضات الخصوم، والقدرة على التشدق فيها، بتكثير الأسئلة وإثارة الشبهات، وتأليف الإلزامات، حتى لقَّب طوائف منهم أنفسهم بأهل العدل والتوحيد، وتسمَّى المتكلمون: العلماء بالتوحيد.

ـ التذكير: والتذكير هو الذي عناه الله سبحانه وتعالى، فنقل ذلك إلى ما ترى أكثر الوعاظ في هذا الإيمان يواظبون عليه، وهو القصص والأشعار، والشطح والطامات.

ـ والحكمة: والحكمة هي التي أثنى الله عز وجل عليها فقال: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}. فصار اسم الحكيم يُطلق على الطبيب والشاعر والمنجم؛ حتى على الذي يُدحرج القرْعة على أكُفِّ السَّوداية في شوارع الطرق.

وبعد هذه المقارنة بين معاني هذه الألفاظ القديمة ومحلّ استعمالها، وبيان معانيها المُحدثة ومحل استعمالها، وبيان التحريف الذي وقع في إطلاق هذه الكلمات وتفسيرها، يقول: فقد عرفت كيف صرف الشيطان دواعي الخلق عن العلوم المحمودة إلى المذمومة، فكل ذلك من تلبيس عُلماء السوء بتبدُّل الأسامي، فإن اتبعت هؤلاء اعتماداً على الاسم المشهور من غير التفات إلى ما عُرف في العصر الأول؛ كنت كمن طلب الشرف بالحكمة باتباع ما يُسمى حكماً؛ فإن اسم الحكيم صار يُطلق على الطبيب، والشاعر، والمنجم في هذا العصر، وذلك بالغفلة عن تبديل الألفاظ.

وهكذا يهيب الغزالي بالعلماء في قوة، وصراحة، وشجاعة، وإخلاص، وعمق، وتحليل علمي، ويثير فيهم الغيرة والشعور، ويستحثُّهم على الرجوع إلى مركزهم في الأمة، وهو خلافة الأنبياء والوصاية الدينية والخلقية على المجتمع الإسلامي والحسبة على الحكومة والحكام، والخواصّ والعوام معتقداً بأنهم حجر الزاوية في إصلاح المجتمع، وبصلاحهم صلاح العالم، وبفسادهم فساد العالم، ثم يلتفت إلى السلاطين والأمراء؛ لأنهم الركن الثاني في إصلاح النوع الإنساني.

ج ـ نقد السلاطين الظلمة: لم يكن نقد الغزالي ولا نصحه موجهاً للجمهور فحسب ولا للعلماء والمتصوفة ونحوهم من الطبقات فحسب، بل شمل نصحه وتوجيهه السلاطين والوزراء؛ الذين بأيديهم أمر المسلمين، وطالما ذكر: أنَّ صلاح الأمة لا يتم إلا بصلاح هاتين الفئتين: أهل العلم والفكر، وأهل السياسة والسلطة، فهما الصنفان اللذان إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس، وطالما حكى قول بعض السلف: لو كان لي دعوة مستجابة لدعوتها للسلطان؛ فإن اللَّه يصلح بصلاحه خلقاً كثيراً، والناس يمنعهم من إسداء النصح وقول الحق المرِّ أمران: الخوف والطمع، وهو في حياته الجديدة ليس عنده ما يخاف عليه، وليس عندهم ما يطمع فيه، وقد خبت في قلبه جمرة الحرص، وحب المال والجاه بعد أن جعل الدنيا طريقاً لسفره لا محلاًّ لإقامته، واتخذ منها قنطرة يعبرها، ولا يعمرها، زاره وزير الخليفة أنوشروان في بيته تكريماً له، وإقراراً بمنزلته وفضله، وما كان ليحدث من هؤلاء الكبراء إلا لمثل الغزالي، ولكن أبا حامد قال له: زمانك محسوب عليك، وأنت كالمستأجر للأمة، فتوفرك على ذلك أولى من زيارتي، وقد أدرك الغزالي ببصيرته وثقافته الواسعة أن أول ما نقض من عُرا الإسلام ما يتعلق بالحكم والسياسة، وأن أبرز ما انحرف فيه الحكم عن صراط الإسلام كان في سياسة المال ، ولهذا شدد النكير على السياسة المالية للسلاطين ، وشدد على العلماء في الدخول عليهم أو مخالطتهم، أو قبول الهدايا منهم؛ لأنها رشوة على الدين، ولأن أموالهم جلُّها سحت، إليك آراء الغزالي في هذا المجال:

ـ تحريم التعامل مع السلاطين الظلمة.

ـ تحريم التجارة في الأسواق التي بناها السلاطين الظلمة.

ـ تحريم التعامل مع قضاة السلاطين الظلمة وخدمهم وشرطتهم.

ـ تحريم الانتفاع بالمرافق والمؤسسات التي بناها السلاطين الظلمة. وقد فصل هذه الأمور في كتابه (إحياء علوم الدين).

وقد تحدث الغزالي عن سلاطين عصره، فقال: ..فلا تسمح نفوس السلاطين بعطية إلا لمن طمحوا في استخدامهم، والتكثر بهم، والاستعانة بهم على أغراضهم، والتجمُّل بغشيان مجالسهم، وتكليفهم المواظبة على الدعاء، والثناء، والتزكية، والإطراء في حضورهم، ومغيبهم، فلو لم يُذل الاخذ نفسه بالسؤال أولاً وبالتردد في الخدمة ثانية، وبالثناء والدعاء ثالثاً، وبالمساعدة له على أغراضه عند الاستعانة رابعاً، وبتكبير جمعه في مجلسه وموكبه خامساً، وبإظهار الحُب والموالاة والمناصرة له على أعدائه سادساً، وبالستر على ظلمه ومقابحه ومساوئ أعماله سابعاً؛ لم يُنعم عليه بدرهم واحد، ولو كان في فضل الشافعي ـ رحمه الله ـ مثلاً؛ فإذاً لا يجوز أن يؤخذ منهم في هذا الزمان ما يُعلم: أنه حلال لإفضائه إلى هذه المعاني، فكيف ما يُعلم: أنه حرام، أو يشك فيه، فمن استجرأ على أموالهم، وشبَّه نفسه بالصحابة والتابعين، فقد قاس الملائكة بالحدّادين. وقيمة هذه الكلمة الجريئة لا تُعرف إلا في جوِّ الحكومات الشخصية الرهيبة، التي كانت كلمة واحدة تصدر من عالم، أو مؤلف في نقد ملك، أو حاكم تطيح بحياته.

المصادر والمراجع:

دولة السلاجقة وبروز مشروع إسلامي، علي محمد محمد الصلابي، صــ (485/493)

إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، صــ (2/132).

رجال الفكر والدعوة في الإسلام، لأبي الحسن الندوي، صـ (1/217).

(المصدر: رسالة بوست)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى