مقالاتمقالات مختارة

تسخيف المجتمعات.. صناعة التافهين وإظهارهم كعمل ممنهج

تسخيف المجتمعات.. صناعة التافهين وإظهارهم كعمل ممنهج

بقلم محمد قصيد

وأنا أعبث في هاتفي، أمرر طرف سبابتي صعودا ونزولا في أزرق مارك زوكربيرج، استوقفتني كلمة لإحدى المشاهير وقد كتبت في حالتها “طززز” شرف الله قدركم، لم أستغرب أبدا من الفنانة المشهورة، فكل إناء بما فيه ينضح، بل استغربت من أسراب الذباب التي وقعت على تلك الكلمة بين معجبٍ وضاحكٍ ومحبٍّ وفاغرٍ فاهُ، وقد كانوا بالآلاف، ناهيك عن تعليقاتهم وحجم التلوث الفكري والأخلاقي الذي عشش في تلك الأدمغة، بينما لا تجد للمنشورات ذات القيمة المعرفية أو الأدبية إلا عشراتٍ يعدون على الأصابع، ولا يكفون طبعا لاستنقاذ ما تبقى من مياه وجوهنا الكالحة.

إن تتبع الواقع ومحاولة فهم اهتمامات المجتمع، تستدعي منا وقفة صادقة مع الأسباب الكامنة وراء تفشي هذا االتلوث الفكري الذي أصاب الذوق الجماعي في مقتل، ولن نتعب في البحث عن تلك الأسباب، فهي معنا وتُخالِط أنفاسنا وترافقنا حيثما اهتزت بنا الأقدام، وحيثما قلَّبنا الأسماع والأبصار، فالتلوث أصبح سلعة رائجة ومربحة جدا لأصحاب القرار، تدر عليهم أرباحا مادية، ومكاسب سياسية لا تعد ولا تحصى، ولتبقى رائجة وتحقق أهدافها المرجوة، لا بد من صناعة الذباب الذي من طبيعته شد الرحال إلى التقيُّحات والجروح والمستنقعات الآسنة، دونما انتظار أن تأتي هي إليه.

ومن أهم مرتكزات هذه الصناعة الخطرة، صناعة ملِكات وملوك الذباب، فكما للنحل ملوكا، فلهذا النوع من الذباب _ حسب رأيي _ ملوكا وسادة يجتذبونه من كل حدب وصوب ويفرخونه أسرابا، ولا يكون ذلك إلا عبر الإعلام باعتباره سلاح العصر ومعمل صناعة النجوم والقدوات، فالنماذج المخصوصة بالعرض حاليا، لا تخرج عن إطار الفن وإن شئت تدقيق العبارة فَقُل العفن، لأن الفن الحقيقي الأصيل يسمو بالأذواق ويهذب الأخلاق، ولا يقبل أن يعتلي التافهون منابره ومسارحه. إن تكريم التافهين وإظهارهم ليس فسادا في الذوق أو انتكاسا في المَلَكَة الجمالية لأصحاب القرار، وإنما الأمر مدروس وموجه بدقة لخلق نماذج معينة، وإعطاء القدوة لجيل يُرَاد له أن يخرج ممسوخا من كل المعاني، تائها بلا هوية حضارية تميزه، وبذلك يسهل قيادته إلى المذابح والمسالخ دون أدنى مقاومة تُذكر.

الارتفاع المهول في منسوب التلوث الفكري، يجعلنا نضع أيدينا على قلوبنا توجسا من القادم، وخوفا على ما تبقى من معالم جميلة، تُبقينا على الأقل في صدارة الترتيب الأخلاقي

ولا يتوقف أمر هذه الصناعة فقط على الإعلام، بل مجالاتها واسعة لا يتسع هذا المجال للإحاطة بتفاصيلها وتشعباتها، فهي تبدأ من البيت والأسرة ثم الشارع وصولا إلى المدارس والجامعات، حيث أصبحت مناهج التعليم تخضع لشروط وقوالب محددة من أصحاب المصالح والقرار، فلا تخرج عن خط التلوث والإفساد الذوقي والقيمي، ولا تحيد عن اتفاقيات العار والدمار، التي تسعى لعولمة الأخلاق والقيم الغربية المنحلة ونشر الميوعة والشذوذ، وخلق أجيال خانعة خاضعة لا تفقه شيئا في سنن التدافع والتنافس الحضاري.

إن الارتفاع المهول في منسوب التلوث الفكري، يجعلنا نضع أيدينا على قلوبنا توجسا من القادم، وخوفا على ما تبقى من معالم جميلة، تُبقينا على الأقل في صدارة الترتيب الأخلاقي، لأن الغرب على الرغم مما وصل إليه من تقدم وتطور، فإن أخلاقه وقيمه في الحضيض، لذلك فسعيه حثيثٌ لا يتوقف ولن يتوقف لجرنا نحو مستنقعاته الآسنة ومزابله ومراحيضه دون علومه ومعامله، وليس أَدَلَّ على ذلك من البعثات التي سافرت من بلداننا العربية في مطلع القرن العشرين من أجل أن تعود إلينا بعلوم الغرب وأسرار نهضته، فإذا بها تعود بفنون الرقص واللهو والطرب وأصناف الخلاعة والمجون، ودعوات التحرير والانعتاق من القيم والأخلاق، وهدم مبادئ الدين والجرأة على أصوله وفروعه، وزرع الشك فيها والتأليب على الانسلاخ منها!

وختامًا، لا أقول هلك الناس، حاشا لله أن أسلط على نفسي الهلاك، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ» وفي رواية أخرى: «فَهُوَ أَهْلَكَهُمْ» رواه مسلم، ففي الناس خير كثير مهما بلغوا من البعد عن الدين والأخلاق، إذ يكفي تذكيرهم ولفت انتباههم لتستيقظ تلك الفطرة النقية الأصيلة التي تستقر في القلوب، وذلك يكون بالقدوة الصالحة أولا ثم بتعليم وترسيخ قواعد الذوق السليم والتربية عليها، وفضح كل المؤامرات والخطط الخبيثة التي تتربص بأخلاق الأمة وميولاتها الفطرية. “وَيَمكُرونَ وَيَمكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيرُ الماكِرينَ“ الأنفال: ٣٠.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى