طه عودة – ترك برس
مر على قيام الجمهورية التركية العلمانية نحو 94 عاما، تلك الدولة التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك عام 1923م، وفي التاسع والعشرين من شهر أكتوبر/ تشرين الأول من كل عام تحتفل تركيا بهذه المناسبة وسط جدل محتدم بين نخبة متحمسة بشدة للعلمانية وتيار إسلامي هو التيار المسيطر حاليا علي الساحة السياسية منذ عام 2002.
ويبدو تاريخ العلمانية في تركيا جليا مع إلغاء الدستور العثماني في الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 1922 ومع تعديل الدستور التركي في 5 شباط/ فبراير 1937 أضيفت كلمة “علمانية” في الدستور التركي للتعريف بصفة الدولة التي ما زالت قائمة حتى الآن في المادة الثانية من الدستور الراهن الذي يسعى حزب العدالة والتنمية الحاكم إلى تعديله عبر الاستفتاء في السادس عشر من نيسان/ أبريل المقبل.
العلمانية والدين..
بعد مرور أكثر من تسعة عقود علي ثورة أتاتورك لا يزال هذا الإرث يشكل أساس العقيدة المسيطرة علي البلد الإسلامي الأكثر قربا من الغرب على الرغم من المحاولات التي بذلتها الحكومة التركية الحالية لتقليص نفوذ المؤسسة العسكرية عبر الاتحاد الأوروبي.
ومنذ وصول حزب العدالة والتنمية ذي التوجه الإسلامي بمفرده إلى السلطة 2002 وبدعم شعبي كاسح شهدت تركيا باستمرار إعادة نظر من جانب القوى الإسلامية كحزب العدالة والتنمية ومن جانب الليبراليين أيضا الذين يؤكدون أن التشدد في السلطة والقومية يضر بالعملية الديموقراطية في البلاد.
ويخشى الجيش المعروف “حامي النظام العلماني التركي” أن يؤدي انتهاك المبادئ العلمانية للنظام علي المدى الطويل إلى إعلان انتهاء الجمهورية التي أسسها أتاتورك، وتبذل بالتالي النخبة العلمانية جهودا سياسية وقانونية وعسكرية مكثفة منذ السبعينيات لقمع أي ولادة جديدة للإسلام السياسي، وهذا ما ظهر جليا خلال المحاولة الانقلابية الفاشلة في الخامس عشر من تموز/ يوليو الماضي.
وتقوم فكرة العلمانية في تركيا بالمفهوم الكمالي على عدد من الأفكار الأساسية من أبرزها: النظام الجمهوري للحكم بدلا من الخلافة الإسلامية، الفكرة القومية بدلا من رابطة الدين والعقيدة، الثورة على كل الأفكار المعادية للكمالية.
العلمانيون لايثقون بإردوغان..
ومنذ الفوز الساحق الذي حققه حزب العدالة والتنمية في الانتخابات التشريعية في الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2002 والمعركة الكبرى بين الإسلاميين والعلمانيين تتمحور حول موضوع حساس هو “الماضي الإسلامي لإردوغان”. وعلى الرغم من إعلان إردوغان أكثر من مرة تخليه عن ماضيه الإسلامي إلا أن العلمانيين يراقبونه عن كثب وكانوا ينتظرون الفرصة المناسبة للانقاض على هذه الحكومة التي تشكل حالة من الأرق لدى النخبة العلمانية في تركيا عامة.
حزب العدالة والتنمية التركي والتعايش مع العلمانية..
نجح حزب العدالة والتنمية الإسلامي التركي بصورة غير مسبوقة داخليا وخارجيا خلال السنوات الماضية من وصوله للسلطة في نصر الإسلام السياسي وتغيير مفاعيل الزلزال العلماني كبداية حقيقية لعودة إلى الدين والتراث والأصالة..
فقد نجح رئيس الحزب سابقا الرئيس التركي حاليا رجب طيب أردوغان بدهائه في تجنب المصير الذي لحق بالأحزاب الإسلامية السابقة.
إردوغان سار ببطء وبخطوات واثقة ومحكمة باتجاه كسب ود الشارع التركي المسلم وإعادة الروح الإسلامية لهذا الشعب. فهذا الرجل خرج عن إطار التصريحات المبذولة للاستهلاك المحلي وتبنى موقفًا دفاعيًا محضًا يميل إلى التهدئة وتبديد المخاوف من احتمال تطبيق النموذج الإسلامي في الحكم وهذا يحسب لصالحه لأن قواعد اللعبة وطبيعة المفاجأة التي أحدثها وصول حزب العدالة والتنمية إلى البرلمان بهذه القوة وهذا الزخم تقتضي اللعبة بطريقة هادئة لا تثير حفيظة العلمانيين.
حزب العدالة والعلمانية:
مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم برز فهم خاص للعلمانية في تركيا فلم يتم إلغاؤها من الدستور إنما أفرغت من مضمونها بعد أن قدم الحزب فهما خاصا لها ومارس سياسات متتالية أعادت الاعتبار للمفاهيم والرموز الدينية في المجتمع والدولة وعلى الرغم من أن سياسات الحزب الحاكم أصبحت محافظة أكثر بعد العام 2011 إلا أنه أعاد الإسلام إلى الفضاء التركي العام عبر إحداث تغييرات اجتماعية عميقة غالبا ما ألحقها بقوانين وتشريعات كاستجابة لمطالب المواطنين، وذلك على نقيض “الأتاتوركية” التي فرضت العلمانية بشكل فوقي على الأتراك.
وكان رئيس البرلمان التركي إسماعيل قهرمان اعتبر في تصريح له في شهر نيسان/ أبريل 2016م أن الدستور الجديد لتركيا يجب أن يكون “دينيا” وأن “العلمانية” يجب أن لا تكون جزءا منه.
وقال قهرمان: “بصفتنا بلدا مسلما لماذا علينا أن نكون في وضع نتراجع فيه عن الدين؟ نحن بلد مسلم وبالتالي يجب أن نضع دستورا دينيا”. مضيفا أنه “قبل أي شيء آخر، يجب أن لا ترد العلمانية في الدستور الجديد”.
وطبقا للمراقبين السياسيين فإن الصراع في تركيا بين الإسلاميين والعلمانيين لن يتوقف بل سيظل مرشحا دائما للتصعيد كلما تفجرت قضية لا يتفق فيها الطرفان على رأي واحد. لكن الواضح للعيان أنه نظرا للتحول الذي طرأ على تركيا في ظل حزب العدالة والتنمية ستجد البلاد صعوبة إن لم يكن من المستحيل العودة إلى وضعها الذي كان سائدا في تسعينيات القرن الماضي.
تنامي التيار الإسلامي..
وبدا الفشل العلماني واضحا في صعود نزعة إسلامية في تركيا منذ فترة الثمانينيات إبان وصول الرئيس التركي الراحل “تورغوت أوزال” إلى الحكم الذي تنفس الإسلاميون في عهده الصعداء. فللمرة الأولى في تاريخ تركيا سقطت محرمات مثل التعرض لشخص أتاتورك بالنقد فقد انتقده حسن مزارجي نائب حزب الرفاه وسبه علنا وطالب بوقف تقليد زيارة ضريحه في أنقرة، وطالب علمانيون ببناء جامع في حديقة القصر الجمهوري بأنقرة.
وفي عهد حكومة حزب العدالة والتنمية الحالية لم يستطع العلمانيون أن يقفوا في وجه هذه الموجة الإيمانية المكتسحة فبدأت هذه اليقظة مؤخرا في تركيا صغيرة ثم كبرت وانتشرت حتى انتظمت وأول ما بدأ ظهورها وتجليها في شباب الجامعات.
وخلاصة الحديث.. لم يكن وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في العام 2002 حدثا عرضيا في تاريخ تركيا الحديث أو إنجازا نابعا من قوة وذكاء رؤسائه فقط بل إن هذا الانتصار أتى نتيجة استغلال تيار الإسلام السياسي لأخطاء العلمانيين المتتالية وفشل العلمانيين في تحقيق المساواة بين المواطنين أو تحقيق الاستقرار في المجتمع.
مستقبل العلمانية..
مما لا شك فيه أن العلمانية التركية تعرضت لضربات موجعة خلال الأعوام الماضية خصوصا في عهد حكومة حزب العدالة والتنمية والأمر المقطوع به هو أن العلمانية تقف حاليا على مفترق طرق حائرة تبحث من جديد تحديد وجهتها، فإلى أين تتجه؟.
وهكذا، نرى أن الشعب التركي برغم سيطرة العلمانية على كل شؤونه التشريعية والتعليمية والإعلامية والسياسية والاجتماعية طيلة الفترة الماضية ما زال شعبا مسلما في أعماقه وما زالت كلمة الإسلام تجد الاستجابة إذا وجدت الداعية الذي يفقه دين عصره وواقعه.