ترفع الدين شعارا لها.. شركات عالمية تجاهر بتوجهاتها الدينية
إعداد عماد أبو الفتوح
العمل لا يعكس كفاح صاحبه فقط، بل يعكس أيضا توجهاته وطريقة تفكيره واعتقاداته في الحياة. صحيح أن أساس أي عمل أو تجارة في أي مجـال يستند بشكل كامل إلى “رضـا العمـلاء” (Customer Satisfaction) الذي يؤدي بالتبعية إلى استمرارهم في استخدام المنتج أو الخدمة، لكن هذا لا يعني إطلاقا أن تكون شركتك بلا شخصيـة، أو تُتـرك للأسواق لتشكيلها كما يحب العميل.
قد يكون مُدهشا بالنسبة للبعض أن يعرف أن الكثير من الشركات العالميـة لها طابع شديد التديّن قائم بالأساس على شخصية مؤسّسيها ومديريها، واستمرت على مدار عقود في تقديم خدماتها المميزة دون أن تخفي توجهاتها الدينية والمحافظة. بعض هذه الشركات قررت الاستمرار على نهج إظهـار سياستها الدينية للجمهور، والبعض الآخر قرر الانصياع لضغط العمـلاء والتراجع عن هذه السياسة.
مع الشهرة العالمية الهائلة لفنادق “ماريوت” كإحدى أرقى العلامات التجارية في مجال الفنادق، قد يبدو من الصعب قليلا التصديق بأنها مؤسسة محافظة لها جذور دينية واضحة، باعتبار أنه من الصعب التوفيق بين مفهوم “رضا العمـلاء” من ناحية، وفرض معايير دينية أخلاقية عليه من ناحيـة أخرى، لكن هذه هي الحقيقة. تاريخيا، الجذور الدينية المحافظة لجون ويلارد ماريوت “مؤسس الشركة” واضحة ومعروفة عنه، حيث بدأ في إطلاق سلاسل فنادقه بعد إنهاء عامين من الخدمة الدينية في كنيسة المورمون في مدينة نيو إنجلاند.
لاحقا، بدأ جون ماريوت في تأسيس سلسلة فنادقه العالمية في الوقت الذي كان يتولى فيه مناصب قيادة داخل الكنيسة، وهو الأمر الذي جعل الكثير من الفنادق التي قام بتأسيسها تقوم بتوفيـر الكتاب المقدّس في غرف النزلاء بجانب السرير، في ظاهـرة واضحة للاتجاه الديني لإدارة الفنادق في عهده. وإن كان هذه الإجراء يُتبع في بعض المدن والولايات المعروف عنها التدين، ولم تُطبّق بشكل كامل على كافة الفنادق بالطبع خصوصا في الدول غير المسيحية.
بعد وفاته في عام 1985، استمر الانطباع الديني الذي خلّفه ماريوت على إدارة فنادقه التي تولت مسؤوليتها عائلته، فما زالت حتى الآن بعض الفنادق توفّر لنزلائها الكتاب المقدّس فضلا عن “كتاب المـورمون” الذي يعتبر كتابا مقدّسا للطائفة المسيحية التي تعتنقها أسرة ماريوت.
في السنوات الأخيرة، وبحسب تصـريح لبيل ماريوت المدير التنفيذي للشركة حتى استقالته في عام 2012، أعلن فيه أن الفنادق ترفض رفضا تاما توفير أي أفلام إباحيـة للنزلاء في غرفها لأنها تتعارض مع القيم المسيحية، ولأن الفندق موجّه لراحة النزلاء من العائلات بشكل أساسي، وهو الأمر الذي يجعل هذا النوع من الترفيه متعارضا مع قيم الشركة. (1، 2، 3، 4)
تعتبر شركة “آلاسكا إيرلاينز” واحدة من الشركات العريقة في مجال الطيران الداخلي في الولايات المتحدة، تأسست في عام 1932، ونجحت في الصمود على مدار عقود طويلة اعتُبرت فيها من أكثر شركات الطيران الداخلي نشاطا في أميـركا. قبل عام 2012، كان من الطبيعي تماما أن تجد نفسك أمام الوجبات الشهيـة التي تقدمها الشركة في رحلاتها، بجانبها ورقة ملاحظة أنيقة (Note Card) تحمل آيات من الكتاب المقدّس.
كان هذا الإجراء متّبعا على مدار عقود طويلة –منذ بداية عقد السبعينيات تقريبا- كعلامة واضحة من الشركة لزبائنها على انتمائها المسيحي وتديّن إدارتها، وأيضا “كانعكـاس للثقافة المسيحية للبلاد” كما أوضحت الشركة في رسالة أرسلتها إلى أحد المحررين الصحفيين الذي انتقد هذا الإجراء، مدافعـة عن سياستها في طرح آيات الإنجيل لركّابها أثناء الوجبات، ومبررة أن هذا الإجراء لا ينتهك سياسة رضا العمـلاء الذين يكونون من أديان وأعراق مختلفة وليس شرطا أن يكونوا منتمين إلى العقيدة المسيحية.
ومع ذلك، وبقدوم عام 2012، قررت إدارة الشركة وقف هذا التقليد الذي استمر لأكثر من ثلاثين عاما، ومنع تقديم آيات من الكتاب المقدّس برفقـة وجباتها لعملائها احتراما لتنوّع أديان وأعراق الركّاب، باعتبار أن المعتقدات الدينية أمر خاص بمعتنقيها، وأن مشاركة هذه الاعتقادات مع الآخرين هو أمر جائز في إطار الحرية الفردية ولكن ليس ممكنا في إطار الخدمات العامة. (5، 6، 7، 8)
في عالم صناعة الغذاء عموما، لا أحد يجهـل اسم شركة “تايسون فودز”، الشركة الأميركية التي تأسست عام 1935 ويقع مقرها في ولاية أركنساس والتي تعتبر ثاني أكبر مصنّع ومسوّق لمنتجات الدجاج وأكبر مصنّع لمنتجات اللحوم عالميا، مما جعلها تدخل في قائمة فوربس لأكبر 100 شركة عملاقة في الولايات المتحدة لعدة سنوات.
الشركة تملك نحو 300 مصنع لتصنيع الطعام وتوظف أكثر من 113 ألف موظف في أميركا والعالم، وتعتبر هي المموّن الرئيس لمجموعة من أهم سلاسل المطاعم السريعة في العالم مثل ماكدونالدز وكنتاكي وبرجر كينج وول مارت وتاكو بيل وغيرها. بمعنى آخر، الصفة العالميـة الملاصقة لشركة تايسون فودز أكبر بكثير من مجرد كونها شركة أميـركية عملاقة.
ومع ذلك، الصفة الدينية لشركة تايسون فودز واضحة وعلنية تماما. في عام 2000، وصل الانتماء الديني للشركة إلى درجة إطلاق برنامج كامل للدعم الديني “Chaplaincy program” في الشركة بهدف دعم ومساعدة جميع الموظفين في كافة قطاعات الشركة لمزاولة صلواتهم الدينية، وصل عددها حتى الآن نحو 120 مركزا في كافة أفرع الشركة في أميـركا وخارجها، بحيث أصبح من المألوف تماما أن تجد قساوسة ورجال دين في مقرات الشركة لتقديم الدعم الديني للموظفين يوميا.
وبذلك تعتبر الشركة –وفقا لتصريح رئيس مجلس إدارتها جون تايسون– شركة صديقة للدين (Faith friendly company) تمثّل قيما عميقة تنعكس على جودة منتجـاتها. (9، 10، 11)
بمجرد ذكـر سلسلة مطاعم “تشيك فيل أيه” (Chick Fil A) للوجبات السريعة الأميـركية، فنحن هنا نذكـر اسم الشـركة الأشهـر في أميـركا على الإطلاق من حيث التدين واتباع القيم المسيحية المحافظة والإعلان عنها بشكل مباشر. الشركة تأسست أصلا بواسطة رجل الدين المسيحي “ترويت كاثي” في عام 1946 في ولاية جورجيا، ومن وقتها استطاعت أن تحقق نجاحا هائلا كواحدة من أكبر سلاسل الوجبات السريعة الأميـركية.
الشركة التي تضم الآن أكثر من 2200 فرع منتشر في كافة الولايات الأميـركية ويعمل لديها آلاف الموظفين، تتبع تقاليد مسيحية بشكل صارم ليس أولها إغلاق أبوابها يوم الأحد تحديدا –وهو أمر غير معتاد بالنسبة لسلاسل الوجبات السريعة التي تعمل سبعة أيام أسبوعيا لتلبية الطلبات-، وليس آخرها نشر جمل وصياغات دينية واضحـة في أرجاء مطاعمها أو موقعها الإلكتروني، وأيضا جمع التبرعات للكنائس والمجموعات التبشيرية التي تعمل في المجتمع الأميـركي.
إلا أن هذا التدين المحافظ قاد الشركة إلى العديد من المشاكل أيضا، أبرزها تصريح مديرها التنفيذي دان كاثي –ابن مؤسس الشركة– في عام 2012 بخصوص رأيه في زواج المثليين، وهجومه العنيف على هذه الممارسات من ناحيـة دينية، قائلا إن شركته تدعم بشكل صريح ومباشر مفهوم الأسرة الصالحة القائمة على تعاليم الإنجيل، وهو ما جلب له انتقادات كبيـرة من مجتمع المثليين في أميركا وصلت إلى حد دعوات المقاطعة.
ومع ذلك، وبالرغم من هذه التصريحات الصدامية فإن “تشيك فيل أيه” (Chick Fil A) استمرت في النمو بشكل كبير حتى صُنّفت عام 2015 في المركز الثامن في قائمة أفضل الصناعات في أميـركا جنبا إلى جنب لشركات كبيرة مثل “KFC” وغيرها، وهو الأمر الذي قادها إلى المزيد من التوسع في أميـركا لتفتتح أفرعا لها في أكثر المدن الأميركية تحررا بعد انتشارها في الولايات والمدن الأكثر تدينا. (11، 12، 13)
يعرف المهتمـون بشؤون الموضة اسم “فوريفر 21″ (Forever 21) جيدا، باعتباره واحدا من أهم متاجر الموضة الأميـركية سريعة الانتشار التي تأسست في عام 1984 واستطاعت على مدار سنواتها التي تجاوزت الثلاثين أن تتمدد لتصبح علامة تجارية عالمية تنتشر في أميركا وأوروبا وآسيا وحتى الشرق الأوسط بما يقارب 30 ألف موظف، ولتعتبر أيضا خامس أكبر علامة تجارية في هذا المجال في أميركا. لكن قصة تأسيس هذا المتجر ضاربة في عمق جذور التدين بلا شك. في الأساس، “فوريفر 21” مملوك لجين سوك ودو ونج جانك وهما زوجان مهاجـران من كوريا الجنـوبية إلى أميـركا، بعد انتقالهما إلى كاليفـورنيا عملا في العديد من الأعمال.
في عام 1984، قرر الزوجان افتتاح أول متجر للملابس، بعد أن صعدت مسز تشانج إلى قمة جبل وقامت بتأدية الصلاة في خشوع، حينئذ أخبرها الرب بأن تذهب لافتتاح متجر ناجح. لاحقا، وبحسب تصريحاتها لـ “بلومبيـرغ بيزنس” قالت إن كل قرار قامت هي وزوجها باتخاذه كان مبنيا على صلاة خاشعة، وهو الأمر الذي جعلهما يولدان مسيحيان من جديد.
هذا الإيمان العميق لم يقتصـر فقط على حياتهما الشخصية، بل امتد ليشمل أيضا إضفاء الطابع الديني على بعض منتجات الشركة من الملابس، حيث تقوم الشركة بطرح ملابس وحقائب مزوّدة بعبارات مقتبسة من الإنجيل، كان أبرزها في عام 2011 عندما طرحت الشركة بعض الأردية المزوّدة بشعارات واضحة تقول: المسيح يحبّك.
اليوم، وصل عدد الفروع التي تملكها الشركة عالميا مابين 600 – 700 فرع عالمي بقيمة تساوي 8 مليارات دولار، ولا تزال تنتهج النهج الديني نفسه في طرح منتجـاتها في السوق الأميـركي والعالمي. (11، 14، 15، 16)
في النهاية، لا أحد يمنعك من إظهـار اتجاهاتك واعتقاداتك الشخصية في شركتك طالما كان المنتج أو الخدمة التي تقدمها مُرضية للعملاء، وطالما كانت هذه الاتجاهات والاعتقادات غير مسيئة لهم أو تمثّـل فرضا معينا للأفكـار عليهم.الكثير من الشركات العالمية ما زالت تحتفظ بهويتها الدينية الخاصة في الوقت الذي تقدم فيه خدمـاتها للجمهور بمختلف أديانه وأعراقه.
(المصدر: ميدان الجزيرة)