ترجمة وتعريب العلوم ضرورة حتمية .. أين نحن منه؟
بقلم أ. د. عبدالله بن محمد الشعلان
لقد تمكنت اللغة العربية منذ الأزل من أخذ مكانتها اللائقة بها بين اللغات العالمية الحية في مجالات العلوم والتقنيات الحديثة بجانب مكانتها السامية التي أحرزتها وتبوأتها عبر تاريخها الطويل في مجالات العلوم الدينية والشرعية، وفي مضامير الشعر والأدب والتاريخ والجغرافيا، ناهيك عمّا وصلت إليه في ميادين الرياضيات والفلك والطب والكيمياء والصيدلة. وعلى هذا الأساس يطالب الكثير من أساتذة وطلبة كلياتنا العلمية في جامعاتنا العربية بضرورة تدريس المواد العلمية باللغة العربية نظرًا لكونها لغتهم الأم التي يسهل بواسطتها إيصال المعلومات تعليمًا وتعلمًا وتلقينا وتلقيًا. ولا يزال التعليم في كلياتنا العلمية مثل الطب والهندسة وتقنيات المعلومات وبقية العلوم كالفيزياء والأحياء والكيمياء والرياضيات ينهج حتى الآن نحو اللغات الأجنبية التي هي لغاته الأصلية.
ولعل من المنطق أن أقصر بل وأفضل طريقة لتوصيل المعلومات إلى الطالب العربي هي استخدام اللغة العربية، لذا لو قامت حركة جادة لترجمة العلوم وتعريبها والتأليف فيها لتمكنت اللغة العربية من ترسيخ وتعظيم مكانتها اللائقة بها بين اللغات العالمية الحية في مجالات العلوم والتقنيات الحديثة بجانب مكانتها السامية التي أحرزتها وتبوأتها عبر تاريخها الطويل في مجالات العلوم الدينية والشرعية، ناهيك عمّا وصلت إليه في ميادين الشعر والأدب والتاريخ والجغرافيا والرياضيات والفلك والطب والكيمياء والصيدلة.
فإذا نظرنا لعمليتي الترجمة والتعريب كمنطلق لتحقيق هذا المطلب لوجدنا أنهما لفظان متلازمان، فالمترجم إلى العربية لا بد له أن يصادف ما يصعب عليه تعريبه في المصطلحات العلمية والمسميات التقنية في لغاتها الأصلية، ففي مجال الكيمياء مثلاً وقف المترجمون حيارى أمام أسماء معظم العناصر الكيميائية ولم يكن أمامهم من مخرج لتعريبها، فدخلت إلى العربية كلمات مثل: الكوبالت ولنيتروجين والمغنيسيوم والأكسجين والهيدروجين ومئات غيرها. وفي ميادين الطب والصيدلة ظهرت لنا كلمات معربة مثل: الأسبرين والبنسلين والهيموجلوبين، وحدث نفس الشيء في ميادين الرياضيات والفيزياء والحاسوب وغيرها من العلوم البحتة نتيجة للغزو الهائل من الصناعات والاختراعات والابتكارات التي تنهال علينا وتترى حولنا من كل حدب وصوب.
كما أفادت اللغة العربية من الترجمة والتعريب مما زادها تألقًا وثراءً وتوسعًا وانتشارًا وعالميةً وثراء، حيث إن اللغة العربية لغة مرنة وسلسة وطيعة تقبل الألفاظ الأجنبية والمصطلحات التقنية وذلك لسهولة النحت والتصريف والاشتقاق والقياس فيها، بيد أنه لا يتم القيام بعملية التعريب إلا عند الحاجة والضرورة. لذا يستحسن عند تعريب الألفاظ والمصطلحات الأجنبية أن يراعى ما يلي:
1 – يفضل التغيير ما أمكن في شكل المصطلح حتى يصبح موافقًا للصيغة العربية ومضاهيًا لها، فمثلاً عندما ترجمت كلمة: تلفزيون إلى العربية وأصبحت (الرائي أو المرناة) لم تجد هذه الكلمة العربية قبولاً مستساغًا بين أوساط الناس فكان لا مندوحة من تعريب الكلمة الأجنبية مع بعض التغيير الذي يضاهي العربية فأصبح لدينا كلمة: تلفاز (وإن كانت غير مستخدمة على نطاق واسع). كما نجحنا في تعريب كلمة: تلفون لتصبح: الهاتف (وإن كانت الأولى لا تزال مستخدمة كلفظها الأصلي) وكذلك: كمبيوتر إلى حاسب آلي أو حاسوب وكذلك راديو إلى مذياع. وعند تعريب المصطلح العلمي يمكن كتابته باللغة العربية بصيغة أو بنيوية متوافقة مع المحافظة على لفظه ومعناه قدر المستطاع، فمثلاً كلمة: تلفزيون عربت تلفاز، وكلمة: فيزيكس عربت فيزياء، وكذلك تكنولوجيا أصبحت: تقنية وماستر صارت ماجستير وكوليج: كلية، وبتروليوم: بترول، وهكذا، ناهيك عن أسماء الدول التي يعرفها القارئ ولا داعي لذكرها هنا.
2 – يجب اعتبار المصطلح المعرب عربيًا بحيث يخضع لقواعد اللغة ويجوز فيه الاشتقاق والنحت والتصريف وتستخدم فيه أدوات البدء والإلحاق مع مواءمته للصيغة العربية، وهنا بعض الأمثلة:
دكتور: يمكن جمعها جمع تكسير فتصبح: دكاترة.
بروتون، نيوترون: يمكن جمعها جمع مؤنث سالم فتصبح: بروتونات، نيوترونات.
أكسيد: يمكن اشتقاق فعل منها فتصبح: يتأكسد، أو جمعها: أكاسيد.
إلكترون: يمكن إلحاقها بأل التعريف فتصبح: الإلكترون (الإلكترونات) أو صفة (معدات |إلكترونية).
3 – يحب تصويب الكلمات العربية التي حرفتها اللغات الأجنبية واستعمالها باعتماد أصلها الفصيح، فمثلاً كلمة: syrup أصلها العربي: شراب، وكلمة: alcohol أصلها العربي: الكحول، وكلمة: gas أصلها العربي: غاز، وكلمة: arsenic أصلها العربي: الزرنيخ، وكلمة: naphthaأصلها العربي: نفط، وكلمة: cave كهف، وكلمة: guide قائد، وهكذا.
4 – ثمة كلمات أجنبية دخيلة (وما أكثرها) اقتحمت واخترقت لغتنا العربية دونما استئذان فاستباحت ساحتها وفرضت نفسها عليها واحتلت مكانًا بين مفرداتها، ويُعدُّ هذا أحد عيوبنا في السماح لها والتغاضي عنها بل والترحيب بها ومن ثم استخدامها دونما وعي أن في العربية معاني ومترادفات تحل محلها وتغني عنها، فخذ على سبيل المثال: ماراثون: سباق، كود: نظام، لوبي: تأثير، كلاسيكي: تقليدي، رومانسي: عاطفي، دراما: مشكلات نفسية وعاطفية، كوميديا: مرح، تراجيديا: مأساة، كنترول: تحكم، تكنولوجيا: تقنية، |إلى جانب مسميات مستجدة اخرى لا بد من إيجاد صيغ ومعان أو مرادفًا لها مثل: مول وجاليريا وبلازا، إلخ.
ولعل من قبيل التقدير والاعتراف بالفضل والامتنان أن نذكر بعضًا من الجهات على سبيل المثال لا الحصر التي كان لها دور في مجالات الترجمة والتعريب وتوحيد المصطلحات، وهي:
1 – هيئات التقييس (للمواصفات القياسية): ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر الهيئة السعودية للمواصفات والمقاييس والجودة وهيئة التقييس الخليجية والشعبة القومية المصرية للمواصفات والمقاييس وهيئة المواصفات والمقاييس العربية السورية حيث دأبت هذه الهيئات الرسمية المعنية بالتقييس على ترجمة الكثير من المواصفات القياسية الصادرة من الهيئة الكهرتقنية الدولية (IEC) لشتّى أنواع السلع الغذائية والمنتجات الصناعية والتقنية وتم مراجعتها وتدقيقها من قبل لجانها الفنية المتخصصة. وحرصًا من تلك الهيئات على إنجاح عملية ترجمة المواصفات القياسية فقد سعت إلى إلحاق كل مواصفة بقائمة من المصطلحات الفنية، وكان لها تعاون وتنسيق في هذا المجال مع دول عربية أخرى في مجال تعريب المصطلحات الفنية وتوحيدها، ولم يقتصر دور تلك الهيئات عند هذا الحد بل تم إيصال تلك المصطلحات المعربة إلى موقع الإلكتروبيديا (Electropedia) الخاص بالمصطلحات التقنية العالمية (IEV) التابع للهيئة الدولية الكهرتقنية (IEC) لتصبح ضمن مصطلحات مترجمة لعشر دول أوروبية أخرى.
2 – الجامعات العربية: أنشئ في أغلب جامعاتنا العربية أقسام متخصصة في اللغات والترجمة ومراكز للترجمة، وهي بلا شك تقوم على عاتقها ضمن خططها الدراسية وبرامجها العلمية في حل المعضلات وإزالة العقبات التي تقف في وجه طلاب الدراسات العليا في الكليات العلمية التي يرونها عائقًا دون كتابة رسائلهم (للماجستير والدكتوراه) باللغة العربية لغياب ترجمات معتمدة وموثوق بها للمفاهيم التقنية والمصطلحات العلمية. كما تسعى تلك الجامعات عبر جهود الترجمة إلى إثراء المحتوى العلمي والثقافي في التخصصات العلمية في الجامعات من خلال تعريب الكتب والمراجع العلمية المتخصصة وترجمة الدوريات العلمية والأبحاث المتميزة الصادرة في الجامعات إلى اللغات العالمية الأخرى.
3 – مكتب تنسيق التعريب: ومقره في مدينة الرباط بالمغرب وهو تابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وله نشاط مشهود في إصدار المعاجم اللغوية وتعريب المصطلحات التقنية مُعينًا ومُساندًا في هذه الجهود نحو إنهاء تباين وتشتت المصطلحات والمترادفات في الدول العربية وساعيًا نحو تقريبها وتجانسها وتوحيدها، وهو مجال بذلت فيه المنظمة وجهازها المتخصص (مكتب تنسيق التعريب)، مجهودات متميزة، لتمكين اللغة العربية من استعادة دورها في النهضة العلمية، والتعبير عن كل المنجزات الحضارية والتقنية في كل مناحي الحياة المعاصرة نحو إيجاد المقابلات العربية لأدق المصطلحات العلمية والتقنية الجديدة، والعمل على تنسيقها وتوحيدها وإقرارها في مؤتمرات التعريب، التي يعقدها المكتب، والتي تشارك فيه كل الدول العربية.
4 – المركز العربي للتعريب والترجمة والتأليف والنشر: وهو جهاز متخصص مقره دمشق، تابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، يقوم بتحقيق أهدافه وأداء مهامه في المساعدة على تعريب التعليم العالي والجامعي بفروعه وميادينه كافة في الوطن العربي، بما في ذلك تأمين حاجات التعريب من المراجع والكتب والدراسات والبحوث والمستخلصات ترجمة وتأليفًا ونشرًا وتوزيعًا، كذلك التعاون مع الجهات المختصة ومنها مجامع اللغة العربية، ومراكز البحوث، واتحاد الجامعات العربية وسائر الجهات المعنية الأخرى العربية والدولية، إلى جانب تنسيق مجهودات الترجمة والتأليف التي تتم في الوطن العربي وتنشيط تبادل الخبرات والمطبوعات بين المؤسسات العربية العاملة في هذا الميدان.
وأخيرًا، إن تعريب العلوم ليس هدفًا مستحيلاً أو مستعصيًا أو بعيد المنال بل أضحى مطلبًا وطنيًا ملحًا في بلداننا العربية وضرورة حتمية أملته ظروف عصر تتفتق فيه الإبداعات والابتكارات بشكل متلاحق وتحتدم فيه التغيرات التقنية والمعلوماتية على نحو مذهل، ولا يجمل بنا نحن أبناء اللغة العربية أن نقف مكتوفي الأيدي أو كمتفرجين وكأن الأمر لا يعنينا، كيف لا ولغتنا العربية هذه لغة ثرية في مفرداتها غنية في اشتقاقاتها جزلة في مدلولاتها ومعانيها شرفها الله عزّ وجلّ بأن جعلها لغة كتابه الكريم الذي أنزله على أشرف الخلق أجمعين، إذ يقول عز من قائل: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف: ٢)، وكذلك (قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (الزمر: ٢٨)، وقوله عز من قائل: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا) (طه:113)، وقوله أصدق القائلين: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (فصلت: 3). وقوله جل وعلا: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (الشعراء: الآيات 193 – 195).
(المصدر: مجلة فكر الثقافية)