ترتيل القرآن.. بين أهل التفسير ومحمد شحرور
بقلم شريف محمد جابر
في أكثر من لقاء ونصّ مكتوب، يزعم المفكر العلماني محمد شحرور أنّ علماء الإسلام حرّفوا معنى “الترتيل” المذكور في قوله تعالى {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}، فيقول في برنامج له على قناة “روتانا خليجية” إنّ المفهوم التراثي للترتيل مفهوم خادع، وإنّ العلماء فهموا الترتيل بمعنى الصوت، وإنّ هذا المفهوم للترتيل وافدٌ من المسيحيين الذين يرتّلون الصلوات في الكنائس! وقال بالعامية عن هذا المعنى المغلوط برأيه للترتيل: “صار بقى غنّة ومدّة والغنّة والإقبال (!) والإغنام (!) والمدّة ومدّتين إلى آخره”! ويقول في مقال “الإيمان والإسلام” في مجلة روز اليوسف المنشور على موقعه في الشبكة: “ولا يُعقل مطلقًا – إذا أخذنا بالمعنى التراثي للترتيل – أن يكون التغنّي بالقرآن على الألحان بصوت حسنٍ بابًا من أبواب التأهّب لتلقي الرسالة السماوية بمسؤولياتها الجسام”.
ويرى شحرور في مقابل هذا المعنى الذي يفتريه على العلماء أنّ الترتيل هو “مجموعة متجانسة”، كما يُقال: رتلٌ من الدبابات (لاحظ الاستشهاد بالتعبير المعاصر!). ويقول في موقعه عن معنى الترتيل: “جمع الآيات ذات الموضوع الواحد في رتل. مثل ترتيل الآيات التي تتعلق بموضوع آدم أو خلق الكون. والترتيل يكون لمواضيع القرآن فقط”.
وقبل مناقشة تعريف شحرور للترتيل، أحبّ أن أبيّن افتراءه على علماء الإسلام، فلم يقل أحدٌ منهم إنّ الترتيل هو تحسين الصوت وتجميله أو التغنّي بالألحان! بل يتّضح أنّ شحرور لا يفرّق بين ثلاثة مفاهيم: بين “الترتيل” و”تحسين الصوت وتلحينه” و”أحكام التجويد”! وبمراجعة أبرز التفاسير التراثية سنجد أنّهم فهموا الترتيل بمعان متقاربة تفيد الترسّل والتبيين والتؤدة التي تُعين على تدبّر القرآن وفهمه والتأثّر بآياته وأدائه للناس، وهذه بعض أقوال المفسرين التي تمثّل ما قيل عن الترتيل عند أهل التفسير، وليس فيها قولٌ واحدٌ تحدّث عن تحسين الصوت والتغنّي به كما يفعل النصارى في كنائسهم على حدّ زعمه!
إن المفسّرين مجتمعون على دلالة واحدة للترتيل، وهي: الترسّلُ والتبيين والتؤدة والتلبّث والتأنّي والتمهّل في التلاوة، وهي جميعها معانٍ متقاربة |
– مقاتل بن سليمان (150 هـ): “ترسّل به ترسُّلا على هينتك رويدًا. يعني عزّ وجلّ: بيّنهُ تبيينًا”.
– الفراء (207 هـ): “يقول: اقرأه على هِينتك ترسُّلا”.
– ابن قتيبة (276 هـ): “والترتيل في القراءة: التبيين لها. كأنه يفصّل بين الحرف والحرف، ومنه قيل: ثغرٌ رتلٌ ورتل؛ إذا كان مفلّجا. يقال: كلام رتلٌ، أي مرتّل؛ وثغرٌ رتلٌ، يعني إذا كان مستوى النبات؛ ورجل رتِلٌ – بالكسر – بين الرتل: إذا كان مفلج الأسنان.
– الطبري (310 هـ): “وبيّن القرآن إذا قرأته تبيينا، وترسّل فيه ترسلا”. وقد استفاد هذا المعنى مما رواه عن ابن عباس (68 هـ) والحسن (110 هـ) ومجاهد (104 هـ) وقتادة (118 هـ) وغيرهم.
– الزجّاج (311 هـ): “بيّنْه تبيينا، والتبيين لا يتم بأن يعجل في القرآن، إنما يتم بأن تُبيّن جميع الحروف وتوفى حقّها في الإشباع”.
– الماتُريدي (333 هـ): “الترتيل، هو التبيين في اللغة، أي: بيّنه تبيينا”. وقال كلاما نفيسا عن سبب الأمر بالترتيل في تفسيره فليُراجع.
– النحّاس (338 هـ): “حقيقتُه في كلام العرب: تلبّثْ في قراءته وافصل الحرف من الحرف الذي بعده، ولا تستعجل فيدخل بعض الحروف في بعض. مشتقّ من الرتل. قال الأصمعي: وفي الأسنان الرتل، وهو أن يكون بين الأسنان الفرج، لا يركب بعضها بعضا، يقال ثغْرٌ رتلٌ. قال أبو جعفر: وهذا قول صحيح بيّن. وقيل: هو من الرّتل الذي هو الضعف واللين. فالمعنى: ليّن القراءة ولا تستعجل بالانكماش”.
– السمرقندي (373 هـ): “يعني: ترسّل فيه. وقال الحسن: بيّنه إذا قرأته”.
– ابن أبي زمنين (399 هـ): “أَي: ترسَّل فِيهِ ترسُّلا”.
– ابن فورك (406 هـ): “الترتيل: ترتيب الحروف على حقها في تلاوتها، وأما الحدرُ فإسراع فيهما، وكلاهما حسنٌ: الترتيلُ والحدرُ، إلا أن الترغيب ها هنا في الترتيل”.
– الثعلبي (427 هـ): “فصّلْه تفصيلا ولا تعجَل في قراءته، وهو من قول العرب: ثغرٌ رتلٌ ورتل إذا كان مفلجًا”.
– مكّي بن أبي طالب (437 هـ): “أي: وبيّن القرآن إذا قرأته في صلاتك تبيينًا وترسّل فيه ترسلًا، قاله قتادة. قال الحسن: معناه اقرأه قراءة بيّنة. وقال مجاهد: اقرأه بعضه على إثر بعض على تؤدة. والرتل في اللغة: الضعف واللين، فالمعنى: ليّنِ القراءة، ولا تستعجل بانكماش. والرتل في الأسنان: أن يكون بينها الفرج ولا يركب بعضها بعضًا، يقال: ثغرٌ رتلٌ إذا كان كذلك”.
– الماوردي (450 هـ): يورد الإمام الماوردي جميع أوجه تفسير الترتيل فيقول: فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بيّن القرآن تبيانا، قاله ابن عباس وزيد بن أسلم. الثاني: فسّره تفسيرا، قاله ابن جبير. الثالث: أن تقرأه على نظمه وتواليه، لا تغيّر لفظا ولا تقدّم مؤخرا، مأخوذٌ من ترتيل الأسنان إذا استوى نبتُها وحسُنَ انتظامها، قاله ابن بحر”.
– القشيري (465 هـ): “ارتعْ بسرّك في فهمه، وتأنَّ بلسانك في قراءته”.
– الواحدي (468 هـ): “بيّنْه تبيينًا، بعضه على إثر بعض في تؤدةٍ”.
– السمعاني (489 هـ): “وَحَقِيقَة الترتيل هُوَ الترسّل فِي الْقِرَاءَة وإلقاء الْحُرُوف حَقّهَا من الإشباع بِلَا عجل وَلَا هذرمة. وروى أَبُو جَمْرَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: لِأَن أَقرَأ سُورَة الْبَقَرَة أرتّلُ ترتيلا أحبُّ إِلَيّ من أَن أَقرَأ جَمِيع الْقُرْآن هذرمةً”.
– البغوي (516 هـ): “قال ابْنُ عَبَّاسٍ: بَيِّنْهُ بَيَانًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: اقْرَأْهُ قِرَاءَةً بَيِّنَةً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَرَسَّلْ فِيهِ تُرْسُّلًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: تَثَبَّتْ فِيهِ تَثَبُّتًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: اقْرَأْهُ عَلَى هَيْنَتِكَ ثَلَاثَ آيَاتٍ أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا”.
– الزمخشري (538 هـ): “قراءته على ترسُّلٍ وتؤدةٍ بتبيين الحروف وإشباع الحركات، حتى يجيء المتلوّ منه شبيها بالثغر المرتّل: وهو المفلّج المشبّه بنَوْر الأقحوان، وألا يهذّه هذًّا ولا يسرده سردًا، كما قال عمر رضى الله عنه: شرّ السير الحقحقة [شدّة السير]، وشرّ القراءة الهذرمة [سرعة القراءة]، حتى يشبهَ المتلوُّ في تتابعه الثّغْرَ الألصّ [متقارب الأسنان]”.
العلماء ربطوا معنى الترتيل هذا برسالة القرآن، فجعلوه وسيلة لتدبّر القرآن وتلقّي خطابه كما يليق به
– ابن عطية (546 هـ): “وَرَتِّلِ” مَعْناهُ في اللُغَةِ: تَمَهَّلْ وفَرِّقْ بَيْنَ الحُرُوفِ لِتُبَيِّنَ، والمَقْصِدُ أنْ يَجِدَ الفِكْرُ فُسْحَةً لِلنَّظَرِ وفَهْمِ المَعانِي، وبِذَلِكَ يَرِقُّ القَلْبُ ويَفِيضُ عَلَيْهِ النُورُ والرَحْمَةُ، قالَ ابْنُ كَيْسانَ: المُرادُ تَفَهُّمُهُ تالِيًا لَهُ، ومِنهُ: “الثَغْرُ الرَتَلُ” أى الَّذِي بَيَّنَهُ فَسْخٌ وفُتُوحٌ، ورُوِيَ أنَّ قِراءَةَ رَسُولِ اللهِ ﷺ كانَتْ بَيِّنَةً مُتَرَسِّلَةً، لَوْ شاءَ أحَدٌ أنْ يَعُدَّ الحُرُوفَ لَعَدَّها”.
– الرازي (606 هـ): نقل كلام الزجّاج وزاد عليه: “قال المبرّد: أصله من قولهم: ثغْرٌ رتلٌ إذا كان بين الثنايا افتراق ليس بالكثير، وقال الليث: الترتيل تنسيق الشيء، وثغْرٌ رتلٌ: حسن التنضيد، ورتّلتُ الكلام ترتيلا: إذا تمهّلتُ فيه وأحسنت تأليفه، وقوله تعالى: {تَرْتِيلًا} تأكيد في إيجاب الأمر به، وأنه مما لا بد منه للقارئ. واعلم أنه تعالى لما أمره بصلاة الليل أمره بترتيل القرآن حتى يتمكن الخاطر من التأمل في حقائق تلك الآيات ودقائقها، فعند الوصول إلى ذكر الله يستشعر عظمته وجلالته، وعند الوصول إلى الوعد والوعيد يحصل الرجاء والخوف، وحينئذ يستنير القلب بنور معرفة الله، والإسراع في القراءة يدلّ على عدم الوقوف على المعاني؛ لأن النفس تبتهج بذكر الأمور الإلهية الروحانية، ومن ابتهج بشيء أحبّ ذكره، ومن أحبّ شيئا لم يمر عليه بسرعة، فظهر أنّ المقصود من الترتيل إنما هو حضور القلب وكمال المعرفة”.
– القرطبي (671 هـ): “أي لا تعجل بقراءة القرآن بل اقرأه في مهلٍ وبيانٍ مع تدبُّر المعاني”.
– البيضاوي (685 هـ): “اقرأه على تؤدة وتبيين حروف بحيث يتمكن السامع من عدّها، من قوله: ثغرٌ رتلٌ ورتل إذا كان مفلجًا”.
– النسَفي (710 هـ): “بَيِّنْ، وَفَصِّلْ، مِن اَلثَّغْرُ المُرَتَّلُ، أيْ: اَلْمُفَلَّجُ الأسْنانِ، وكَلامٌ رَتَلٌ، بِالتَحْرِيكِ، أيْ: مُرَتَّلٌ، وثَغْرٌ رَتَلٌ، أيْضًا، إذا كانَ مُسْتَوِيَ البُنْيانِ، أوْ: اِقْرَأْ عَلى تُؤَدَةٍ، بِتَبْيِينِ الحُرُوفِ، وحِفْظِ الوُقُوفِ، وإشْباعِ الحَرَكاتِ”.
– ابن جُزَيّ الغرناطي (741 هـ): “الترتيل هو التمهّل والمدّ وإشباعُ الحركات وبيانُ الحروف، وذلك مُعينٌ على التفكُّر في معاني القرآن، بخلاف الهذر الذي لا يفقه صاحبه ما يقول، وكان رسول الله ﷺ يُقَطِّع قراءته حرفًا حرفًا، ولا يمرُّ بآية رحمة إلا وقف وسأل، ولا يمرّ بآية عذاب، إلا وقف وتعوَّذ”.
– ابن كثير (774 هـ): “اقرأه على تمهُّل، فإنه يكون عونًا على فهم القرآن وتدبّره. وكذلك كان يقرأ صلوات الله وسلامه عليه، قالت عائشة: كان يقرأ السورة فيرتّلها، حتى تكون أطول من أطول منها. وفي صحيح البخاري، عن أنس: أنه سئل عن قراءة رسول الله ﷺ، فقال: كانت مدّا، ثم قرأ {بسم الله الرحمن الرحيم} يمدّ بسم الله، ويمدّ الرحمن، ويمدّ الرحيم”.
– ابن عادل (808 هـ): “أي: لا تعجل في قراءة القرآنِ بل اقرأه على مهلٍ وهينة، وبينه تبيينًا مع تدبُّر المعاني”.
– ابن الهائم (815 هـ): “التّرتيل في القراءة: التّبيين لها كأنّه يفصل بين الحرف والحرف، ومنه قيل: ثغرٌ رتل ورتل: إذا كان مفلّجا لم يلصق بعض الأسنان على بعض، ولا يركب بعضها بعضا”.
– الثعالبي (875 هـ): نقل كلام ابن عطية وزاد عليه: “قال الغزاليُّ في «الإحياء»: واعْلَمْ أنَّ التَرْتِيلَ والتَّؤُدَةَ أقْرَبُ إلى التوقير والاحترامِ، وأشَدُّ تأثيراً في القلبِ من الهَذرَمَةِ والاسْتِعْجَالِ، والمَقْصُودُ مِنَ القراءَةِ التفكُّرُ، والترتيلُ مُعِينٌ عَلَيْهِ”.
– البقاعي (885 هـ): قال كلاما شبيها بكلام الزمخشري وزاد: “فإنّ ذلك موجبٌ لتدبّره فتُكشف له مهمّاته، وينجلي عليه أسراره وخفيّاته. قال ابن مسعود رضي الله عنه: ولا تنثروه نثرَ الدقل ولا تهذوه هذّ الشعر، ولكن قِفوا عند عجائبه وحرّكوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة”.
– الإيجي (905 هـ): “بيّنه، واقرأه على تؤدة، وتبيين حروف”.
– الجلالين (864، 911 هـ): “تَثبّتْ في تلاوته”.
– أبو السعود (982 هـ): “{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ} وفي أثْناءِ ما ذُكِرَ مِنَ القِيامِ، أيِ: اقْرَأْهُ عَلى تُؤَدَةٍ وتَبْيِينِ حُرُوفٍ. {تَرْتِيلًا} بَلِيغًا بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ السّامِعُ مِن عَدِّها مِن قَوْلِهِمْ: ثَغْرٌ رَتَلٌ ورَتِلٌ إذا كانَ مُفَلَّجًا”.
– الملا علي القاري (1014 هـ): “اقرأه على تؤدةٍ وتبيين حروف من سكون وحركة”.
– إسماعيل حقّي (1127 هـ): “أي اقرأه على تؤدةٍ وتبيين حروف”.
– الشوكاني (1250 هـ): “أيِ اقْرَأْهُ عَلى مَهْلٍ مَعَ تَدَبُّرٍ”. ويقول: “وأصْلُ التَّرْتِيلِ التَّنْضِيدُ والتَّنْسِيقُ وحُسْنُ النِّظامِ”.
المعنى الذي ذكره العلماء للترتيل أقرب لسياق الآيات التي تتحدث عن صلاة قيام الليل، ومن ثم يكون ترتيل الآيات – بمعنى تبيينها وقراءتها بتؤدةٍ وتأنٍّ – أحرى لإحسان تدبّرها
وبالنظر في أقوال المفسرين من القرن الأول حتى القرن الثالث عشر تظهر لنا أمور:
أولا: أنّ المفسّرين مجتمعون على دلالة واحدة للترتيل، وهي: الترسّلُ والتبيين والتؤدة والتلبّث والتأنّي والتمهّل في التلاوة، وهي جميعها معانٍ متقاربة، والمقصود أنّ الترتيل ممارسة تُعين على تدبّر الآيات وحضور القلب أثناء التلاوة. وبهذا يكون شحرور قد كذب فيما افتراه على العلماء عن معنى الترتيل بأنّه تحسين الصوت والتغنّي بالألحان كتراتيل النصارى في كنائسهم كما زعم، فلم يذكر المفسّرون هذا المعنى مطلقًا كما رأينا!
ثانيا:أنّ المفسّرين لم يُغفلوا المعنى اللغوي للترتيل، بل ذكروه حين تحدّثوا عن الثغر المرتّل، أي المفلّج، “وفي الأسنان الرتلُ، وهو أن يكون بين الأسنان الفرج، لا يركب بعضها بعضا” كما يقول النحّاس، وربطوا ذلك بالمعنى القرآني للترتيل. جاء في قاموس “العين” للخليل بن أحمد الفراهيدي (170 هـ): “الرتل: تنسيق الشيء، وثغرٌ رتلٌ: حسن المتنضد، ومرتّل: مفلّج. ورتّلتُ الكلام ترتيلا إذا أمهلتُ فيه وأحسنتُ تأليفه، وهو يترتّل في كلامه ويترسّل إذا فصل بعضه من بعض”. وقال الراغب الأصفهاني (502 هـ) في كتابه “المفردات في غريب القرآن” عن معنى الرَّتَل: “اتّساق الشيء وانتظامه على استقامة، يُقال رجلٌ رَتَلُ الأسنان. والترتيل: إرسال الكلمة من الفم بسهولة واستقامة”. ويُلاحظ الربط بين الأصل اللغوي للكلمة والمعنى الاصطلاحي الشرعي في القرآن.
ثالثا:أنّ العلماء ربطوا معنى الترتيل هذا برسالة القرآن، فجعلوه وسيلة لتدبّر القرآن وتلقّي خطابه كما يليق به. ولم يكن مجرّد معنى شكلي لا قيمة له في فهم خطاب القرآن وأدائه.
رابعا: المعنى الذي ذكره العلماء للترتيل أقرب لسياق الآيات التي تتحدث عن صلاة قيام الليل، ومن ثم يكون ترتيل الآيات – بمعنى تبيينها وقراءتها بتؤدةٍ وتأنٍّ – أحرى لإحسان تدبّرها وأوقعَ لفاعليّتها في قلب النبيّ صلى الله عليه وسلّم، لتهيئته لتلقّي القول الثقيل الذي سيُلقى عليه من الله.
المعنى الذي يريده شحرور للترتيل، وهو جمع الآيات التي تكون ضمن موضوع واحد، فلا علاقة له بالترتيل ولا بسياق الآية، ومع ذلك لم يُغفله علماء الأمة |
فالسياق الكامل للآيات هو التالي: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (٢) نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (٤) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (٥) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا}. وهو واضحٌ في أنّ الترتيل مأمورٌ به في سياق قيام الليل، وأنه نوع من الاستعداد لتلقّي القول الثقيل من الوحي.
ولهذا يقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا}: “والمقصود أنّ قيام الليل هو أشدّ مواطأة بين القلب واللسان، وأجمع على التلاوة، ولهذا قال: {هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} أي: أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهّمها من قيام النهار؛ لأنّه وقتُ انتشار الناس ولغط الأصوات وأوقات المعاش”.
بل لو نظرنا للآية الأخرى التي ذُكر فيها لفظ “الترتيل” في سورة الفرقان {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}، لوجدنا أنّه يؤكّد صحّة ما ذهب إليه المفسّرون عن معنى الترتيل، فالترتيل هنا – كما يقول الطبري: “وشيئا بعد شيء علمناكه حتى تحفظنّه”. وينقل البغوي بعض أقوال أئمة التفسير من السلف فيها: “قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَيَّنَّاهُ بَيَانًا، وَالتَّرْتِيلُ: التَّبْيِينُ فِي تَرَسُّلٍ وَتَثَبُّتٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَعْضُهُ فِي إِثْرِ بَعْضٍ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَالْحُسْنُ وَقَتَادَةُ: فَرَّقْنَاهُ تَفْرِيقًا، آيَةً بَعْدَ آيَةٍ”. فمعنى الترتيل الذي ذهب إليه المفسّرون متّسق أيضًا مع دلالة آية الفرقان التي تتحدث عن نزول القرآن مفرّقا، آية بعد آية، لتثبيت الفؤاد ولتسهيل حفظه.
فكما نرى يبدو بوضوح أنّ الدلالة التي ذكرها علماء الأمة للترتيل أكثر ارتباطا بسياق الآيات، وأكثر منطقية بالربط مع الأصل اللغوي للكلمة، وفضلا عن ذلك لم يذكر أحدٌ منهم تحسينَ الصوت والتغنّي بالألحان كما زعم شحرور!
أما المعنى الذي يريده شحرور للترتيل، وهو جمع الآيات التي تكون ضمن موضوع واحد، فلا علاقة له بالترتيل ولا بسياق الآية، ومع ذلك لم يُغفله علماء الأمة، وإنْ لم يضعوه في كتب التفسير، فقد تناولوا موضوعات القرآن في كتب العقائد والفقه والتزكية وغيرها، وعرفوا المصنّفات الموضوعية منذ عهد مبكّر، وستجدهم في كل موضوع (كالصلاة أو الحج أو الإيمان أو الإسلام أو الأموال أو الزواج) قد جمعوا الآيات التي تتناول هذا الموضوع في باب واحد، فلم يُغفلوا هذه الممارسة التي يظنّ شحرور أنّه مخترعها!
ولو أراد الله أن نُعيد ترتيب آيات القرآن بحسب الموضوعات لرتّبها سبحانه وتعالى حسب الموضوعات ابتداءً، ولكنه عزّ وجلّ رتّبها كما شاء بحكمته على النحو الذي نعرفه، وأمرنا بترتيل القرآن وهو بهذا الترتيب، ونحن موقنون أنّ كل تفصيلٍ في القرآن قد خرج لنا من حكمة الله، وأنّ ما يبدو وكأنّه موضوعات مختلفة في سورة واحدة له دلالة يعرفها أولياء الله من العلماء الذين يعقلون عن ربّهم الخطاب ويأنسون بلُطف هذا الترتيب الحكيم، فهو سبحانه منزّه عن العبث، وكلامه أحكم الكلام.
والخلاصة أن شحرور إمّا أنّه لم يفهم كلام المفسّرين، فظنَّهم يتحدّثون عن التغني والقراءة بالألحان! أو أنّه يتعمّد تحريف قولهم والكذب عليهم وإيهام القارئ أنهم يقولون قولا سطحيا غير منطقي في تفسير الترتيل. وفي كلتا الحالتين لا يكون مَن يفعل ذلك أهلا لتفسير القرآن والبحث فيه؛ فهو بين الجهل المفضي إلى عدم فهم الكلام الواضح البيّن، وبين انعدام الأمانة العلمية المفضي إلى الكذب على العلماء وتزوير أقوالهم!
(المصدر: مدونات الجزيرة)