إعداد : سالي جمال عبدالحفيظ
إنَّ دراسة علم المقاصد وبيان حدوده وملامحه للناس أمرٌ مهم، وضرورة ملحَّة؛ لإظهار محاسِن الشريعة الإسلامية وأسرارها، وأيضًا باعتباره مدخلًا منهجيًّا للتعامل مع الواقِع المعاصر؛ فالفقيه لا يكون فقيهًا بحق إلا بمعرفة مَقاصد الشريعة ومصالحها وحكمها، والنُّفوذِ إلى دقائقها؛ ليبيِّن للناس أن لكلِّ حكم من أحكام الإسلام غاية يحققها، ووظيفة يؤدِّيها، وهدفًا يقصده ويستهدفه لتحقيق مَصلحة الإنسان أو دَفع مفسدة عنه.
وبِناءً عليه؛ فإنَّه لمن الواضح الجلي أنَّ الجهل بمقاصد الشريعة مؤدٍّ بطالب العلم الشرعي إلى الخطأ والزَّلل، فقد يُعسِّر على الناس ما يسَّره الله تعالى عليهم، فينبغي إشاعة هذا الفِقه بين الناس، وإثارة اهتِمام طلَّاب العلم به، حتى يتعايشوا مع عَصرهم بكلِّ صدق وواقعيَّة، مراعين حاجات ومعطيات الزمن الحاضِر، وحتى لا تتضارَب الجزئيات في أيديهم لعدم ردِّها إلى الكلِّيات، وحتى لا تكون مقاصدهم مخالفةً لمقاصد الشارع؛ إذ على المكلَّف أن يوافِق قصده قصد الشارع الحكيم.
والأحكام الشرعية – بحسب المقصود منها – ليست في درجة واحدة؛ بل هي متدرجة، فأهمها الضَّروريات، ثم الحاجيَّات، ثم التحسينيات.
والسرُّ في تقديم الضروريات أنه بفقدها يختلُّ نظام الحياة، وتشيع الفوضى بين الناس، وتضيع مصالحهم، بخلاف الحاجيَّات والتحسينيات؛ فالحاجيات يترتَّب على فقدها وقوع الناس في الحرَج والضِّيق دون اختلال نظام الحياة، ولهذا أتَت في المرتبة الثانية بعد الضروريات، أمَّا التحسينيات فلا يترتَّب على فقدها اختلال نِظام الناس، ولا وقوعهم في المشقَّة، وإنما يترتَّب عليها خروج الناس عمَّا تستحسنه العقول السليمة، والبعد عن الكمال الإنساني؛ ولذا جاءت في المرتبة الثالثة، ويظهر أثر هذا الترتيب عند تَعارض أقسام هذه المقاصد، فتُقدَّم الأحكام الشرعية التي شُرعَت لحفظ الضروريات، ثمَّ تليها الحاجيَّات، ثم التحسينيات.
وإذا نظرنا في الضروريات – فيما بينها – نجدها هي الأخرى ليست على درجة واحدة، ولكنها متفاوِتة في الرُّتبة، وهذا الترتيب – أيضًا – يظهر أثره عند تَعارض هذه الضروريات فيما بينها؛ حيث يترجَّح بعضها على بعض وفقًا لهذا المعيار[1]؛ ولذلك فإن مسألة ترتيب الضروريَّات الخمس لها أهمِّيتها وآثارها في فِقه الشريعة ومعرفة أولويَّتها وموازينها؛ فلذلك لا بد أن نخصِّص لها المزيد من الطَّاقة البحثيَّة للوصول إلى ترتيب مختار، مبنيٍّ على الاستقراء والدليل.
فبدايةً أقول: إنَّ جهود علماء أصول الفقه قد تركَّزَت في جَمع هذه الضروريات عن طريق الاستِقراء من غير ترتيب، حتى أوصلوها إلى خمس[2]؛ فيقول ابن أمير الحاج: “وحصر المقاصد في هذه ثابِت بالنَّظر إلى الواقع، وعادات المِلل والشرائع بالاستقراء”[3]، ولكن عند ذِكرهم لها لم يهتمُّوا بمراعاة الترتيب؛ حيث وقع فيه اختلاف كبير، مع أنَّ الترتيب هذا نطقَت به بعضُ الفروع الفقهيَّة، ومنها:
– إباحة شرب الخمر للمُكره على شربه، بإتلاف نفس أو عضو منه، أو لِمن اضطر إلى شربه بسبَب الظمأ الشديد؛ فهذا دليل على تَقديم حِفظ النَّفس على حفظ العقل.
– الاشتراط في جلد الزاني أن لا يتسبَّب عنه إتلاف له أو لبعض حواسِّه أو قواه العقليَّة؛ وهذا يدلُّ على أن حفظ العقل أهم من حِفظ النسل.
– النَّهي الصريح عن اتِّخاذ الزنا وسيلة للكسب، وذلك في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [النور: 33]؛ فهذا دالٌّ على أنَّ حِفظ النَّسل مقدَّم على حِفظ المال.
وقد نوَّه الدكتور جمال الدين عطيَّة في كتابه (نحو تفعيل مقاصد الشريعة) باختِلاف العلماء القدامى والمحدثين في ترتيب هذه الضروريات، وأنَّهم لم يتَّفقوا على ترتيب معيَّن؛ وذلك لاختلاف زاوية ترتيبهم، وأن منهم من قدَّم الضرورات الدينيَّة، ومنهم من قدم الضرورات الدنيويَّة، ومنهم من لم يهتم بالترتيب أصلًا، ومنهم من رفض فِكرة ترتيب المقاصد الضرورية أصلًا[4].
– فمثلًا الإمام الرازي: نجده يَذكر هذه المقاصد بدون ترتيب، فيقول: “… أمَّا التي في محل الضرورة، فهي التي تتضمَّن حِفظ مقصود من المقاصد الخمسة، وهي: حفظ النفس والمال والنسب والدين والعقل”[5].
– لكنَّ الذي وجدناه يَعتني بمسألة الترتيب بشكل صريح، وينص عليها ويناقشها، ويدافع عن الترتيب الذي اختاره، هو سيف الدين الآمدي في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام)، فقد ذكر ترتيبًا يختلف اختلافًا قليلًا عن ترتيب الغزالي، ودافع عنه وعلَّلَه، وهو يختلف مع الغزالي في شيء واحد، يخصُّ ترتيبَ (العقل والنسل)؛ فالغزالي قد قدَّم العقل ثمَّ النسل، والآمدي قدَّم النسل ثمَّ العقل، فإذًا ترتيب الآمدي هو: الدِّين والنَّفس والنَّسل والعقل والمال.
ومما لا شك فيه أن المجتهد في اجتهاده، وكذا المكلَّف في نفسه، يجب أن يراعي ترتيب الضروريات، فيُنزل كلَّ شيء منزلته، ويضع ترتيبَ الضروريات موضع الاعتِبار، فيعطي الأولويَّة لما يستحقها، ليس هذا فحسب؛ بل عليه أيضًا أن يدرِك خطورة إهمال هذا الترتيب، وكيف أنه يؤدِّي إلى أغلاط جسيمة وحرَج كثير، فضلًا عن مخالفة هَدي الشارع بإهمال مفاضلته وترتيبه؛ ولذلك كان اعتبار هذا الترتيب أولى عند معظم العلماء من عدم اعتباره، ولعلَّ المدخل الأمثل للوصول إلى هذا الترتيب هو تَفعيل الرؤية الحضاريَّة للمقاصد وتشغيلها في الواقع، وتنزيلها أصوليًّا وفقهيًّا.
هذا، ومن أهمِّ أسباب عدم اتِّفاق العلماء على ترتيب معيَّن للضروريات:
أولًا: اختلافهم في تقديم الضروري الدِّيني على الضروري الدنيوي، أو العكس، وهذا الاختلاف مبنيٌّ أساسًا على اختِلافهم في تقديم حقِّ الله تعالى على حقِّ الآدمي أو العكس.
يقول تاج الدين السبكي في شرح المنهاج: “ثم الضروري قد يكون دينيًّا، وقد يكون دنيويًّا، وعند تعارضهما يلاحظ أنَّ بعض العلماء يرى تقديم الضروري المتعلق بالدِّين على الضروري المتعلِّق بالدنيا؛ لأن الأول ثمرته السعادة الأبدية، والثاني ثمرته السعادة الفانية، وذهب بعض العلماء إلى القول بتقديم الضروري المتعلق بالدنيا على الضروري المتعلق بالآخرة؛ وذلك لأنَّ حقَّ الآدمي مبني على الشحِّ والمضايقة، وحق الله تعالى مَبني على المسامحة والمساهلة؛ ولهذا كان حق الآدمي مقدمًا على حق الله تعالى لما ازدحم الحقَّان في محل واحد وتعذر استيفاؤهما منه، كما يُقدَّم القصاص على القتل في الردَّة، والقطع في السرقة، كذا الدَّيْن على زكاة المال والفطر في أحد الأقوال”[6].
ثانيًا: الاختلاف – فيما بينهم – في المقصود من كلمة (دين)، هل المقصود بها الإسلام بتمامه؟ أو المقصود بها العبادات الدينيَّة المحضة؟
فمن رأى أنَّ المقصود بالدِّين الإسلام قَدَّم الدِّينَ على سائر المقاصِد؛ لأن بضياعه يَضيع أصل العقيدة، ومَن رأى أنه مقصود به العبادات المحضة قدَّم غيرها؛ كالنفس مثلًا.
ثالثًا: تضارب المصالح الضروريات في القضية الواحدة على أرض الواقع، فيقع الخلاف نظرًا لأهميَّة كل مَقصد في حدِّ ذاته من ناحية، وأهميته بالمقارنة مع باقي المقاصد الضروريَّة من ناحية أخرى.
وأقوال العلماء في ترتيب الضروريات كثيرة جدًّا؛ فبعضهم قدَّم الدِّين على النَّفس؛ وهو الأغلب في كلامهم، وخالف آخرون فقدَّموا النفسَ على الدِّين؛ وهكذا في كل المقاصد الضرورية خلاف كبير في ترتيبها عند المتقدمين، فاختلفوا في تقديم النَّسل والعقل أحدهما على الآخر، واختلفوا في تقديم النسل والمال أحدهما على الآخر، كما اختلفوا في تقديم المصالح الدنيوية على الأخروية، ولا شك في الأثر الهائل الذي يتركه هذا الخلاف في مجال الفروع الفقهيَّة، وإليك بيان هذا الاختلاف:
أولًا: الاختلاف في ترتيب الدِّين والنفس:
قدَّم معظم العلماء الدِّينَ على النفس، وجعلوه في الرتبة الأولى من الضروريات؛ لأن الدِّين هو الأساس الذي تقوم عليه باقي الضَّروريات، ولأن الجهاد هو بَذل النفس من أجل إعلاء كلمة الدِّين، فثبت أن الدِّين مقدَّم على النفس؛ وهو مذهب الغزالي والآمدي والشاطبي وغيرهم[7]، يقول ابن أمير الحاج: “ويقدَّم حفظ الدين من الضروريَّات على ما عداه عند المعارضة؛ لأنَّه المقصود الأعظم”[8].
وذهب البعض الآخر إلى تقديم النَّفس لتأكيد حرمتها في كثير من النُّصوص الشرعية، حتى قُطع بذلك، ولأنها هي محلُّ ورود الأحكام؛ وممن قال بهذا الرأي الإمام الرازي في محصوله[9].
ثانيًا: الاختلاف في ترتيب النسل والعقل:
قُدِّم النَّسل على العقل عند الكثير من العلماء؛ نظرًا لأهميته، وأثره في قيام الحياة، وكذا حِفظه للإنسانيَّة وكرامتها من وجه، وممَّن قال بهذا السيوطي في الكوكب الساطع[10].
ورتَّب بعضهم العقل أولًا ثم النسل؛ لأنَّه أساس التكليف، يقول الإمام الشاطبي: “ولو عُدم العقل لارتفع التديُّن، ولو عُدم النسل لم يكن في العادة بقاء، ولو عُدم المال لم يبق عيش”[11].
ثالثًا: الخلاف في ترتيب النسل والمال:
لم يكن الخلاف هنا بنفس القوَّة التي في العنصرين السابقين؛ فمعظم العلماء قدَّم النَّسل على المال؛ لأنَّ حرمة الأبضاع مقدَّمة على حرمة الأموال، والقليل منهم أخَّرها عن المال، وقال بأنَّ المال هو عصب الحياة؛ ومِن أصحاب هذا المذهب الإمام الرازي[12].
رابعًا: الاختلاف في تقديم الأمور الدنيوية على الأخروية:
فمَن قدَّم الدِّين أراد به أصل العقيدة، ومن أخَّره أراد به الفروع، فنجد مثلًا الإمام الزركشي قد ذكر ترتيبًا للمقاصد من غير أن يَبدأ فيه بالدِّين؛ حيث قال: “الأول: الضروري، وهو المتضمِّن حِفظَ مقصود من المقاصد الخمس التي لم تختلِف فيها الشرائع؛ بل هي مُطْبِقَة على حفظها، وهي خمسة؛ أحدها: حفظ النفس، بشرعية القصاص؛ فإنه لولا ذلك لتهارج الخَلْق، واختلَّ نِظام المصالح، ثانيها: حفظ المال بأمرين: أحدهما: إيجاب الضمان على المعتدي فيه؛ فإنَّ المال قوام العيش، وثانيهما: بالقَطع بالسرقة، ثالثها: حفظ النسل؛ بتحريم الزنا وإيجاب العقوبة عليه؛ فإن الأسباب داعية إلى التناصر والتعاضد والتعاون الذي لا يتأتى العيش إلَّا به عادة، رابعها: حفظ الدين، بشرعيَّة القتل والقتال، فالقتل للرِّدة وغيرها من موجبات القتل، لأجل مصلحة الدِّين، والقتال في جهاد أهل الحرب، خامسها: حفظ العقل، بشرعية الحد على شرب المسكر؛ فإنَّ العقل هو قوام كل فعل تتعلَّق به مصلحة، فاختلاله مؤدٍّ إلى مفسدة عظمى، هذا ما أطبق عليه الأصوليون”[13].
ونقل الإسنوي عن ابن الحاجب ذكره مذهبًا لتأخير الدِّين عن الكل، فقال في نهاية السول: “وحكى ابن الحاجب مذهبًا أن مصلحة الدين مؤخرة عن الكل؛ لأن حقوق الآدميين مبنية على المشاحة”[14].
وأورده ابن الحاجب في مختصره بصيغة التمريض؛ حيث قال: “وقيل بالعكس”[15]، يعني: تقديم الأمور الأربعة على الدين.
وعلى الجانب الآخر نجد ابن النجار الحنبلي يرتِّب الترتيب المعروف والمشتهر، الذي فيه تقديم الدِّين، وهو كالتالي: حفظ الدِّين، فالنفس، فالعقل، فالنسل، فالمال؛ حيث قال في شرح الكوكب المنير: “والمناسب ثلاثة أضرب: الضرب الأول: دنيوي، وينقسم إلى ثلاثة أقسام؛ الأول: ضروري أصلًا، وهو أعلى رتب المناسبات، وهو ما كانت مَصلحته في محلِّ الضرورة، ويتنوع إلى خمسة أنواع، وهي التي روعيت في كل ملَّة، وهي حفظ الدِّين، فحفظ النفس، فحفظ العقل، فحفظ النسل، فحفظ المال، فحفظ العرض”[16].
والسؤال الذي يفرض نفسه الآن هو: ما الترتيب الصحيح للمقاصد الضروريَّة؟ وهل يجب على المجتهد اتِّباع ترتيب السلف لها؟
إنَّ “القاعدة في تعاملنا مع التراث أنه لا ينبغي أن نقِف عند مسائل السلف؛ بل لا بد علينا أن نأخذ بمناهجهم، فمسائل السَّلف مرتبطة بأزماتهم ومشكلات الواقع الذي عاشوه، في حين أن مناهجهم اهتمَّت بكيفية تطبيق الوحي الإلهي على الوجود، وبمعنًى آخر: اهتمَّت بتطبيق المطلق على النسبي، فإذا ما أردنا أن نلتزم بمناهجهم وأن نهتمَّ بتشغيلها في واقع حياتنا المعاصرة، فلا بدَّ علينا أن نتفهمها، وأن لا نقف بها عند المسائل التي عاشوها وعالجوها”[17].
فإنَّ المتقدمين قد رتَّبوا الضروريات بطريقة تتناسب مع قضايا عصرهم، وتحقِّق المصالح للعباد في العاجِل والآجل، وإذا أردنا أن نسير على نفس نَهجهم في الاختيار المناسب لترتيب الضروريات، فعلينا نحن أن نراعي واقع حياتنا المعاصرة، ونهتمَّ بتشغيل المقاصد فيه، وبذلك لا نكون قد خالفناهم إلَّا من باب التنوع، فنكون قد رتَّبناها بكيفية تسمح بتشغيلها أكثر مع معطيات الحضارة الإنسانية المتشابكة.
– والترتيب الراجح في نظري هو ما ذهب إليه بعض المعاصرين وهو: “حفظ النفس، والعقل، والدين، وكرامة الإنسان – حسب التسمية المعاصرة، وكانت تسمى قديمًا بالعرض والنسل – والمِلك – وهي تسمية معاصرة كذلك، والتسمية القديمة: المال”[18]، فيجب المحافظة على النَّفس أولًا؛ لأنَّها هي التي تَقوم بها الأفعال، ثمَّ على العقل الذي هو مَناط التكليف، ثم الدِّين؛ لأنَّ به قوام العالم، ثم نحافِظ بعد ذلك على ما يترتَّب على حِفظ الذَّات والعقل والدِّين، وهو المحافظة على كرامة الإنسان، ثم على قضيَّة الملك، والتي بها عَمار الدنيا.
هذا، ومن الاعتراضات التي قد ترد على هذا الترتيب:
أولًا: أنَّ في تقديم النفس والعقل على الدِّين تقريرًا للقول بالتحسين والتقبيح العقليين.
ويردُّ عليه بأنَّ المراد بالعقل هنا القدرة على الفهم، التي بها مَناط التكليف، أمَّا استعمال العقل في إنشاء الأحكام فهذا شيء آخر غير مقصود هنا.
ثانيًا: أن تقديم النَّفس على الدين يقِرُّ على حدِّ الرِّدة بالبطلان، ويصبح لا معنى له.
والجواب: أنَّ المقصود بالدِّين هنا هو الالتزام بالشعائر الدينيَّة، التي يسمى فقدها فسقًا لا يَهدم المقاصد الأربعة الأخرى المتعلِّقة بالوجود والحضارة، وليس المقصود الالتزام بأصل الإيمان، والذي يسمَّى فقده كفرًا ينهدِم معه الإسلام نفسه، وبالتالي تنهدم المقاصد كلها عقيدة ونظامًا.
ثالثًا: أن التقسيم معارض بما تفيده قضيَّةُ الجِهاد من تقديم الدِّين على النفس، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ﴾ [التوبة: 111].
والجواب: أنَّ الله تعالى لم يأمر المسلم – في الجِهاد – أن يذهب ليَقتل نفسَه؛ بل أمر أن يفعل فعلًا يُظن فيه السَّلامة كما يُظن فيه القَتل وذهاب النَّفس، لكنه ليس قاطعًا في ذهابها، كما أنَّ في الجهاد محافظة على النَّفس بمعنى النفس الكليَّة، ولو ذهبت في سبيل ذلك تلك النفس الجزئية.
رابعًا: أن البعض قد حكى الإجماعَ على ترتيب الغزالي، وهو: (الدين، ثمَّ النفس، ثم العقل، فالنسل، فالمال).
ويجاب على ذلك بأن ترتيب المقاصد ورد بصورة مختلفة على غير ترتيب الغزالي؛ فمثلًا عند الزركشي: (النفس، ثم المال، ثم النسل، ثم الدين، ثم العقل)، وأيضًا فإن هذا الإجماع لم يحكِه أحد من العلماء السابقين المعتبرين، بل هو من إطلاقات بعض المحدثين، فهو ادِّعاء يعوزه الدليل.
وخلاصة القول: إنَّ هذا الترتيب – خاصَّة الترتيب الإجمالي النظري – قد يكون قليل الجدوى من النَّاحية العملية؛ وذلك لأنَّ الواقع مركب من هذا كله تركيبًا يصعب فيه هذا الفصل؛ إذ لا تنفك ذات الإنسان عن عقله، أو دينِه، أو نسله، فهو مركب من كل هذا، فالضَّروريات لا يتصور الاستغناء عن بعضها أو تقديم بعضها وإسقاط بعضها، سواء على الصعيد الفردي أو الجماعي، فالضروريات لا تكون إلَّا كاملة، ولا تقوم الحياة إلا بها مجتمعة؛ لذلك بدل أن نتصوَّرها بالترتيب العمودي المعهود، حريٌّ بنا أن نراها في حلقات دائريَّة يدخل بعضها في بعض، فلا ينبغي أن يفهم من الحديث عن تَرتيب المقاصد التناقض أو التصارُع، بل العلاقة بين المقاصد في النموذج المعرفي الإسلامي التكامل لا التناقُض ولا التصارع، والأصل أن يراعي المجتهد المقاصدَ جميعَها عند بنائه لفتواه أو عند تبليغه لدعوته، ويبيِّن الشاطبي هذه العلاقة الشبكيَّة التكاملية بين المقاصد فيقول: “فلو عُدم الدين عُدم ترتُّب الجزاء المرتجى، ولو عُدم المكلف لعُدم من يتديَّن، ولو عُدم العقل لارتفع التديُّن، ولو عُدم النسل لم يكن في العادة بقاء، ولو عُدم المال لم يبق عيش”[19].
“فمن الناحية الفعلية لا ينفع هذا الترتيب ولا يمكن؛ لأنَّ معناه إمكان التضحية بالرتبة اللاحقة، وهذا غير ممكن في الضروريَّات، إلا في الحالات العرضية الجزئية…، فإذًا الشرع يقرِّر أن ما هو ضروري جزئي، قد يُستباح لأجله المحظور للمحافظة عليه؛ جمعًا بين الضروريات، فكيف بالإسقاط الكلي الإجمالي؟ هذا لا يُتصوَّر شرعًا، نعم، هذا ممكن بين الحاجيات وبين التحسينيات، وممكن بين الضروريات في الحالات الجزئية المعينة والموصوفة”[20].
فلا ينبغي أن يُفهم من الحديث عن ترتيب المقاصد التناقُض أو التصارع؛ بل العلاقة بين المقاصد في النموذج المعرفي الإسلامي التكامُلُ لا التناقض ولا التصارُع، والأصل أن يراعي المجتهد المقاصدَ جميعها عند بنائه لفتواه أو عند تبليغه لدعوته؛ ولهذا نلحظ أن الشارع قد راعى أكثرَ من مقصد في تشريعات كثيرة، فبتدقيق النظر في فروع الشريعة نلاحظ أن الفرع الواحد منها يحفظ مقاصد عدَّة، وذلك لا ضير فيه؛ إذ الكل من مشكاة واحدة.
——————————————————
[1] أي: وفقًا لمدى توقف المصالح عليها.
[2] البعض يزيد على هذه الخمس ضرورة سادسة؛ وهي العِرض، ولكن الصحيح أنها مرادفة لضرورة النَّسل، أو مندرجة تحته.
[3] التقرير والتحبير، (3/ 144)، وينظر: الإحكام للآمدي، (3/ 300).
[4] ينظر: نحو تفعيل مقاصد الشريعة، (28 – 48)، طبعة المعهد العالمي للفكر الإسلامي، دار الفكر – دمشق، 2003م.
[5] المحصول، (5/ 220).
[6] الإبهاج، (3/ 241) بتصرف.
[7] ينظر: المستصفى، (2/ 482)، والموافقات، (2/ 325).
[8] التقرير شرح التحبير، (3/ 144).
[9] ينظر: المحصول، (5/ 160).
[10] ينظر: الكوكب الساطع، (2/ 246).
[11] الموافقات، ص: (2/ 17).
[12] المحصول، (7/ 256).
[13] البحر المحيط، للزركشي، (7/ 265، 266).
[14] نهاية السول، (2/ 300).
[15] مختصر ابن الحاجب مع شرح العضد، (3/ 672).
[16] شرح الكوكب المنير، ص: (520، 521).
[17] ترتيب المقاصد الشرعية، ضمن أبحاث مؤتمرات المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، بعنوان: مقاصد الشريعة وقضايا العصر، ص: (11).
[18] ترتيب المقاصد الشرعية، ص: (11).
[19] الموافقات، (2/ 17).
[20] محاضرات في مقاصد الشريعة، د/ أحمد الريسوني، ص: (171)، دار الكلمة، الطبعة الثانية، 1434ه – 2013م.
*المصدر : موقع الألوكة