تدوين القرآن الكريم في مقابل تدوين الكتاب المقدَّس: أيهما أجدر بالموثوقيَّة؟ 7من 7
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
حياة اليهود في شبه الجزيرة العربيَّة في الجاهليَّة
يفسّر ولفنسون عدم تناوُل المراجع الإسرائيليَّة حوادث اليهود في جزيرة العرب بأنَّ ذلك إنَّما يدلُّ على أنَّ اليهود هناك “كانوا منقطعين تمام الانقطاع عن بقيَّة أبناء جنسهم في جهات العالم”، ليس أنَّ ذلك يثبت عدم وجود اليهود لفترات طويلة في جزيرة العرب (ص12). المفارقة أنَّ الكاتب يشير إلى ما جاء في كتاب تاريخ اليعقوبي (جزء2، ص49) عن إنكار المؤرّخ الشّيعي اليعقوبي وجود قبائل يهوديَّة أصيلة في شبه الجزيرة العربيَّة، معتبرًا أنَّ غالبيَّة اليهود هناك كانوا من العرب، ثمَّ اعتنقوا اليهوديَّة. يتحدَّى ولفنسون ذلك بقوله إنَّ أنساب بني إسرائيل ضاعت بعد أن أحرق ملوك الرُّومان كتاب الأنساب الإسرائيليَّة، معتبرًا أنَّ أفضل وسيلة للتَّعرُّف على جنس اليهود هي “النَّظر في الأخلاق والتَّقاليد واتّجاه الأفكار والأعمال” (ص16). ويزعم الكاتب أن يهود الجزيرة العربيَّة قد تحلُّوا بأخلاق العرب، وتمسَّكوا بعاداتهم، واتَّبعوا سبيلهم، حتى أصبحوا وكأنَّهم من العرب. يصدق قول ولفنسون أنَّ وسيلة معرفة اليهود هي مراجعة أخلاقهم، وقد أكَّد يهود يثرب على يهوديَّتهم بأنَّهم استباحوا أموال العرب من خلال الربا؛ بل وأجَّجوا الصراع بين القبائل المتناحرة لإلهائهم عنهم ولبيع الأسلحة لهم، اتِّباعًا لسياسة فرِّق تسُد؛ علاوة على تهديدهم المستمر للعرب بأنَّ نبي آخر الزمان سيأتي لقتلهم وإبادتهم وسلْب أموالهم.
أدخل اليهود، كمَّا يدَّعي الكاتب، إلى جزيرة العرب أنواعًا جديدة من المحاصيل الزّراعيَّة، وطرقًا جديدة للزّراعة والحرث؛ كما أدخلوا أصنافًا لم يعرف عرب الجزيرة من قبل من الأقمشة. يسعى الكاتب بطرح ذلك إلى إثبات أنَّ اليهود دفعوا بعجلة التَّحديث والتَّمدين، وأطلعوا العرب على أمور لم يعرفوها من قبل في شتَّى شؤونهم الحياتيَّة، دون أن يجد حرجًا في الاعتراف بأنَّ “أخْذ الرّبا كان شائعًا” عند اليهود حينها، مشيرًا إلى أنَّ العرب اعتادوا على رهْن أغراضهم عند اليهود لاستدانة المال، حتَّى أنَّ النَّبي (ﷺ) نفسه رهَن درعه عند يهودي (ص18). أمَّا عن مبرّر ذلك، فهو أنَّ العرب جميعًا كانوا يتعاملون بالرّبا، وليس اليهود وحدهم؛ حيث كان يعتبرون ذلك نوعًا من استثمار الأموال. احترف اليهود صناعة السُّيوف والدُّروع والآلات المعدنيَّة، وكانوا من أمهر الصُّيَّاغ، وسيطروا على زراعة بعض المحاصيل الحيويَّة، وعلى رأسها القمح والشَّعير، حرصًا منهم على استغلال احتيج العرب لتلك المحاصيل باستمرار لكي يستخدموها للضَّغط عليهم في وقت الضَّرورة. أمَّا عن لغة اليهود في جزيرة العرب فكانت العربيَّة، مع الاحتفاظ بلكنة عبريَّة، حيث احتفظوا بلغتهم الأصليَّة وكانوا يستخدمونها في مجتمعاتهم المغلقة وفي صلواتهم. ويدَّعي الكاتب أنَّ اليهود كانوا “أستاذة العرب في تعلُّم الكتابة العربيَّة”، بينما كانت لغة اليهود الأصليَّة هي العبريَّة؛ وكأنَّ اليهود تعلَّموا العربيَّة من العرب، ثمَّ صاروا معلّمي العرب لغتهم (ص20)!
محاربة الملل الباطلة في جزيرة العرب قبل البعثة النَّبويَّة
قبل التَّطرُّق إلى تفاصيل معاندة اليهود للَّنبي (ﷺ) ورفضْهم اتّباعه، برغم أنَّه مذكور في كُتُبهم، يجدر التَّنبيه إلى فرية جديدة يسوقها ولفنسون بشأن وجود فئة من العرب في الجاهليَّة على ملَّة نبيّ الله إبراهيم (عليه السَّلام)، حيث رفضوا اتّباع ملَّة أهل الكتاب، كما رفضوا ممارسة الشَّعائر الوثنيَّة؛ فاعتنقوا دين إبراهيم الحنيف، وهو صحيح الإسلام قبل تحريفه إلى الملل الباطلة، واعتزلوا قومهم عقائديًّا، ومن هؤلاء زيد بن عمرو بن نفيل، عمُّ أمير المؤمنين عُمر بن الخطَّاب. ورد ذكْر زيد بن عمرو بن نفيل في سيرة ابن هشام (جزء1، ص217)، حيث قال عنه أنَّه أنكر على قبيلة قريش عبادة الأوثان والذَّبح لها، ووأد البنات. وكما جاء عنه في كتاب البداية والنّهاية لابن كثير (ص317)، قالت أسماء بنت أبي بكر، كما ينقل عنها يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق حدثني هشام بن عروة عن أبيه، أنَّها رأت زيدًا مسندًا ظهره إلى الكعبة ويقول: “يا معشر قريش، والَّذي نفس زيد بيده ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري، ثم يقول: اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به، ولكنّي لا أعلم”. وكما يضيف ابن كثير(ص321-322)، سافر زيد بن عمرو بن نفيل إلى الشَّام بحثًا على مَن يدلُّه على صحيح ملَّة إبراهيم، حتَّى وجد راهبًا قال له: أراك تريد دين إبراهيم يا أخا أهل مكة إنك لتطلب دينا ما يوجد اليوم أحد يدين به، وهو دين أبيك إبراهيم كان حنيفا لم يكن يهوديًّا ولا نصرانيًّا، كان يصلي ويسجد إلى هذا البيت الَّذي ببلادك. فالحق ببلدك فإن الله يبعث من قومك في بلدك من يأتي بدين إبراهيم الحنيفيَّة وهو أكرم الخلق على الله”. كان زيدٌ يترقَّب بعثة النَّبيّ (ﷺ)، لكنَّه لم يدركها، وأدركها ابنه الصَّحابي الجليل سعيد بن زيد، أحد العشرة المبشَّرين بالجنَّة ومن السَّابقين الأوَّلين إلى الإسلام. يُستخلص ممَّا سبق أنَّ هناك من سُكَّان شبه الجزيرة العربيَّة مَن عرف الإسلام الحنيف قبل بعثة النَّبيّ (ﷺ)، الَّذي لم يُبعث إلَّا لإعادة الخلْق أجمعين إليها بعد أنَّ أضلَّتهم الملل الباطلة: “وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ” (سورة الحجّ: الآية 78).
وردت الإشارة إلى ملة إبراهيم الحنيفيَّة عدَّة مرَّات في القرآن الكريم، منها: قوله تعالى “مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ” (سورة آل عمران: الآية 67)؛ وقوله كذلك “قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ” (سورة آل عمران: الآية 95)؛ وقوله “وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلً” (سورة النّساء: الآية 125)؛ وقوله “إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ” (سورة الأنعام: الآية 79)؛ وقوله “قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ” (سورة الأنعام: الآية 161)؛ وقوله “ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ” (سورة النَّحل: الآية 123). كما يتَّضح، يرتبط مفهوم الحنيفيَّة بالتَّنزُّه عن الشّرك؛ حيث تتكرَّر عبارة “وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ” كلَّما ذُكرت ملة إبراهيم، وقد أجمع المفسّرون على أنَّ معنى “حَنِيف” هو المقبل على الله، المائل عن عقائد الشّرك. وقد روت أمُّ المؤمنين عائشة، كما أورد أحمد في المُسند (24334) وذكَر الألباني في السلسلة الصَّحيحة (1829)، أنَّ النَّبيّ (ﷺ) قال “إِنِّي أُرْسِلْتُ بِحَنِيفِيَّةٍ سَمْحَةٍ”. وعَنِ ابْنِ عَبَّاس (رضي الله عنهما)، قَالَ: (قِيلَ لِرَسُولِ ﷺ: أَيُّ الْأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ)، رواه أحمد في المُسند (2108) وصححه الألباني في السلسلة الصَّحيحة (881). وبرغم ما هو معهود عن معنى “مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا“، يعاند الكاتب اليهودي التَّسليم بذلك المعنى، ويتحدَّاه بزعمه أنَّ المقصود بذلك المختون، الَّذي “دخل في ذمَّة وعهْد إبراهيم الخليل”، مدّعيًا أن كلمة “ملَّة” تعني بالعبريَّة العضو التَّناسلي بعد الختان (ص79). يسعى الكاتب إلى إثبات أنَّ اليهود في جزيرة العرب حرصوا على ممارسة شعير الختان الَّتي نصَّ عليها العهد القديم، مضيفًا أنَّ هناك من المفكّرين من رأى أنَّ الحنيفيَّة ما هي إلَّا مذهبًا مسيحيًّا، وإن كان العُرف السَّائد هو أنَّها مذهبٌ مستقلٌّ.
صلة النَّبيّ (ﷺ) باليهود قبل الهجرة
يطرح ولفنسون مسألة هامَّة في رصْده ملابسات نزول القرآن الكريم، وهي ما يدَّعيه مستشرقون عن معرفة النَّبي (ﷺ) بدين اليهود قبل بعثته. يبدأ الكاتب بافتراض أنَّ أهل مكَّة كانوا يقصدون يثرب للتّجارة وكانوا يمرُّون عليهم في رحلاتهم إلى الشَّام، حتَّى والد النَّبيّ نفسه مرض أثناء عودته مه قافلة تجاريَّة من الشَّام، ونزل حينها عند أخواله من بني النَّجار في يثرب، ومات ودُفن هناك. وقدَّر الله أن تموت والدة النَّبيّ أثناء عودتها من يثرب بعد زيارة أخوال زوجها المتوفَّى وتُدفن هناك؛ وفي هذا ما يؤكّد وجود تواصُل بين أهل مكَّة وأهل يثرب الَّذين كان من بينهم قبائل يهوديَّة. يشكّك ولفنسون في بعض الرُّوايات الَّتي تدَّعي حياة بعض اليهود في مكَّة ووجود أماكن للعبادة تخصُّهم هناك، خاصَّة مع عدم وجود مصادر موثوقة تذكر ذلك. ليس من المستبعَد أن يكون النَّبي (ﷺ) قد تواصَل مع بعض اليهود قبل بعثته، ولكن لا يعني ذلك أنَّه تأثَّر بعقيدتهم أو نقَل عن كتبِهم. ما يمكن إثباته هو معرفة النَّبي (ﷺ) وعرب قريش بوجود ديانة يعتنقها اليهود وبإيمان اليهود بنبوَّة موسى (عليه السَّلام)؛ فقد تكرَّرت الإشارة إلى كتاب نبي الله موسى، وإلى أنَّ القرآن الكريم مكمّل ومصدّق لما جاءت به الكتب السَّابقة في نُسخها المنزَّلة من عند الله: “قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)” (سورة الأحقاف: آيات 10-12). مع ذلك، لا تعني معرفة أهل قريش بدين اليهود إلمامهم بعقائد اليهود وما جاء في أسفارهم.
صراع النَّبيّ (ﷺ) مع يهود يثرب
ورد في كتاب البداية والنّهاية لابن كثير (ص371) أنَّ نفرًا من أهل يثرب وفدوا إلى النَّبي (ﷺ) بعد أن سمعوا بدعوته، وقد أدركوا بعد أنَّ عرض عليهم الإسلام وقرأ عليهم القرآن أنَّه النَّبي الَّذي كان يهود يثرب يتوَّعدونهم به بقولهم “إنَّ نبيَّا مبعوثًا الآن قد أظلَّ زمانه نتبعه، نقتلكم معه قتل عاد وإرم”؛ وحينها قالوا لبعضهم “يا قوم، تعلمون والله إنَّه للنَّبي الذي توعدكم به يهود، فلا يسبقنَّكم إليه”. وهناك شاهد من القرآن الكريم على صحَّة هذه الرُّواية “وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ” (سورة البقرة: الآية 89). وقد جاء كذلك في صحيح البخاري (رقم 6982) أنَّه بعد أن نزل الوحي على النَّبي (ﷺ) في غار حراء، وأخبر أمَّ المؤمنين خديجة بما حدث، أخذته (رضي الله عنها وأرضاها) إلى ابن عمّها ورقة بن نوفل، وكان قد تنصَّر في الجاهليَّة، فقال له “هَذَا النَّامُوسُ الذي أُنْزِلَ علَى مُوسَى، يا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، أكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقالَ رَسولُ اللَّهِ (ﷺ): أوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ فَقالَ ورَقَةُ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بمِثْلِ ما جِئْتَ به إلَّا عُودِيَ، وإنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا”. يعني ذلك أنَّ أهل الكتاب كانوا على علمٍ ببعثة النَّبي (ﷺ)، وبمكان انطلاق دعوته، بل وبمكان هجرته، لكنَّهم أخفوا ذلك لمَّا وجدوا دعوة النَّبيّ لا تحقّق مآربهم. ومن المثير أن تجد أحد الباحثين الإسرائيليين يدَّعي في الآونة الأخيرة أنَّ النَّبيَّ مُحمَّدًا (ﷺ) مذكور في أعلى مراتب التُّلمود، والسُّؤال: لماذا لم يتَّبعه يهود يثرب لمَّا دعاهم إلى الإسلام؟ وكيف يستوي ذلك النَّصُّ في التلمود مع ما هو مذكور في العهد القديم عن أنَّ المخلّص يأتي لختم النُّبوَّة “لِيُؤْتَى بِالْبِرِّ الأَبَدِيِّ، وَلِخَتْمِ الرُّؤْيَا وَالنُّبُوَّةِ، وَلِمَسْحِ قُدُّوسِ الْقُدُّوسِينَ” (سفر دانيال: إصحاح 9، آية 24)؟
كان يهود يثرب يتابعون موقف عرب المدينة من دعوة النَّبي (ﷺ) بعد بيعة العقبة، الَّتي بايع فيها نفرٌ من الأنصار النَّبيّ بالقُرب من مِنى في مكَّة، وكانت تلك البيعة تمهيدًا للهجرة النَّبويَّة. ويزعم ولفنسون أنَّ اليهود كانوا يتوقون للهجرة النَّبويَّة، ويعتبرون أنَّها في مصلحتهم، وقد يصحُّ ذلك، على اعتبار أنَّهم ظنُّوا أنَّ النَّبيَّ العربي سيحكم وفق شريعتهم ويتَّبع أهواءهم. ويبرّر ولفنسون انتظار يهود يثرب النَّبيَّ الجديد بقوله:
ويظهر أنَّهم كانوا يعتقدون، أو على الأقلّ يرجون، أن يتمكَّنوا من التَّأثير فيه حتَّى يدخل دينهم، حيث يتعاونون على محو عبادة الأصنام، وقد يحتمل أنَّهم كانوا يرجون أيضًا أن يتمكَّن الرَّسول من التَّأليف بين البطون اليثربيَّة وجعْلها كتلة واحدة تتعاون على النُّهوض بهذه المدينة الَّتي كانت في حاجة شديدة إلى الهدوء والسَّكينة، وكانوا يعتقدون أنَّه لم تمَّ ذلك لأصبحت يثرب أعظم مركز للتّجارة في الجزيرة، ولتمكَّن أهلها من أن يضربوا تجارة مكَّة وغيرها (ص111).
يُفهم ممَّا سبق أنَّ يهود يثرب أرادوا أن يتَّبع النَّبيُّ (ﷺ) ملَّتهم، لا أن يتَّبعوا هم رسالته ليأتمروا بالمعروف وينتهوا عن المنكر، وليحطَّ الله عنهم المحرَّمات الَّتي فُرضت على أسلافهم بسبب ظلمهم وعصيانهم، مصداقًا لقول الله تعالى “الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” (سورة الأعراف: الآية 157). وكان همُّ اليهود الأوَّل هو تحقيق التَّفوُّق التُّجاري وتحويل يثرب إلى موقع الرّيادة في البيع والشّراء، وليس في نشْر دين الله والدَّعوة إلى سبيله. لم يدخل الإسلام من يهود يثرب إلَّا فئة قليلة، لعلَّ أشهر هؤلاء عبد الله بن سلام، وكان حبرًا من بني قينقاع، شهد نفرٌ من اليهود على علمه ورفعة مكانته بينهم، لكنَّهم تراجعوا ما أن علموا بإسلامه. ويُقال أنَّ سبب نزول هذه الآية الكريمة هو التَّعليق على تلك الواقعة “قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ” (سورة الأحقاف: الآية 10). قرَّر النَّبيُّ (ﷺ) بعد استقراره في يثرب، أو المدينة المنوَّرة كما سُميَّت بعد هجرته الشَّريفة، أن يعقد معاهدة مع اليهود تكفل لهم حق العيش مع المسلمين وتحمي مصالحهم. كفلت بنود تلك المعاهدة حريَّة العقيدة، وحفْظ الذّمَّة الماليَّة، ومشاركة المسلمين في الدّفاع عن المدينة في حالة الاعتداء الخارجي، وعدم نُصرة قريش على المسلمين في حالة اندلاع حرب بين الطَّرفين.
تبريرًا لرفْض اليهود اتَّباع دعوة النَّبي (ﷺ)، يحاول ولفنسون أن ينسب إلى اليهود شرف الدّفاع عن العقيدة، زاعمًا أنَّ محاربتهم المسلمين كانت في سبيل الدفاع عن عقيدتهم، على عكس المسيحيين من العرب الذين دخلوا الإسلام زمن الفتوحات الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة. ويتناسى الكاتب بذلك أنَّ عناد اليهود جاء لأنَّ نبي آخر الزمان لم ويتَّبع ملَّتهم، وهذا ما يؤكّد عليه قول الله تعالى “وَلَن ترضى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النصارى حتى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ” (سورة البقرة: الآية 120). ولعلَّ من الأهم الفريات التي حاول المستشرقون اليهود نشرها اتصال نبيَّنا مُحمَّد (ﷺ) باليهود الوافدين إلى مكة قبل بعثته، في محاولة منهم للتَّرويج لمسألة أنَّه ربَّما تعلَّم من كتبهم وألَّف شريعته وفق ما ورد في التوراة والإنجيل. وأغرى تكرار ذكر نبي الله موسى في القرآن الكريم بالاعتقاد بأن نبيِّنا مُحمَّد (ﷺ) ظهر بمظهر أنبياء بني إسرائيل كي يثبت صحة رسالته ويؤيد دعوته، التي كان لها نظير في جزيرة العرب، أي رسالة موسى (عليه السَّلام)، خاصةً وأنَّ آيات القرآن في بداية نزوله لا تخلو من إشارة لما في التوراة، مع ذكْر شيء من تاريخ بني إسرائيل، ويصاحب ذلك تأخُّر ذكر نبي الله عيسى (عليه السَّلام) حتى العام العاشر لظهور الإسلام؛ ويُعزي المستشرقون ذلك إلى صعوبة فهم تعاليم المسيحيَّة على العرب في الجاهليَّة. ويدَّعي ولفنسون أكثر ما يؤذي اليهود هو محاولة إثنائهم عن التمسُّك بعقيدتهم، فهم لا يؤمنون ببعث رسول في ذلك الحين، سواءً من بني إسرائيل أو من غيرهم، زاعمًا أنَّ الصراع بين النَّبي (ﷺ) واليهود بدأ برفضهم الانصياع لدعوته، بحجة برغبتهم في التمسُّك بعقيدتهم. ونتيجةً لهذا التَّمسُّك بالعقيدة اليهوديَّة، تجاوَز القرآن الكريم في حقِّهم بسبِّهم بما ليس فيهم، ولكنَّ هذا لم يضعف من عزيمة اليهود الذين راحوا يناقشون ويجادلون بهدوء.
إخراج اليهود من شبه الجزيرة العربيَّة
نأتي إلى تناوُل المؤرّخ اليهودي المواجهة القتاليَّة بين المسلمين واليهود، والَّتي أدَّت إلى إجلاء اليهود عن يثرب، أو المدينة المنوَّرة كما صار اسمها. كعادته في اختلاق الأكاذيب، يزعم ولفنسون أنَّ تلك المواجهة نشبت بسبب رفْض اليهود نُصرة النَّبي (ﷺ) في مواجهة مشركي قريش في غزوة أُحد عام 2 هجريًّا. أمَّا الحقيقة فهي أنَّ النَّبي (ﷺ) كان قد تعاهَد مع اليهود من بني النَّضير فور هجرته إلى المدينة على ألَّا ينصروا أعداءه عليه، لكنَّهم نقضوا عهدهم معه، بل وسعوا إلى قتله على يد رجل يُدعى عمرو بن جحَّاش بألقاء صخرة فوق رأسه لمَّا قصد ديارهم لطلب ديَّة رجلين قتلهما أحد أبناء قبيلتهم. أمهل النَّبي (ﷺ) بني النَّضير عشرة أيَّام للخروج من المدينة بعد ثبوت نقْضهم للعهود وكيدهم للإسلام، متوعّدًا من يبقى منهم بالقتل. حينها، أوهم المنافقون من مدَّعيّ الإسلام من أهل المدينة بني النَّضير بأنَّهم سينصرونهم في مواجهة المسلمين، لكنَّ الله كشف كذبهم في قرآن يُتلى إلى يوم القيامة: “أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ” (سورة الحشر: آيتان 11-12)”.
أمَّا عن أسباب غزوة خيبر عام 7 هجريًّا، المعركة الفاصلة في صراع النَّبي (ﷺ) مع اليهود، فيدَّعي ولفنسون أنَّه رغبة النَّبي أن يوحّد دين جزيرة العرب قبل مواجهته الحاسمة مع مشركي قريش واستيلائه على مكَّة، مضيفًا أنَّ الدَّافع الأبرز كان الاستيلاء على أموال اليهود والاستعانة به في الاستعداد لفتْح مكَّة، ومستشهدًا بحديث مكذوب لأمّ المؤمنين عائشة (رضي الله عنها وأرضاها) فيه إنَّ الرسول لم يشبع من خبز الشعير والتمر حتى فُتحت دار بني قمة، بينما الحديث الوارد في صحيح البخاري (6454) وصحيح مُسلم (2970) يقول “ما شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ ﷺ مُنْذُ قَدِمَ المَدِينَةَ، مِن طَعامِ البُرِّ ثَلاثَ لَيالٍ تِباعًا، حتَّى قُبِضَ “. في حين كان سبب غزوة خيبر رغبة النَّبي (ﷺ) أن يقضى على الفتن وينهي المؤامرات الَّتي لم يفتر اليهود عن نشْرها، علاوة على تعاونهم مع أعداء المسلمين، سواءً كانوا من مشركي قريش أو منافقي المدينة. ومن الملفت أنَّ فتْح مكَّة تمَّ في عام 8 هجريًّا، أي في العام التَّالي للقضاء على فتن اليهود، الَّذين شكَّلوا أكبر عائق في طريق نشْر الدَّعوة وإقامة دولة الإسلام.
يروي ولفنسون، في حسرة ملحوظة، ما عاناه اليهود بعد طردهم من المدينة، مشيرًا إلى تدهوُر حالتهم الاقتصاديَّة، وانحدارهم إلى الفقر والفاقَّة بعد العزّ والسُّلطة بعد أن فقدوا كلَّ تأثير لهم في الجزيرة العربيَّة، وقد استقر من بقي منهم في الجزيرة في تيماء ووادي القرى، بينما غادر معظمهم إلى الشَّام. ومع كلّ ما ساقه من أباطيل، أراد المؤرّخ اليهودي أن يبدو منصفًا بأن شهد للمسلمين ورسولهم بعدم المساس بصحائف التَّوراة، على عكس الرومان حينما غزوا أورشليم عام 70 ميلاديًّا؛ إذ أحرقوا الكتب المقدَّسة وداسوا عليها بالأقدام، مضيفًا أنَّ بعض اليهود عادوا إلى يثرب حينما أراد المسلمون الاستفادة منهم في احتراف بعض الصناعات، الَّتي كانوا يتقنونها ويجهلها المسلمون، الذي كان همهم استثمار الأموال التي ربحوها من غزواتهم، على حدِّ وصفه. في النّهاية، يدَّعي ولفنسون أنَّ عمر بن الخطاب (رضي الله عنه وأرضاه) قد أجلى باقي اليهود من خيبر لمَّا لم يعد لوجودهم فائدة ولمَّا توفَّر بديل أقل كلفة، حيث كان اليهود يزرعون الأرض في زمن النبي الكريم مقابل نصف محاصيلها، بينما استجلب عمر من الفتوحات أسرى أصحاب خبرة في الزراعة استغنى بهم عن اليهود. وكما يزعم، وظلَّت أغلبية اليهود في وادي القرى، الواقع بين تيماء وخيبر شمال غربي شبه الجزيرة العربيَّة، إلى القرن الحادي عشر الميلادي، ثم انعدم وجودهم في الحجاز شيئًا فشيئًا؛ أمَّا في اليمن، فقد بقيت قلة منهم هناك إلى يومنا “رغم الرزايا التي لحقت بهم في ظروف شتَّى” (ص186). يُذكر أنَّ مع انتشار أقاويل عن استعداد السَّعوديَّة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، بدأ نشطاء إسرائيليون في التَّلميح إلى قُرب استعادتهم “إرثهم الأزلي” في يثرب.
ووصل الأمر إلى مطالَبة أحد الحاخامات بمساعدته للصَّلاة في مكَّة، في ترديد لما أثاره آفي ليبكين في كتابه العودة إلى مكَّة (2012م) آنف الذّكر. هذا وقد تردَّد أنَّ إسرائيل تستعدُّ لمطالَبة 7 دول عربيَّة وإيران بتعويضات تُقدَّر بـ 250 مليون دولار، نظير الممتلكات الَّتي أُجبر اليهود على تركها عند إجلائهم عن تلك الدُّول، الَّتي من بينها السَّعوديَّة، تعويضًا عن إجلاء النَّبيّ (ﷺ) لليهود من المدينة المنوَّرة قبل حوالي 1435 عامًا، وفق ما نشَر موقع بي بي سي عربي بتاريخ 11 يناير 2019م.
المصدر: رسالة بوست