تدوين القرآن الكريم في مقابل تدوين الكتاب المقدَّس: أيهما أجدر بالموثوقيَّة؟ 6 من 7
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
ما صحَّ عن مراحل تدوين القرآن الكريم
ينقسم حفْظ القرآن الكريم إلى شقَّين: حفْظ الصُّدور وحفْظ السُّطور. لقد أمَر النَّبيُّ (ﷺ) صحابته بحفظ القرآن عند نزول آياته تباعًا، وقد توارثت الأجيال حفْظ القرآن على ذلك النَّحو، حتَّى وصل إلينا بالتَّواتر. بدأ تدوين القرآن الكريم في زمن البعثة النَّبويَّة، واستمرَّ بعد أن لقي (ﷺ) في عام 10 هجريًّا، حتَّى أُنجز أوَّل مصحف في التَّاريخ في عهد أمير المؤمنين عثمان بن عفَّان (رضي الله عنه وأرضاه)، لمَّا جاءه الصَّحابي حذيفة بن اليمان يشكو إليه ممَّا لاحظه من اختلاف في القراءات، أو لحْن في القول، من أبناء الأمصار الجديدة الَّتي دخَلها الإسلام. قال عثمان خطيبًا “أنتم عندي تختلفون فيه فتلحنون فمن نأى عني من الأمصار أشد فيه اختلافًا وأشد لحنًا، اجتمعوا يا أصحاب محمد، واكتبوا للناس إمامًا”، كما جاء في كتاب جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطَّبري. وكان عثمان من كتبة الوحي، إلى جانب الخلفاء الرَّاشدين الثَّلاثة الآخرين، وزيد بن ثابت وعبد الله بن رواحة وأبيّ بن كعب، وكانوا يكتبون على الصُّحف، والعسف، والرّقاع، والحجارة، وغيرها من الأدوات المتاحة في زمنهم. استمرَّت عمليَّة التَّدوين بعد موت النَّبيّ (ﷺ)، خاصَّة بعد حروب الرّدَّة وموت الكثير من حفظة القرآن في معركة اليمامة؛ وحينها اختار الخليفة أبو بكر الصّدّيق (رضي الله عنه وأرضاه)، الصَّحابي زيد بن ثابت لجمْع القرآن، لما عُرف عنه من حفظِه المُتقَن لكتاب الله. أصبح أبو بكر الصّدّيق بذلك أوَّل مَن جَمَع القرآن في كتاب وأطلق عليه “مُصحف”، كما يشير أبو سليمان المختار بن العربي في مقاله “فضل القرآن الكريم ومراحل تدوينه”. أمَّا المرحلة الأخيرة، فهي، كما ذُكر مسبقًا، في عهد عثمان بن عفَّان، ونُسخت من مصحف عثمان نُسخًا وُجّهت كلٌ منها إلى الأمصار الإسلاميَّة حينها، وأُرسل مع كلّ نسخة صحابيٌّ ليقرأ على النَّاس القراءة الصَّحيحة.
5. حيلة صهيونيَّة لتبرير التَّوسُّع الإسرائيلي في شبه الجزيرة العربيَّة
نشَر المفكّر والمؤرّخ اليهودي آفي ليبكين (Avi Lipkin) في عام 2012م كتابًا مثيرًا للجدل تحت عنوان Return to Mecca: Let My People Go so That They May Circle Me-العودة إلى مكَّة: “أَطْلِقْ شَعْبِي لِيَعْبُدُونِي فِي الْبَرِّيَّةِ”، يعيد من خلاله تشكيل الوعي السَّائد بشأن سنوات بني إسرائيل الأربعين، بزعمه إنَّ مكان مكوث “جماعة الرَّب” لم يكن صحراء سيناء، إنَّما في شبه الجزيرة العربيَّة. يقتبس الكاتب العنوان الفرعي للكتاب “أَطْلِقْ شَعْبِي لِيَعْبُدُونِي فِي الْبَرِّيَّةِ”من الكتاب المقدَّس، حيث ورد في العهد القديم، وتحديدًا في سفر الخروج (إصحاح 7: آية 16)، في إشارة إلى أنَّ “الْبَرِّيَّةِ” المقصودة في تلك الآية هي صحراء شبه الجزيرة العربيَّة، وليس سيناء. تعريفًا بالكاتب، فهو من أتباع الفكر الصُّهيوني، يجمع بين الجنسيَّتين الأمريكيَّة والإسرائيليَّة، ويُعرف كذلك بالاسم فيكتور موردخاي. خدم ليبكين في جيش الدّفاع الإسرائيلي لما يزيد على عشرين عامًا، بعد انتقاله إلى إسرائيل عام 1968م، ثمَّ عاد إلى مسقط رأسه في أمريكا لدراسة علوم الكتاب المقدَّس، وتفرَّغ للكتابة عن نبوءات آخر الزَّمان ومستقبل دولة إسرائيل في ظلّ وجود التَّهديد الإسلامي.
يعتبر ليبكين بني إسرائيل ورثة شبه الجزيرة العربيَّة الحقيقيين، داعيًا اليهود والمسيحيين إلى الاتّحاد في سبيل استعادة إرثهم، وكذلك إلى استغلال موجة الرَّبيع العربي والنَّشاط المعارض في المملكة العربيَّة السَّعوديَّة في إحداث تغيير سياسي يسهّل تلك العمليَّة، وحينها ستطلب المملكة الحماية الأمريكيَّة الَّتي ستكون ذريعة للسَّيطرة الصُّهيونيَّة اليهوديَّة-المسيحيَّة على جزيرة العرب، وفق ما نشَره موقع جريدة المجد الأردنيَّة، تحت عنوان ” “العودة الى مكة” كتاب جديد لمؤرخ يهودي”، بتاريخ 14 فبراير 2018م.
في مقال نشره موقع إضاءات اللبناني تحت عنوان “قراءة في كتاب العودة إلى مكة…للمؤرّخ الصُّهيوني إيفي ليبكين” بتاريخ 2 فبراير 2002م، يعلّق الكاتب أسعد العزُّوني على كتاب آفي ليبكين (2012م) قيد الحديث بالإشارة إلى أنَّ حملة التَّطبيع العربيَّة مع الكيان الصُّهيوني في الآونة الأخيرة لا تستهدف الاحتماء من الخطر الإيراني، إنَّما فرْض السَّيطرة الصُّهيونيَّة على شبه الجزيرة العربيَّة، مصداقًا لوعْد الرَّبّ بأنَّ كلَّ موقع يصلون إليه فهو لهم، “كُلَّ مَوْضِعٍ تَدُوسُهُ بُطُونُ أَقْدَامِكُمْ لَكُمْ أَعْطَيْتُهُ، كَمَا كَلَّمْتُ مُوسَى” (سفر يشوع: إصحاح 1، آية 3).
هذا وقد حلَّ آفي ليبكين ضيفًا على برنامج Prophecy in the News التَّبشيري، المعنيّ بتحليل نبوءات الكتاب المقدَّس، في فبراير 2012م، شهر إطلاق الكتاب في طبعته الأولى، ليتحدّث عن محتواه ويوجّه رسالة إلى عشيرته، ويقصد اليهود والمسيحيين، وهي ضرورة تصحيح مفهومهم عن سنوات التّيه في الصَّحراء، بأن يعلموا يقينًا أنَّ بني إسرائيل قضوا ثماني وثلاثين سنةً منها على الأقل في شبه الجزيرة العربيَّة، وتحديدًا ما يُعرف اليوم بالمملكة العربيَّة السَّعوديَّة.
آفي ليبكين في ضيافة المحاور جاري ستيرمان في برنامج Prophecy in the News
يستهلُّ ليبكين حديثه بالإشارة إلى اعتقاده بأنَّ الكتاب المقدَّس هو بمثابة نظام لتحديد المواقع (GPS)، وأنَّ جبل الطُّور ليس في سيناء، إنَّما في شمال غرب السَّعوديَّة وهو جبل اللوز الواقع في تبوك، وأنَّ يثرون، والد زوجة موسى، الَّذي أخبر سفر الخروج أنَّه كان كاهن مديان، “وَكَانَ لِكَاهِنِ مِدْيَانَ سَبْعُ بَنَاتٍ…وَأَمَّا مُوسَى فَكَانَ يَرْعَى غَنَمَ يَثْرُونَ حَمِيهِ كَاهِنِ مِدْيَانَ” (سفر الخروج: إصحاح 2، آية 16؛ إصحاح 3، آية 1)، إنَّما كان “الكاهن الأكبر للكعبة”. يعتقد ليبكين أنَّ المقصود ب “الْبَرِّيَّةِ” في الآية “كُلُّ مَكَانٍ تَدُوسُهُ بُطُونُ أَقْدَامِكُمْ يَكُونُ لَكُم. مِنَ الْبَرِّيَّةِ وَلُبْنَانَ. مِنَ النَّهْرِ، نَهْرِ الْفُرَاتِ، إِلَى الْبَحْرِ الْغَرْبِيِّ يَكُونُ تُخْمُكُمْ” (سفر التَّثنية: إصحاح 11، آية 24)، هو شبه الجزيرة العربيَّة. توجَّه بنو إسرائيل شرقًا بعد خروجهم من مصر، وعبروا البحر الأحمر، ولم يتَّجهوا شمالًا، خوفًا من الصّراع مع الفلسطينيين ومن الصّدام مع جيش الفرعون.
ملاذ بني إسرائيل الحقيقي في شبه الجزيرة العربيَّة خلال سنوات التّيه
ويؤكّد المفكّر اليهودي أنَّ شبه جزيرة سيناء ما كانت لتسع ما بين مليون وثلاثة ملايين من بني إسرائيل لما يقرب من أربعين سنةً. غير أنَّ مساحة سيناء تزيد على 60 ألف كيلو متر، وهذا يسع أكثر من الرَّقم الَّذي افترضه الباحث؛ فالعاصمة المصريَّة، القاهرة، يسكنها أكثر من تسعة ملايين، ولا تزيد مساحتها على ثلاثة آلاف كيلومتر، فكيف لا تسع سيناء ثلاثة ملايين؟! يضيف ليبكين أنَّه لا يوجد من الأدلَّة الأثريَّة والتَّاريخيَّة ما يثبت وجودهم هناك، خاصَّة وأنَّه لا يوجد مصادر للطَّعام والشَّراب، على حدّ قوله. في حين يوجد كمٌّ هائل من الأدلَّة على حياة بني إسرائيل في شبه الجزيرة العربيَّة، كما يزعم. لا شكَّ أنَّ في زعْم ليبكين هذا تحديًا كبيرًا إقرار الله تعالى في قرآنه بأنَّه أمدَّ بني إسرائيل بالغذاء، مصداقًا لقوله “وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ” (سورة البقرة: الآية 57)؛ وأخبر تعالى كذلك عن تفجُّر 12 عينًا من المياه، عين لكلّ سبط “وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ” (سورة البقرة: الآية 60). ولم تزل واحة موسى، الواقعة بالقرب من شبه جزيرة سيناء، تضمُّ خمسًا من عيون المياه الصَّالحة للشُّرب، كما تذكر موسوعة ويكيبيديا الرَّقميَّة.
يدعو آفي ليبكين حاخامات اليهود إلى تبنّي نظريَّته “الثَّوريَّة” بشأن موقع سنوات التّيه، معتبرًا أنَّ الجيل الحالي من اليهود سيشهد العودة إلى تلك البقعة لتكرار تاريخ أسلافهم. أمَّا عن الطَّريق لتحقيق ذلك، فهو يبدأ مع وصول الرَّبيع العربي إلى السَّعوديَّة، ويتنبَّأ بوقوع “حرب أهليَّة” بين السُّنَّة والشّيعة هناك قد يتبعه هجوم إيراني لمعاونة شيعة المملكة، وبين مختلف المتشدّدين والعلمانيين من السُّنَّة من المتعاونين مع الغرب. حينها سيطالب حلفاء الغرب القوى الاستعماريَّة الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، بالتَّدخُّل لإنقاذهم؛ وسيفتح ذلك بدوره المجال أمام “احتلال” أمريكا وإسرائيل أجزاءً من شبه جزيرة العربيَّة؛ وهكذا، ستتوفَّر المبرّرات السّياسيَّة لعودة بني إسرائيل إلى مكَّة والمدينة. أخيرًا، يتوقَّع ليبكين أنَّه باستعادة بني إسرائيل لمكَّة والمدينة، ستمتدُّ حدود دولة إسرائيل جنوبًا لتتَّسع لمزيد من المواطنين، ويتوقَّع أن يكون من بينهم مسيحيون.
رواية إسرائيليَّة عن تاريخ اليهود في المدينة المنوَّرة
يقدّم إسرائيل ولفنسون، وهو مؤرّخ وعالم لغوي يهودي عمل مدرّسًا للغات السَّاميَّة في عدد من الجامعات المصريَّة في النّصف الأوَّل من القرن العشرين، رؤيته الخاصَّة عن حياة اليهود في شبه الجزيرة العربيَّة قبل بعثة نبيّنا مُحمَّد (ﷺ) في كتابه المثير للجدل تاريخ اليهود في بلاد العرب: في الجاهلية وصدر الإسلام (1927م)، بما يحتوي عليه من أباطيل سيقت للدّفاع عن اليهود وإثبات وجودهم التَّاريخي في بلاد العرب السَّابق على ظهور الإسلام بقرون طويلة. يرى الكاتب أنَّ برغم وجود أمم ساميَّة قبل بني إسرائيل بآلاف السنين، فإنَّ الباحثين يرون أنَّ العبريَّة وآدابها مقياسٌ صالحٌ للبحث في جميع اللغات الساميَّة الأخرى؛ بفضل الإنتاج الأدبي والديني غير المقارن الذي وصلنا من بني إسرائيل، إذا ما قورن بنتاج البابليين والآشوريين والآراميين. ويدَّعي الكاتب كذلك أنَّ اللغات الكنعانيَّة، ومن بينها العبريَّة، كانت منتشرة في فلسطين وفي طور سيناء وشرق الأردن، وكانت اللغة العبريَّة هي الأوسع انتشارًا والأكثر استخدامًا، وذلك حتى ظهور اللغة الآراميَّة-إحدى اللهجات الكنعانيَّة-حيث بدأت اللغات الكنعانيَّة الأخرى تضمحل أمام الآراميَّة، إلى أن اضمحلت الأخيرة بدورها أمام العربيَّة، فاضطرت القبائل الآراميَّة والعبريَّة إلى الاندماج في القبائل العربيَّة تدريجيًّا.
تاريخ هجرة بني إسرائيل إلى شبه الجزيرة العربيَّة
عن هجرة اليهود إلى شبه الجزيرة العربيَّة، يذكر ولفنسون أنَّ بعض الباحثين يزعمون أنَّ أول هجرة إسرائيليَّة إلى مكَّة، ويُطلق عليها الهجرة الشَّمعونيَّة، كانت قبيل عهد الملك داود، أي عام 1000 قبل الميلاد تقريبًا. ذُكرت تلك الهجرة في سفر أخبار الأيَّام (إصحاح 4، آيات 38-43). في حين يذهب آخرون إلى أنَّها كانت في عهد حزقيا، وهو أحد ملوك يهوذا (717-690 ق.م.). وكما يرى المؤرّخ اليهودي، أهم أسباب هجرة اليهود في القرن الأول والثاني بعد الميلاد إلى شبه الجزيرة العربية خاصةً، وباقي البلدان العربية عامةً، هي: زيادة عدد اليهود في فلسطين بما يفوق قدرة أرضها على استيعاب أعدادهم؛ وهجوم الرومان على فلسطين في القرن الأول ق.م.، وتقويضهم أركان الدولة اليهوديَّة المستقرَّة، وإخضاع البلاد إلى النسر الروماني؛ وخراب القدس على يد الرومان عام 70 ق.م.، وتشتُّت اليهود في أصقاع الأرض. وتشير أسفار العهد القديم إلى أنَّ بني إسرائيل اعتادوا على الهجرة من الأرض المقدَّسة، هربًا من بطْش حكَّامهم، كما ورد في سفر الملوك الأوَّل، دون أدنى إشارة في السّفر إلى أنَّ شبه الجزيرة العربيَّة كانت مقصدهم، بل الجهة المذكورة كانت “بَرِّيَّةِ دِمِشْقَ”: “فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: «اذْهَبْ رَاجِعًا فِي طَرِيقِكَ إِلَى بَرِّيَّةِ دِمِشْقَ، وَادْخُلْ وَامْسَحْ حَزَائِيلَ مَلِكًا عَلَى أَرَامَ” (سفر الملوك الأوَّل: إصحاح 19، آية 15). يدَّعي ولفنسون أنَّ جماعات من بني إسرائيل قصدت شبه الجزيرة العربيَّة خلال الغزو البابلي للأرض المقدَّسة أواخر القرن السَّادس قبل الميلاد، مستشهدًا بما جاء في سفر ارميا، برغم أنَّ الجهة الَّتي قصدها النَّاجون من بني إسرائيل هي مصر: “فَأَخَذَ يُوحَانَانُ بْنُ قَارِيحَ وَكُلُّ رُؤَسَاءِ الْجُيُوشِ الَّذِينَ مَعَهُ، كُلَّ بَقِيَّةِ الشَّعْبِ…لِيَسِيرُوا وَيَدْخُلُوا مِصْرَ” (سفر ارميا: إصحاح 41، آيتان 16-17).
وهناك رواية ضعيفة لأبي الفرج الأصفهاني في كتابه الأغاني (جزء 11، ص94) تدَّعي أنَّ بني إسرائيل قد سكنوا الجزيرة العربيَّة منذ أيام موسى بن عمران (عليه السلام)، وقد بعثهم هو نفسه لمحاربة قوم من العماليق كانوا سكَّانها الأصليين، وكان جيش بني إسرائيل ذاك أول سُكنى اليهود في أرض الحجاز. ويعترف ولفنسون بأنَّ هذه الرُّواية ضعيفة لا يعرفها بنو إسرائيل أنفسهم، نقلًا عمَّا أورده ابن خلدون عنها في كتابه تاريخ ابن خلدون (جزء2، ص88). ويورد ابن خلدون في الكتاب نفسه (ص186) رواية غير مؤكَّدة عن أنَّ الملك داود فرَّ مع نفر من بني إسرائيل، من سبط يهوذا، إلى يثرب، بعد أن انقلب أحد أبنائه عليه. أقام داود في يثرب حتَّى قُتل ابنه المنقلب عليه، وحينها عاد إلى الشَّام ليستعيد مُلكه، ممَّا يعني أنَّ نفوذه كان يصل إلى شبه الجزيرة العربيَّة. غير أنَّ ولفنسون نفسه يعترف بأنَّ تلك الرُّواية غير جدير بالثّقة، متسائلًا “وإذا لم يكن مؤرّخو العرب قد استطاعوا أن يصلوا إلى أخبار ثابتة موثوق بها عن بني النَّضير وقريظة ومتى كان ظهورهم في بلاد العرب، فكيف يستطيعون أن يصلوا إلى أخبار حقيقيَّة عن طوائف إسرائيليَّة قديمة بادت واندثرت قبل أن يوجد بنو النَّضير وقريظة؟” (ص7).
من جديد، يتَّبع ولفنسون أسلوب التَّدليس بادّعائه أنَّ بني إسرائيل حقَّقوا انتصارات مبهرة على القبائل العربيَّة، مضيفًا أنَّهم “واصلوا انتصاراتهم حتَّى وصلوا إلى أرض الجزيرة” (ص8). أمَّا سبب اعتبار ذلك الادّعاء تدليسًا، فهو أنَّ الكاتب يستشهد بما ورد في سفر صموئيل الأوَّل “وَضَرَبَ شَاوُلُ عَمَالِيقَ مِنْ حَوِيلَةَ حَتَّى مَجِيئِكَ إِلَى شُورَ الَّتِي مُقَابِلَ مِصْرَ” (إصحاح 15، آية 7)؛ وشور هذه تقع جنوب فلسطين وشرق مصر، كما يكشف قاموس الكتاب المقدَّس الصَّادر عن دائرة المعارف الكتابيَّة المسيحيَّة. ويستشهد ولفنسون كذلك بما جاء في سفر أخبار الأيَّام الثَّاني “وَسَاعَدَهُ اللهُ عَلَى الْفِلِسْطِينِيِّينَ وَعَلَى الْعَرَبِ السَّاكِنِينَ فِي جُورِ بَعْلَ وَالْمَعُونِيِّينَ” (إصحاح 26، آية 7). أمَّا عن “جُورِ بَعْلَ”، فهي جنوب بئر السَّبع، على أرجح القول؛ وأمَّا عن “الْمَعُونِيِّينَ”، فنسبتهم إلى مدينة معان الأردنيَّة تنفي أيَّ صلة لهم بشبه الجزيرة العربيَّة.
أسباب هجرة بني إسرائيل إلى شبه الجزيرة العربيَّة
يعدّد الكاتب اليهودي أسباب هجرة بني إسرائيل إلى شبه الجزيرة العربيَّة، بادئًا بالإشارة إلى الزّيادة المطردة لعدده في الأرض المقدَّسة، ممَّا استوجب هجرتهم إلى البقاع المجاورة. يأتي بعد ذلك الغزو الرُّوماني لدولة يهودا في القرن الأوَّل الميلادي، وعاش اليهود حيتها ضيقًا عظيمًا أسفر عن ثورات وحركات تمرُّد كان مصيرها بطْش الرُّومان وقمعهم لليهود؛ ممَّا أجبرهم على الهجرة من أرضهم إلى غير رجعة، خاصَّة بعد فشْل ثورة عام 135م وحظْر دخول الأرض المقدَّسة على اليهود. وجد بنو إسرائيل في شبه الجزيرة العربيَّة، كما يدَّعي الكاتب، الحماية والمنعة من قِبل اليهود القاطنين هناك، ممَّن وفَّروا لهم الحماية لمَّا أرسل الرُّومان في طلبهم، مستشهدًا في ذلك بما جاء في كتاب الأغاني للأصفهاني (جزء 19، ص95). ويتجاهل ولفنسون سببًا هامًّا لهجرة اليهود إلى شبه الجزيرة العربيَّة، وهو اتّباع نبوءة كتابيَّة تبشّر بظهور نبيّ آخر الزَّمان هناك، وتحديدًا في مكَّة، وبهجرته إلى مدينة بين حرَّتين بينهما نخل، وهي مدينة يثرب، كما ورد في قصَّة الصَّحابيّ سلمان الفارسي. فقد ورد في السّلسلة الصَّحيحة للألباني (556/2) بسند حسن عن سلمان الفارسي، أنَّ أحد الرُّهبان في عموريَّة قد قال له “قد أظلَّك زمان نبي، هو مبعوث بدين إبراهيم، يخرج بأرض العرب مهاجرًا إلى أرض بين حرَّتين بينهما نخل، به علامات لا تخفى، يأكل الهدية، ولا يكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل”.
المصدر: رسالة بوست