تداعيات وآثار مجزرة الحرم الإبراهيمي الشريف
بقلم الشيخ د. تيسير التميمي
قال تعالى { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ } آل عمران 169-171
صادف يوم الثلاثاء الماضي الذي وافق 25/2/2020م الذكرى السادسة والعشرين لمجزرة الحرم الإبراهيمي الشريف ، ففي فجر يوم الجمعة منتصف شهر رمضان المبارك ، وبتاريخ 25/2/1994م خطَّت يد الغدر في سجل التاريخ سطوراً حمراء ، وسفك الحقد الصهيوني المسعور أزكى الدماء في صباح رمضاني عابق بالإيمان ؛ حيث ارتكب السفاح المجرم باروخ جولدشتاين من سكان مغتصبة قريات أربع مجزرة دموية نكراء سقط فيها المصلّون العزّل مضرجين بدمائهم ، فاختلطت رائحتها العطرة برائحة المسك المنبعثة من غار أبي الأنبياء ، وتعطرت بها جنبات الحرم الشريف ؛ قال صلى الله عليه وسلم { والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم لونه لون دم وريحه مسك } رواه مسلم
كانت المجزرة مسلسلاً من القتل استباح الدم الفلسطيني ؛ ابتدأ في المحراب وامتد إلى مداخل الحرم والسُّلَّم المؤدي إليه ، ووصل إلى الشوارع والطرقات ومحيط المشافي فطال رصاص الجيش الإرهابي مَن هبُّوا للتبرع بالدم وإنقاذ الجرحى ونقل المصابين ، حتى المقابر صارت ساحات للموت فلم يسلم الذين شيَّعوا الشهداء بل دُفنوا معهم بعد لحظات فارتقى نتيجة ذلك عشرات الشهداء { وَلاَ تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } البقرة 154 .
تنصل جيش الاحتلال الإسرائيلي كعادته من دوره في الجريمة رغم كل الأدلة والأحداث وإفادات الشهود حتى من اليهود أنفسهم التي أكدت مسؤوليته الكاملة ، فقد كان الرصاص ينهمر على المصلين من كل صوب ، ولم يقدم الجنود أية مساعدة للمصابين ، بل لم يسمحوا لسيارات الإسعاف بالوصول إلى مداخل الحرم ؛ ومنعوا المصلين نقل الجرحى والمصابين ، كما أن استعراض الأحداث والاستفزازات قبل المجزرة وبعدها تدل على التخطيط المبيت لارتكابها ؛ فقد عوقب أهل الخليل الذين ارتقى أبناؤها البررة إلى العُلا بالاعتقالات ومنع التجول وفرض الحصار ، أما المجرم جولدشتاين فقد كوفىء بإقامة نصب تذكاري له يحج إليه المستوطنون باعتباره بطلاً قديساً .
يوم لا ينسى في تاريخ مدينة خليل الرحمن الباسلة التي غضبت وثارت وخرجت معها جماهير شعبنا الفلسطيني في كل مكان في القدس والضفة وغزة ؛ وامتدت الشرارة إلى داخل فلسطين المحتلة عام 48 ، وتفجر بركان الغضب واشتعلت المدن ناراً تحت أقدام الطغاة ؛ في مسيرات ومظاهرات ومواجهات دامية ، فتصدت لهم قوات الاحتلال وجنودها المدججون بالسلاح وعرباتهم العسكرية المجنونة ؛ وفتحوا عليهم الرصاص والنار فسقطت كوكبة جديدة من الشهداء غيلة وغدراً ممن اصطفاهم الله عز وجلّ ومنحهم هذا الوسام ، قال تعالى { وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } آل عمران 140 .
ترجمت المجزرة العنصرية والحقد الصهيوني وخروجه على القيم الأخلاقية والشرائع الإلهية والقوانين والمعاهدات الدولية ، الجريمة التي اهتز لهولها كل صاحب ضمير حي ، فقد انتهكت فيها قداسة المكان والزمان وجلال الصلة بالله عز وجلّ ؛ فالمكان هو الحرم الإبراهيمي الشريف مثوى الأنبياء وبيت الله المقدَّس ؛ والزمان هو شهر رمضان المبارك شهر الصيام والقيام ، وأما الصلة بالله تعالى فقد انتهكت بذبح المصلين الركّع السجود بين يديه سبحانه في صلاة الفجر التي تشهدها ملائكة الرحمن .
إن الحقد الغاشم لم يراعِ قدسية لمكان ولا حرمة لزمان أو دم إنسان ؛ فقد صب حميم نيرانه على المدنيين الآمنين ؛ فسقط عشرات الشهداء والجرحى في جريمة خطط لها فكر صهيوني استيطاني وعسكري له تاريخ حافل بالمجازر قبلها وبعدها ضد شعبنا الصامد المرابط ؛ فما زلنا نشهد مجازر جديدة تستهدف الأطفال والنساء والشيوخ ؛ وتطال بعدوانها البشر والشجر والحجر والمقدسات وكل مظاهر الحياة ؛ سقط فيها من الشهداء والجرحى عشرات الألوف الذين يغفر لهم بإذن الله لقوله صلى الله عليه وسلم { يٌعطى الشهيد ستُّ خصال : يغفر له بأول قطرة من دمه … } رواه الترمذي .
لقد ارتكبت مجزرة الحرم الإبراهيمي الشريف لهدف اتَّضحت معالمه هو تهويد مدينة الخليل ، فبعد انقضاء فترة حظر التجول الذي فرض على المدينة واستمر أكثر من شهر للحفاظ على أمن المستوطنين ولضمان حياتهم ، وبعد إغلاق الحرم في وجه المصلين المسلمين دام أكثر من شهرين ؛ فوجىء أهل الخليل بإجراءات تهويد الحرم الإبراهيمي ، فقد شكلت سلطات الاحتلال الإسرائيلية بعد المجزرة لجنة ” شمغار” المتطرفة التي قضت بتقسيم الحرم واقتطاع جزئه الأكبر للمستوطنين ، وتقطيع أوصال المدينة وإغلاق أجزاء كبيرة من أسواقها ، وإغلاق شارع الشهداء الذي يعد عصب الحياة الرئيسي للمدينة ، وإغلاق سوق الخضار المركزي والشوارع المؤدية إليه وإلى مقبرة الخليل .
إن هذا الوضع الذي افتعلت مجزرة الحرم الإبراهيمي وتداعياتها وآثارها لأجله هو ذات المصير الذي ينتظر المسجد الأقصى المبارك كما تقضي بذلك صفقة القرن وخطة ترامب الصهيونية لتصفية القضية الفلسطينية إلا إذا نهض من يوقف هذه المؤامرة الخبيثة ويهزمها ويتصدى لها ، فلئن نجحت سلطات الاحتلال الإسرائيلية في فرض هذا الواقع في الحرم الإبراهيمي الشريف فإنها من المؤكد لن تنجح في فرضه في المسجد الأقصى المبارك ، فهذا المسجد جزء من عقيدة الأمة وقبلتها الأولى ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم تواصلت المؤامرات على هذه المدينة الأبية حتى اليوم ، فقد غُرست فيها البؤر الاستيطانية وأغلقت شوارعها ، وارتكبت فيها أفظع الانتهاكات لحقوق الإنسان : فقتلت فيها الأنفس وأزهقت فيها الأرواح البريئة ، وحظر التجول على أهلها يستمر فرضه لفترات طويلة ، ويمنع رفع الأذان من على مآذن الحرم الإبراهيمي الشريف باستمرار ، والحصار الاقتصادي المتواصل الذي يؤدي إلى شلّ الحركة التجارية في أسواقها تماماً ، والاعتداء المستمر على ممتلكات أهلها بهدم مبانيها الأثرية والتاريخية بهدف طمس معالمها الحضارية وتغيير هويتها العربية الإسلامية ، وبفتح الطرق الاستيطانية بين الحرم الإبراهيمي الشريف وبين مغتصبة قريات أربع وجميع البؤر الاستيطانية داخل مدينة خليل الرحمن لتحويلها إلى مدينة يهودية .
وما زالت سلطات الاحتلال الإسرائيلية الغاشمة تتبع لوناً جديداً مرعباً وأسلوباً إضاقياً من الإجراءات التعسفية ضد الحرم الإبراهيمي الشريف تمهيداً لمنع المسلمين وصوله نهائياً للهيمنة الكاملة عليه وذلك باستهداف من يصله أو يسلك الطرق المؤدية إليه شيباً وشباناً رجالاً ونساء بالإعدام الميداني الفوري بتهمة محاولة طعن الجنود .
وعلى الرغم من كل هذه المؤامرات المتزايدة والمتنوعة والمتجددة ، وعلى الرغم من الاقتحام الدائم للحرم الإبراهيمي الشريف من الصهاينة ورموزهم ومسؤوليهم ، فإنني أؤكد بأن هذه المدينة المحتلة ستبقى عربية إسلامية بصمود أبنائها المخلصين الأوفياء ؛ الذين يعاهدون الله على التمسك بها والدفاع عنها والثبات على أرضها ، ومواصلة إعمارها والتسوق من أسواقها والمواظبة على الصلاة في حرمها الإبراهيمي الشريف ليبقى مسجداً عامراً بالمؤمنين يصدح من على مآذنه صوت الحق الله أكبر ، فهم موقنون بأن الحياة الطبيعية لمدينة الآباء والأجداد ، مدينة الأنبياء والصالحين لن تعود إلا برحيل آخر مغتصب وجندي محتل عن أرضها الطهور ، وما ذاك على الله ببعيد .
(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)