تحويل القبلة مظهر تميز الشخصية المسلمة
بقلم د. عبد الآخر حماد الغنيمي
من الأحداث المهمة في سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم حادث تحويل القبلة ، والذي خلاصته أن رسولنا صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين كانوا مأمورين بالتوجه في صلاتهم نحو بيت المقدس بالشام ، وظلوا على ذلك بعد الهجرة النبوية المباركة ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً ، كما في حديث البراء بن عازب الذي رواه البخاري ( 40) ومسلم (225) . وكان الرسول صلى الله عليه وسلم طيلة هذه المدة يتمنى لو أمره الله تعالى بأن يستقبل قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام ،وهي الكعبة المشرفة ، وظل صلى الله عليه وسلم ينظر إلى السماء داعياً الله عز وجل بهذا الذي يتمناه إلى أنزل الله تعالى : ( قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره )[ البقرة : 144].
وقد اختلف أهل التواريخ والسير في الوقت الذي حولت فيه القبلة، وجمهورهم الأعظم كما ذكر ابن جرير الطبري في تاريخه ( 2/ 18) على أنها إنما حولت في نصف شعبان من السنة الثانية للهجرة ،على رأس ثمانية عشر شهراً من مقدم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة .
وقد تكلم العلماء قديماً وحديثاً في موضوع تحويل القبلة والحِكَم العظيمة المقصودة منه . وأريد هنا أن أركز على معنى واحد من المعاني المرتبطة بهذه الحادثة العظيمة ألا وهو مبدأ الاستقلالية والتمايز؛ أي: تمايز الأمَّة المسلِمة عن غيرها من الأمم ، فإنَّ بيت المقدس رغم مكانته العظيمة في الإسلام ،إلا أنه لما كان قبلةً لبني إسرائيل ، فإن الله تعالى لم يُرد لخيرِ أمةٍ أخرجت للناس أن تكون تابعة لغيرها ، بل لا بد لها من قبلة تستقل بها ، فاختار لها ربها ما كان يرجوه عبده وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم وهو أن ترجع إلى قبلة إمام الحنفاء إبراهيم عليه السلام ،الذي أُمرنا بأن نتبع ملته كما قال الله تعالى لنبيه الكريم : ( ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين ) [ النحل : 123] .وقال تعالى : ( وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملةَ أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل ) [ الحج : 78] .
ثم إن هذا التمايز في أمر التوجه في الصلاة يعطينا دلالة رمزية لما يجب أن تكون عليه هذه الأمة في كل أحوالها من الاستقلالية وعدم التبعية لغيرها ، فهي متميزة في تصوراتها وتشريعاتها وأنظمتها وسائر أمورها.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من تضييع استقلالية هذه الأمة ،بالتشبه بغيرها فقال صلى الله عليه وسلم : (ومن تشبه بقوم فهو منهم ) .[أخرجه أحمد (2/50) وأبو داود(4031) من حديث ابن عمر ،بسند صحيح ].
وفي حديث أبي هريرة عند البخاري ( 6888) يقول الرسول صلى الله عليه وسلم محذراً أمته من اتباع مناهج غيرها من الأمم : ( لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبراً بشبرٍ وذراعاً بذراعٍ ، فقيل : يا رسول الله كفارس والروم ؟ فقال : ومن الناس إلا أولئك ؟ ). [ أخرجه البخاري ( 6888 ) ]. وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لتتبعن سَنن من قبلكم شبراً بشبرٍ وذراعاً بذراعٍ ، حتى لو سلكوا جحر ضبٍّ لسلكتموه ، قلنا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن !؟ ) . [ أخرجه البخاري ( 3269 ) ومسلم ( 2669 ) ].
إن من المهم أن نقرر هنا أنه ليس المقصود بما ذكرناه من التميز والاستقلالية أن يهضم المسلمون حق غيرهم ولا أن يظلموهم ، أو أن ينظروا إليهم -كما ينظر اليهود إلى غيرهم – على أنهم مخلوقات لا قيمة لها ، أو أنهم بمثابة الحَمِير التي خلقها الله ليركبها شعبُ الله المختار، ( فإذا نفق منهم حمار، ركبنا منهم حماراً ) ؛ كما هو نص تلمودهم .
إنما المقصود أن تعرف الأمة المسلمة قيمة المنهج العظيم الذي وهبها الله إياه ،وأهمية الحفاظ على عقيدتها النقية وشرعها المستقيم ،فلا تنساق وراء من يريدون تمييع عقائدها وسلوكيات أبنائها ، فلا تنشأ الأجيال المسلمة وقد تربت على ثقافة غير ثقافتها ،وأخلاق غير أخلاق دينها ،بدعوى الوحدة الإنسانية أو حتى بدعوى الوحدة الوطنية ، بل لا بد مع تقرير مبدأ المعاملة الحسنة لسائر الخلق ، من التأكيد على تميز الأمة المسلمة والحرص على إبراز شخصيتها المستقلة .
وانظر مثلاً إلى قضية الحجاب في الإسلام وكيف أن الله تعالى قال مخاطباً نساء النبي ثم نساء الأمة من بعدهن : (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ).[ الأحزاب: 33]،فلما كان التبرج من خصائص أهل الجاهلية فقد كان من مقاصد الحجاب في الإسلام أن تتميز المرأة المسلمة عن غيرها .والعجيب أن هذا الذي هو من مقاصد الحجاب في الإسلام صار عند بعض المتفلسفين من دعاة السفور في عصرنا مبرراً للتهجم على الحجاب ؛لأنه بحسب تعبير أحد أولئك الكتاب يوشك أن يقسم المجتمع إلي نصفين حيث أصبحت غير المحجبة ينظر إليها على أنها غير مسلمة ، حتى تثبت العكس ، وقد ضرب لذلك مثالاً بابنته غير المحجبة ،وأنها من أجل ذلك عادة ما تُسأل عن اسمها الثلاثي للتأكد من ديانتها.
وأقول : إننا لسنا على استعدادٍ للتخلي عن فرضٍ فرضه الله على نساء المسلمين لنريح ابنة ذلك الكاتب من تساؤلات المتسائلين .ولقد مضت على المسلمين في مصر قرون -أدركنا بقاياها في بعض قرى مصر ونحن صغار – كانت المرأة القبطية فيها تخرج متسترة متحجبة كالمرأة المسلمة . فإذا كان هؤلاء لا يريدون الانقسام كما يقولون ،فلِمَ لا يطلبون من غير المسلمة أن تكون هي التي تخرج مستترة محتشمة ، بدلاً من أن يطلبوا من المسلمة أن تتخلى عن حجابها الذي هو مظهر عفتها وعنوان حيائها ودليل تمسكها بدينها ؟
(المصدر: رابطة علماء المسلمين)