تحرير الوعي
إن الوعي البشري سيظل يعاني من شيء من الأسر، وشيء من الحيرة والارتباك، وسندرك مدى وطأة تلك المعاناة إذا عرفنا أن على الوعي نفسه أن يحرر ذاته من القيود التي صنعها، ويصنعها لذاته؛ أي أن عليه القيام بدور الحجر والنّحات في آن واحد.
أنا هنا لا أستطيع التحدث عن كل أشكال التحرر التي يحتاجها الوعي الإسلامي؛ فهذا حديث طويل للغاية، ولهذا فسأركِّز على نوعية العلاقة التي تربط ذلك الوعي بالحاضر والماضي، وذلك عبر الملاحظتين الآتيتين:
1- لأمة الإسلام ماضٍ مجيد، ولأسلافنا إنجازات ضخمة، ما في ذلك ريب، وإن وعينا يرتبط بذلك الماضي عبر عدد من الروابط،أهمها:
أ – العقائد والمبادئ والقيم التي كان يؤمن بها أسلافنا.
ب – الأشخاص الذين تجلت تلك العقائد والمبادئ في سلوكياتهم على نحو واضح؛ فصرنا ننظر إليهم على أنهم قدوات لنا.
جـ – الأحداث والمعارك والمنجزات التاريخية الكبرى بوصفها تجسيدات لعقائد الأمة، وبوصفها دلائل على حجم دورها الحضاري.
د – الوسائل والأساليب التي استخدمها السلف في تحقيق ما حققوه.
إن الأمم التي ظفرت بتاريخ عظيم كتاريخنا كثيراً ما تجد نفسها مشدودة بقوة إلى ذلك التاريخ، وقد تعلمنا من التاريخ نفسه أن من السهل تحوّل الماضي من مصدر للإلهام والإرشاد ومن خزان للخبرة الثرية إلى عبء ثقيل يعيق حركة الوعي، ويحجبه عن بلورة رؤية جيدة للحاضر، وهذا يعود إلى شيء جوهري هو عدم نقاء إنجازات السابقين على نحو يجعلها فوق الجدل، وإلى عدم تمتعها بما يكفي من العبقرية والمرونة ـ كما هو شأن كل منجزات البشرـ لتظل نموذجاً قابلاً للمحاكاة على تعاقب الدهور.
ونحن نتساءل اليوم عن مدى ملاءمة كثير من النماذج التاريخية العظيمة لنهضة حياتنا المعاصرة: إلى أي حد يا ترى يلائمنا زهد إبراهيم بن أدهم، وتصوف أبي القاسم الجنيد، والطريقة التي تعامل بها صلاح الدين الأيوبي مع خصومه ومناوئيه، والأسلوب الذي اتبعه العثمانيون في إدارة الولايات الإسلامية …
إن التاريخ لا يعيد نفسه، وهذا يعود إلى أنه مع مرور الأيام تحدث تغيرات أخلاقية واجتماعية وفيزيائية وكيميائية … تجعل استعادة الأحداث والأجواء التاريخية في حكم المستحيل، لكن وعي كثير من الناس لا يسلّم بهذه الحقيقة بسهولة، ولهذا فإنه يظل متشبثاً بالماضي: حلوه ومره، صوابه وخطئه، ويظل ينظر إلى تخفيف الارتباط به على أنه يشبه قفزة في الفراغ، لا تؤدي في الغالب إلاّ إلى الهلاك، أوأنه يشكل نوعاً من الخيانة للذات، لا ينتج عنه سوى البلبلة والضياع.
إن التاريخ لا يعيد نفسه، وهذا يعود إلى أنه مع مرور الأيام تحدث تغيرات أخلاقية واجتماعية وفيزيائية وكيميائية … تجعل استعادة الأحداث والأجواء التاريخية في حكم المستحيل
2- علينا أن نتخذ من الحاضر منطلقاً للتعامل مع الماضي والنظر إلي المستقبل؛ ذلك لأن اللحظات الحاضرة هي التي نملك استثمارها والاستفادة منها، وهذا يوجب علينا أن ننفتح على الواقع من أجل استيعاب متطلباته بروح عصرية وعقل موضوعي؛ إذ طالما كان الانفتاح على الواقع أفضل مصدر لتحرير الوعي وتجديده، وأمة الإسلام تستطيع فعل ذلك بكفاءة وثبات؛ لأن المنهج الرباني الأقوم يملّكنا كل العتاد المطلوب لمحاكمة الماضي والاستفادة منه، والمشكلة التي تواجهنا دائماً هي الرؤية العمشاء من وعي مكبّل بأغلال المفاهيم المتقادمة والملاحظات البالية.
خذ على سبيل المثال التعامل مع (الكيف والكم) لتجد أن الحاضر يتطلب منا التركيز الشديد على (الكيف) أي الجودة والنوعية، وهذا على كل الصعد؛ فالأمم الأكثر نهوضاً وتأثيراً في العالم ليست هي الأكثر عدداً، ولا الأكثر امتلاكاً للأراضي الواسعة أو الثروات الطبيعية… لكنها الأكثر اهتماماً بتعليم الإنسان وتدريبه وتربيته ورعاية حقوقه، لكن وعي كثير من الناس- مسلمين وغير مسلمين- مازال متشبثاً بـ(الكم) حيث كان العنصر البشري غير المتعلم وغير المدرب قادراً على القيام بواجباته الحضارية على نحو شبه عادي؛ بسبب ما كان سائداً من بساطة الحياة، وبسبب قيام معظم الجهد البشري على قوة العضلات، وليس على قوة الأدمغة، وإذا تجوّلت في بعض مجاهيل الدول الإفريقية وجدت الكثير من الرجال الفقراء الذين أنجب الواحد منهم سبعين أو ثمانين طفلاً، وما ذلك إلاّ لأن دوره في الأسرة يشبه دور (الفحل) ليس أكثر، وستجد أن من براعة ذلك الأب الفحل أنه يعرف أولاده، ويعرف لأي أم تنتمي كل مجموعة منهم! وحين تحدِّثه عن تربية الأبناء والاهتمام بهم تجد نفسك وكأنك تتحدث على موجة مختلفة عن تلك التي يلتقطها، وذلك لأن الأم في تلك الدول هي التي تقوم برعاية الأبناء، وهي التي تعمل على كسب رزقهم في ظروف كثيراً ما تكون صعبة للغاية.
تحرير الوعي من الأوهام والمفاهيم الخاطئة يزيد في أهميته على تحرير الأسرى من سجون العدو، وعلى تحرير الديار من جيوش المستعمرين؛ لأن أسر الوعي يعني ارتهان ذات الأمة كلها لدى قوى غاشمة غير معروفة ولا مشاهدة.