د. وصفي عاشور أبو زيد
إذا كانت اللغة – كما عرفها إمام العربية ابن جني – هي: «أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم»(1)، فينبغي أن تكون هذه الأصوات مفهومة للمتلقي، وتلك الأغراض مرفوعة وواضحة للجميع؛ إذ الحديث دون وضوح في التعبير والمضمون لن يؤدي حتماً إلى تحقيق الغرض من التعبير.
إذا تأملنا بدقة في ساحتنا الفكرية، ورصدنا الخلاف حول القضايا التي نعيشها، أو عاشها مَن قبلنا، فسوف نجد أن الخلاف – في أحيان كثيرة – نابعٌ من استخدام المصطلحات بمعانٍ مختلفة؛ هذا يستخدمه بمعنى، وذاك يستخدمه بمعنى آخر، أو يكون للمصطلح أكثر من معنى؛ فيقوله المتحدثُ يقصد به معنى معيناً، ويحمله المتلقي على معنى آخر، ولو حدث اتفاق على معاني المصطلحات من البداية، وتم تحديدها وتحريرها وضبط مضامينها لما كان خلافٌ أصلاً.
ولذلك قال ابن حزم من قديم (ت: 456هـ): «والأصلُ في كل بلاء وعماء وتخليط وفساد: اختلاطُ الأسماء، ووقوعُ اسمٍ واحدٍ على معانٍ كثيرة؛ فيخبر المخبر بذلك الاسمِ وهو يريدُ أحد المعاني التي تحته، فيحمله السامع على غير ذلك المعنى الذي أراد المخبرُ، فيقع البلاءُ والإشكال، وهذا في الشريعة أضرُّ شيء وأشدُّه هلاكاً لمن اعتقد الباطل، إلا من وفّقه الله تعالى»(2).
وأقرب مثال لذلك في الساحة المصرية – وغيرها من الساحات المشابهة – مصطلح «الدولة الدينية»؛ حيث يشتعل سعار أهوج ومعركة مفتعلة إن لم يكن متعمَّداً من قبل البعض باستخدام فزَّاعة «الدولة الدينية» لمصادرة الإسلاميين ومشروعهم، ومحاصرة آرائهم ومنع تجربتهم، بتلبيس مضمون الدولة الدينية للدولة الإسلامية، إما عن قصد، وإما عن جهل بطبيعة الدولة في الإسلام.
وهم يعنون بالدولة الدينية تلك التي كانت في العصور الوسطى؛ حيث الحكم يكون فيها لرجال الدين، وحيثُ عصمة الحاكم الذي لا يجوز أن يُراجَع، ولا أن يُشترك معه في الرأي، ولا أن يعقِّب أحدٌ على حكمه، ولا أن يناقش في رأي؛ فقوله الفصل، ورأيه الصواب، وقراراته الحكمة، ولا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون!
في حين أن الدولة في الإسلام لا تعرف هذا النوع من الحكم، بل تستنكره وتحرمه وتجرمه؛ فالحاكم – في الإسلام – يُراجع، ويحاسب، وتوليه الأمة وهي التي تملك عزله، ويعاقب إن لزم الأمر، أما هذا الكهنوت فلا يعرفه للإسلام إلا المنحرفون عنه الذين يعانون من الحوَل الفكري والخلل العقلي!
وهكذا قد يتغير مضمون المصطلح، أو يفهم خطأ، أو تنحسر مساحة ماصدقاته (مكوناته)، أو تتسع لتشمل ماصدقات أخرى لم تكن تشملها في زمن ما أو بيئة ما، وقد تسمو دلالة المصطلح، وقد تهبط أو تسوء، وما أكثر المعارك الفكرية – بل المعارك المسلحة التي تصل لحد القتل أحياناً – بسبب عدم إدراك ما تدل عليه مصطلحات بعينها إذا استخدمها الإنسان في بيئة غير بيئته، ويُقصد بها في البيئة التي يتحدث فيها معانٍ فاحشة تقدح في العرض والشرف، وهي في بيئة المتحدِّث ليست كذلك!
من مقاصد تحرير المصطلحات
ولهذا كان من الأهمية بمكان أن نحدد المصطلحات ونحررها، ونضبط مضامينها، ونتفق على هذه المضامين وحدودها ومعانيها؛ لأن في هذا فوائد كثيرة، ومقاصد عظيمة، نذكر بعضها في السطور الآتية.
1- الحفاظ على وحدة الأمة وقوتها:
من مقاصد تحرير المصطلحات الحفاظ على وحدة الأمة وقوتها؛ حيث إن عدم تحديدها يؤدي إلى التنازع والتهارج والفرقة والضعف.
وما يجري في الساحة المصرية وما شابهها حول «الدولة الدينية» خير دليل، ولو تفاهمت جميع الأطراف على ضبط مضمون المصطلح وتحديد المراد منه، والاتفاق على ذلك قبل الانطلاق لأي نقاش أو جدال لعززنا وحدة المجتمع وازداد قوة، ووقينا أنفسنا ومجتمعاتنا وأمتنا شر المراء والفرقة والاستقطابات الحادة.
2- حسم الخلاف بين المتنازعين:
الانطلاق من أرض ثابتة يؤدي إلى الاتفاق في الرأي والتقارب في وجهات النظر؛ فمتى انضبطت المفاهيم وتحررت المصطلحات وتحددت معانيها فإن الخلاف بعدها لن يكون كثيراً، وإن وجد فسوف يكون بلا تنازع، بل يكون في إطار من التفاهم، وجو من المحبة؛ لأن استخدام بعض المصطلحات بمضامين مغايرة لما يستخدمه الآخر يؤدي إلى التنازع، وقد يؤدي إلى تجريح الأشخاص وإيغار الصدور والتدابر والتشاحن.
ولهذا فإن الانطلاق في الحوار من مفاهيم واضحة المضامين ومحددة المعاني سلفاً يحسم الخلاف بين المتناظرين حتماً، ويقضي على التنازع فوراً.
3- توفير الهدْر في الجهد والوقت والمال:
هل يستوي الجهد والوقت والمال المبذول في حوار لم نتفق فيه على الأرض الثابتة والمنطلقات الواحدة والمصطلحات المحررة والمضامين الواضحة، مع الجهد والوقت والمال المبذول في حوار ذي منطلق واحد ومضامين واضحة ومصطلحات محررة ومفاهيم محددة؟ بالطبع لا يستويان.
ذلك أن الانطلاق من مفاهيم خاصة لها معانٍ عند كل واحد تختلف عن الآخر يؤدي – فضلاً عن النزاع والفرقة والخلاف – إلى هدر هائل في الوقت والجهد وربما المال، ثم في النهاية إذا اتضحت المفاهيم وحُدِّدت معانيها لدى كل واحد ثاب الجميع إلى نقطة الصفر بعد تضييع الوقت والجهد وإرهاق الأعصاب، ولو تم هذا من البداية لما كان هذا الهدْر في كل شيء.
4- تحقيق أكبر قدر ممكن من الغايات:
ومن مقاصد تحديد المصطلحات وتحرير معانيها وضبط مضامينها أننا نحقق أكبر قدر من الغايات والأهداف التي انعقد لها الحوار بأقل جهد ذهني وعصبي وأخلاقي، وبأقل تكلفة في الوقت والمال؛ إذ إن الانطلاق من معالم متفق عليها ومضامين واضحة لجميع الأطراف يجعل السير صحيحاً، والحوار مثمراً، والنتائج سريعة التحقق، وبالإضافة لذلك فإنه لا يعمل على سرعة تحقيق الغايات والأهداف فقط، وإنما يعمل على تحقيق أكبر قدر من الأهداف المرجوة؛ إذ الترشيد والجدية في الابتداء تؤدي إلى مضاعفة الثمرات وتحقيق الغايات في الانتهاء.
5- تحقيق الفهم المشترك والحوار السليم:
إن تحقيق الفهم المشترك بين المتحاورين، وإجراء حوار سليم لن يتم إلا عبر الاتفاق على المضامين وتحرير المصطلحات المستخدمة في هذا الحوار، يقول د. محمد عمارة: «إن أغلب حواراتنا هي ضحايا بائسة للفوضى الشائعة في مضامين المصطلحات.. وعلينا – كي يفهم كل منا الآخر، ولتحديد مناطق الاتفاق ومناطق الاختلاف، ولتنظيم حوار موضوعي وجاد وبناء – أن نبدأ بتحرير وتحديد مضامين ومفاهيم المصطلحات»(3).
وبهذا يحدث التفاهم والتقارب، وينطلق الحوار سليماً صَحيحاً صِحياً مثمراً، يبدأ من أرض ثابتة، ومنطلقات واحدة وواضحة، وينتهي إلى نهايات بناءة، ويحقق غايات إيجابية وفاعلة.
الهوامش
(1) الخصائص: (1/33)، لأبي الفتح عثمان بن جني، تحقيق محمد علي النجار، عالم الكتب، بيروت.
(2) الإحكام في أصول الأحكام: (8/101)، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط2، د. ت.
(3) معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام: (ص22). د. محمد عمارة، نهضة مصر، القاهرة، الطبعة الثانية، 2004م.
(المصدر: مجلة المجتمع)