مقالاتمقالات مختارة

تحديات المستقبل أمام الحركة الإسلامية

تحديات المستقبل أمام الحركة الإسلامية

بقلم أ. محمد إلهامي

لا يمكن إحصاء عدد الصفعات التي يتلقاها مظلوم في عموم العالم الإسلامي في اليوم الواحد، إن الصفعة نفسها من أبسط مظاهر الظلم الذي يقع بالمسلم في عالم يهيمن عليه الاستبداد والاحتلال. إلا أن صفعة واحدة من تلك الصفعات مثلت الشرارة التي انطلقت لتغير وجه العالم.. تلك هي التي نزلت على وجه البوعزيزي في تونس فما هي حتى استحالت ثورات عربية ترسم التاريخ والجغرافيا من جديد.
بعد ثماني سنوات من هذه الواقعة لم نعد نتحدث عن صفعة، بل عن مجازر وحشية منصوبة ومستمرة، عن طوفان مجنون من القتل والسجون والتعذيب والتشريد وهدم المدن وعمليات الإبادة. فلو أن الأمر مجرد تغيير لشخص أو تعديل في نظام أو مطالبة بإصلاح سياسي لما كلَّف الحال أن يحصل هذا كله، ولكن الجميع يعلم أن عالمنا الإسلامي -وفي القلب منه العالم العربي، وفي القلب منه: مصر والشام- هو ميدان المعارك الكبرى ومحتدم الصراع العالمي الحضاري الكبير، وأنه القصعة التي يأكل منها كل قوي، فالكل يتقاتل على أرضنا ويتعارك على لحمنا ويتنافس على مواردنا، ونحن الفريسة المأكولة رغم أننا الأمة المليارية التي تهيمن على أهم مواقع العالم وثرواته، وبهذا صدق فينا قول نبينا صلى الله عليه وسلم “يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها، قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكن غثاء كغثاء السيل. ولينزعنَّ الله المهابة من صدور عدوكم منكم، وليقذفنَّ في قلوبكم الوهن. قالوا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت”، وفي رواية: “حب الدنيا وكراهية القتال”.
صلى الله على من أوتي جوامع الكلم، ففي هذا الحديث وصف دقيق للحال، وفيه كذلك وصف للحل وسبيل الخروج. وهذه السطور القادمة هي مجرد حاشية على هذا الحديث، فقد كنت كلما أعددت كلاما وجدتني أنتهي إلى حيث هذه النتيجة.

نُذُرٌ من المستقبل

ما إن يختار المرء لنفسه هوية وموقعا حتى يكون قد اختار معها طموحه وأهدافه، وما إن يفعل ذلك حتى يكون قد حدد لنفسه أعداءه واستشرف أول مستقبله. والحركة الإسلامية ما إن ترى نفسها “إسلامية” حتى تكون قد رأت في اللحظة نفسها خريطة أهدافها وخريطة أعدائها. فمجرد وجود الإسلام يعني بزوغ الحرب مع الباطل، حربا ضروسا لا هوادة فيها، إذ التعايش بين الحق والباطل ممتنع، فكل منهما يطلب لنفسه الحق في السيادة والهيمنة وحكم الناس وتصريف أحوالهم وإنشاء نظامهم وصياغة أفكارهم. واللحظة التي صدح فيها النبي صلى الله عليه وسلم “لا إله إلا الله” كانت هي لحظة بزوغ العداوة فقيل له “تبا لك”. ولقد ابتدأت المعركة الملتهبة فكانت صراعا صفريا، يصوره قول الله تعالى (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا)، وهو ما استلزم أن يكون قتال المؤمنين على هذه الصورة (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله).
في واقعنا المعاصر تجد الحركة الإسلامية نفسها في مرمى الاستهداف والمؤامرة، ذلك أنه ما من شعب في هذه الأمة أتيحت له فرصة الاختيار إلا وحمل الإسلاميين على الأكتاف ووضعهم في المقدمة، تسفر عن هذا التجارب السلمية والقتالية على السواء، إن كان الخيار بالانتخابات تصدر الإسلاميون، وإن كان الخيار القتال لم يثبت في الساحات إلا الإسلاميون أيضا.
ولهذا كفَّ مخططو النظام الدولي عن محاولة دمقرطة العالم الإسلامي حين اكتشفوا أن الديمقراطية لن تأتي بالعلمانية المطلوبة، فأجمعوا أمرهم على الحرب والاحتلال، احتلالا صريحا مباشرا مكشوفا، أو احتلالا بالوكالة عبر دعم الأنظمة المحلية العميلة التي تمثل بديلا ممتازا لتغطية وجه الاحتلال بقناع وطني محلي يثير أزمة في الشرعية ويتمتع بقدرة أعلى على مكافحة الأمة والسيطرة على الشعوب.
وبغض النظر عن التفاصيل الصغيرة فإن السياسة المتفق عليها بين الجميع هي استمرار الهيمنة الأجنبية على بلادنا، يتعاون في ذلك الديمقراطيون والجمهوريون في أمريكا، واليمنيون والليبراليون في أوروبا، كما يتفق عليهم مع ذلك كله الروس والصينيون، ويعد مثال الثورة السورية واضحا في أن العالم يقبل تماما بإبادة ملايين الناس وتهجير عشرات الملايين مقابل ألا تخرج البلد من هيمنته.
ولا تبدو ثمة مؤشرات في الأفق على أي تغير من جهة القوى العظمى لهذه السياسة، فالحال إما باقٍ على ما هو عليه، وإما سيزداد ضروراة وشناعة.

الحركة الإسلامية: أثقال الإخفاق!

حين نقول “الحركة الإسلامية” فنحن نقصد جميع الأطياف الإسلامية، فالحركة الإسلامية هي استجابة الأمة المسلمة للتحديات المفروضة عليها، ولذا ستشمل الطيف الجهادي والإخواني والسلفي وسائر ما بينهما، مع استبعاد من خرج عن طيف الحركة الإسلامية ليصير ضدًّا لها، مثل فصيل السلفية الجامية المدخلية التي صنعت من الحكام “أولياءِ الأمورِ” آلهةً ومن رغباتهم دينا وجعلت طاعتهم واجبة وإن كفروا، ومثل فصائل الصوفية التي عزلت نفسها عن الأمة وقضاياها ورضيت بالحكام أولياء أمر وتركت لهم شأن الدنيا ورضيت منهم بالموائد والموالد، ومثل الغلاة من الجهاديين الذين صاروا خوارج يُكفرون حتى الفصائل المجاهدة ويخرجون على الأمة يضربون برها وفاجرها لا يتحاشون مؤمنها. فيما عدا هذه الأصناف الثلاثة التي اختارت بنفسها أن تكون ضد الحركة الإسلامية، فالحركة الإسلامية هي كل عمل ينطلق من الإسلام ويعمل له.
تعاني الحركة الإسلامية الآن بجميع فصائلها موقفا حرجا، إذ أن كل السبل المطروقة لتحقيق التمكين فشلت وتعثرت، بداية من السبل السلمية الديمقراطية الدبلوماسية وحتى المحاولات الجهادية القتالية العنيفة. والتجربة الوحيدة التي مثلت نجاحا جزئيا للمحاولات الجهادية سرعان ما هُدِمت: تجربة طالبان. كذلك فإن التجربة الوحيدة التي مثلت نجاحا للمحاولات السلمية لا تزال تحت التهديد، وأعني هنا: التجربة التركية. هذا مع أن تجربة الحكم مستمرة منذ ستة عشر عاما، ولا تزال كثير من الممارسات لا يبتلعها الضمير الإسلامي إلا بتأويلات العجز والإكراه والضرورات.
ثمة مشكلة إضافية ومفصلية في التجربة التركية، وهي أنه لم يعد مسموحا بأن تتكرر، فالعدو الذي يهيمن على السياسة العالمية يقرأ التاريخ كما نقرؤه، فمن ناحيتهم فشلت تجربة السماح لحزب أسسه إسلاميون “سابقون، معتدلون” في إنتاج “الإسلام المعتدل” المتوافق مع الحضارة الغربية. ولم تعد هذه المحاولة ممكنة التكرار، وتعد التجربة المصرية دليلا على هذا، كما تعد محاولات الانقلاب العسكري في تركيا ومحاولات اغتيال أردوغان دليلا آخر على أن التجربة لم تعد مقبولة.
وهكذا يفرض علينا العدو نفسه خطا كفاحيا مُقاوِما، لأن الأمة بمجموعها لن تستسلم، وحتى لو اختار طيف إسلامي ما أن يستسلم ويركن بعد أن أصابه الإنهاك فالواقع أنه لن يسحب الأمة لتركن إلى جواره بل ستتجاوزه الأمة إلى غيره ممن يعبر عن المرحلة الجديدة ويكافح فيها.
وأما بقية التجارب السلمية فلم تحقق إصلاحا لا منشودا ولا بعض منشود، فالنتيجة النهائية أن الأنظمة الحاكمة احتوتها ضمن نظامها السياسي فتحولت لتكون جزءا منه، فربما كان للحركة الإسلامية أعضاء في البرلمان أو في الوزارة بل ربما شكلوا الوزارة في ظروف استثنائية، لكن الصلاحيات الحقيقية لم تكن أبدا بيدها، كذلك فالمسار العام للحكومات كان غير إسلامي بل كان ضد الأمة الإسلامية، هذا فضلا عما اشتعل بين الحركات الإسلامية من معارك داخلية استفادت منها الأنظمة ومن ورائها الاحتلال الأجنبي، إذ وجب على الفصيل الموجود في البرلمان والوزارة أن يبدي أكبر قدر ممكن من الولاء للدولة والإيمان بها وإثبات وطنيته كما يبدي أكبر قدر ممكن من رفض الاتجاهات الإسلامية الأخرى، وربما استعملت الأنظمة هذا الذراع الإسلامي الموجود شكليا في البرلمان والحكومة لحرب بقية الإسلاميين، فكانت معاركٌ هلكت فيها طاقات إسلامية هائلة لتصب في مصلحة أنظمة حاكمة ممثلة ومعبرة عن الهيمنة الأجنبية.
لكن المشكلة هنا في أن التجارب الكفاحية القتالية أيضا لم تنجح، وأن أحدا لا يريد أن يرى في بلاده مصائر أفغانستان والعراق وسوريا واليمن وليبيا، فلقد كانت التكلفة هائلة وباهظة دون أن تتحقق النتائج المرجوة، فاختيار الانتقال إلى الكفاح مغامرة في غاية الخطورة غير مضمونة النتائج. فإذا كان هذا الاختيار مطروحا على حركات تَكَوَّنَتْ وتَشكَّلَتْ فكريا ونفسيا وتنظيميا على العمل السلمي السياسي، فإن الأمر يغدو أصعب كثيرا، بل ربما كان مستحيلا إذ هو كتكليف الأشياء ما هو ضد طباعها، وهكذا تعاني الحركة من الاختيار العملي بين الاستسلام والاستبدال! ومهما بُذِل من مجهودات تنظيرية لإثبات أن الاستسلام ليس استسلاما وإنما هو حكمة، وأن البديل ليس الاستبدال بل هو الانتحار! مهما بُذِلَت المجهودات في هذا فلن يغير هذا من حقيقة الواقع، أن الحركة الإسلامية إما أن تعيد تكييف نفسها لتُغَيِّر المهمة في المرحلة التاريخية الراهنة، أو أنها ستتعرض لسنة الاستبدال التي تجعلها صفحة من التاريخ ليأتي بعدها من يرثها.

سؤال القضية المركزية

كيف نحدد القضية المركزية للحركة الإسلامية في المستقبل؟ تلك القضية التي ستمثل الخط العام الاستراتيجي الذي ستعمل كافة القوى والطاقات على خدمته ودعمه؟ ذلك أن تحديد هذه القضية هو الكفيل بتجنب سنة الاستبدال، ففهم المرحلة يعني معرفة ملامحها وضروراتها والواجب فيها “واجب الوقت”.
تتميز الحركة الإسلامية بأن مرجعيتها “الإسلامية” توفر لها تصورا شاملا للكون والإنسان، وللصراع، وللرسالة المطلوبة منها، ولعدوها.. وهي إن افتقدت استلهام الإسلام في تصوراتها وسياساتها فقدت بالضرورة طبيعتها الإسلامية. هذه المرجعية تصور أن هذه الأرض ساحة للصراع بين الحق والباطل، وهي كذلك منذ نزل إليها آدم حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهو صراع مغالبة لا منافسة ومشاركة، إذ لا يطيق الباطل وجود الحق ولا الحق وجود الباطل، فكل علوٍّ للحق يكون على حساب الباطل والعكس بالعكس.
فإن افترضنا أن ثمة غبش وتشوش ران على العقول والقلوب فعمَّى هذا الوضوح فإنه ينبغي أن تصل الحركة الإسلامية لذات الحقيقة من خلال الواقع الذي يسفر عن وحشية هائلة (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة)، بل من خلال كتابات مفكري وصناع قرار العدو، وهي كثيرة للغاية: فالإسلام “هو الحضارة الوحيدة التي جعلت بقاء الغرب موضع شك، وقد فعل هذا مرتين على الأقل”، والإسلام “ليس مجرد نظام من العقائد والعبادات، إنه أعظم من ذلك كثيرا، هو مدنية كاملة، ولو بحثنا عن لفظ مقابل له لقلنا: العالم المسيحي ولم نقل المسيحية، ولقلنا الصين بدل أن نقول ديانة كونفوشيوس”ولهذا فهو بديل حضاري لما تطرحه الحضارة الغربية، ومن ثم يمكن للغرب التعايش مع البوذية والهندوسية والكونفوشيوسية لأنها لا تمثل بديلا حضاريا له على عكس الإسلام، ويوم كان العالم الإسلامي صفرا في ميزان القوى وكانت المعركة محتدمة بين الغرب نفسه في الحرب العالمية الثانية قال وكيل وزارة الخارجية الألماني للحاج أمين الحسيني إن الغرب لا يخشى من الشيوعية ولكنه يخشى إن اتحد المغرب العربي مرة أخرى أن يعودوا إلى الأندلس! وأي حديث غربي عن الإسلام بغير هذه المعاني هو إما نوع من الكذب والنفاق والخداع، أو هو على الأقل وفي أحسن الأحوال وجهة نظر أطراف هامشية غير مؤثرة في صناعة القرار، بينما واقعنا المعاصر وتاريخنا القريب والبعيد يصدق أقوال الأولين.
وهكذا فإن الحركة الإسلامية هي طليعة أمة تحمل مشروعا مناقضا للباطل ولحزب الشيطان الذي تمثله الحضارة الغربية في هذه اللحظة من عمر البشرية، وأول لوازم هذه الحقيقة أن تحمل الحركة الإسلامية هذه العقيدة حمل المؤمن بها إيمانا لا يتزلزل ولا يهتز ولا يتردد، إيمان من يعرف أنه يُخْرِج الناس من الظلمات إلى النور، إيمان من يشن حربا شعواء على حزب الشيطان وهو موقن أنه في حزب الله. وليس ذلك إيمان المتعصب الأعمى العاطفي بل هو إيمان من يعرف حق المعرفة ما هو عليه من الحق وما فيه عدوه من الباطل، ويستطيع أن يخوض معركة اللسان والحجة والبيان بنفس القوة والتمكن التي يندفع فيها إلى معركة القوة والسنان.
إن مواجهة الحركة الإسلامية للهيمنة الغربية المادية العلمانية التي تستعبد الناس إنما هي صورة من معركة النبي صلى الله عليه وسلم ضد عبادة الأصنام، وذلك أن النظام العالمي المهيمن على الناس الآن قد نصب أصناما وأوثانا إلا أنه غير أسماءها، بها يستعبد الناس لمنظومته وفكرته وقانونه وشرعته، فثمة أصنام على مستوى الأفكار: الديمقراطية، حقوق الإنسان، الحريات، تحرير المرأة… إلخ! وثمة أصنام على مستوى المؤسسات: مجلس الأمن، الأمم المتحدة، المحكمة الجنائية الدولية، صندوق النقد الدولي، البنك الدولي… إلخ! وثمة أصنام على مستوى الدول: الدولة، الدستور، الأمن القومي… إلخ! وكافة هذه الأصنام إنما هي أدوات ترسيخ أفكار وسياسات النظام العالمي.
إنه من البائس المثير للشفقة أن ترى بعض رموز الحركة الإسلامية وطوائف من علمائها ودعاتها يبذلون غاية جهدهم لتسويق الإسلام على أنه لا يخالف كل هذه الأفكار بل هو يؤيدها وينشرها، هذا هو عين الهزيمة النفسية، وعين الاستلاب الحضاري والذوبان في الغالب. كذلك من البائس المثير للشفقة أن تعمل الحركة الإسلامية تحت سقف الدولة العلمانية الاستبدادية التي نشأت أساسا برعاية الاستعمار والتي تقوم على مصلحة المحتل، فتُكَيِّف نفسها لتكون ملتزمة بالقوانين ومنضبطة بالمساحات التي تتيحها السلطة بل ربما شعرت تجاه من يقاومون السلطة وعاملتهم كأنهم تهديد لها!
لئن كان الأمر إكراهات واقعية ظرفية اضطرارية في مرحلة ما فربما يكون هذا مقبولا بأحكام الاضطرار والإكراه والاستثناء، إنما المأساة أن يصدر هذا عن قناعة بأن النظام العالمي وما يطرحه من أفكار وقيم هو إنجاز بشري وصلت له الإنسانية وينقصه فقط بعض إجراءات ليكون عادلا وشاملا ومتعايشا مع الجميع، أو أن تكون القناعة بأن الأنظمة المحلية أنظمة وطنية صادقة وأن الأزمة هي في سوء فهم بينها وبين الحركة الإسلامية أو في سوء تقدير للمصلحة الوطنية.
ما لم تعتنق الحركة الإسلامية أنها تمثل النقيض للنظام العالمي والنقيض للنظم المحلية الاستبدادية فإنها لن تبلغ أن تفهم –مجرد الفهم- لماذا تتعرض لهذه الوحشية العدائية من قبل الجميع! وستظل تبذل المجهود الضخم في تأويل الإسلام وتكييفه لتُرْضِي ممثلي النظام العالمي والأنظمة الوظيفية حتى تجد نفسها في نهاية المطاف وقد تركت الإسلام على الجملة، ثم ستجد نفسها مهزومة كسيحة قد انصرف الناس من حولها وجرت عليها سنة الاستبدال!
القضية الأساسية المركزية للحركة الإسلامية أن تؤمن أنها الطليعة الممثلة للإسلام الذي يمثل نقيضا لكل نظام أرضي جاهلي ظالم يرفض “لا إله إلا الله”، وأنها تخوض معركتها العالمية لإنقاذ الناس أجمعين وإخراجهم من الظلمات إلى النور.

سؤال الأداة المركزية

إذا استقر في اليقين أن المعركة في نهاية الأمر معركة عقيدة، معركة هوية، معركة عالمية، ميدانها كل الأرض وموضوعها الإنسان وطرفاها: حزب الله وحزب الشيطان.. إذا استقر هذا في اليقين كان سؤال الأداة المركزية سؤالا بديهيا، كما كانت إجابته إجابة سهلة واضحة: الجهاد.
الجهاد ماض إلى يوم القيامة، هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. والحقيقة التي يجب أن تفهمها الحركة الإسلامية جيدا أن كل حركة لا تمارس الجهاد ستجري عليها سنة الاستبدال!
هذا الكلام يقال في حال الرخاء والعافية وفي حال قوة الأمة وتمكنها، فأما إن كانت الأمة كالفريسة المنهوشة فإن إجابة الجهاد هي الإجابة الوحيدة الصحيحة، وهي إجابة فطرية بديهية تلقائية، يفهمها العامي الأمي البسيط دون مجهود.
ومن محن الحركة الإسلام أنه إذا ذُكِر الجهاد أو ذكرت القوة سارع البعض لتمييع مفهوم الجهاد والقوة ليتسع فيشمل أنواعا أخرى، فيقال: جهاد النفس وجهاد القلم وجهاد البيان، ويقال: القوة الإعلامية، القوة الاقتصادية، القوة السياسية، قوة الإيمان… إلخ! وليست المشكلة في أن نراعي كل هذه الأنواع من الجهاد والقوة، بل المشكلة هي المسارعة بالانحراف عن المعنى الواضح المباشر للجهاد والقوة، المعنى الذي يعني القتال المسلح المباشر.. هذه المسارعة دليل محنة عنيفة، وهي أبلغ معاني قول النبي صلى الله عليه وسلم “حب الدنيا وكراهية القتال”، الذي هو الوهن، الذي هو سبب الغثائية، التي هي سبب تكالب الأمة علينا.
نعم.. سنحتاج في مسار الجهاد إلى كل أنواع القوة بداية من قوة الإيمان ومرورا بقوة التلاحم والأخوة، وسنحتاج إلى القوة الاقتصادية والعلمية والإعلامية والسياسية التي تمهد له وتضبطه وتنضجه وتحسن استعماله وتحصد آثاره.. سنحتاج كل هذا لا شك، لكن سنحتاجه ونحن نجاهد فعلا، وبغير وجود مشروع الجهاد لن نتمكن من بناء أي شيء من تلك الأنواع من القوى، فالأمم الخاملة لم تتقدم في شيء من هذا، بينما الأمم التي تحارب هي التي تخطو الخطوات الواسعة في العلم والسياسة والاقتصاد والنفوذ. ولو كان القتال يُضعف لكانت أضعف البلاد أمريكا، ولو كان السلام يوفر الفرصة للنمو الاقتصادي والعلمي والسياسي لكانت السلطة الفلسطينية أقوى الإمبراطوريات! التاريخ ينطق بالعكس: الأمة التي تجاهد وتقاتل هي التي تتفجر طاقاتها العلمية والاقتصادية والسياسية والفكرية، فتعمل آلتها التشغيلية بكل قواها فإذا بالاقتصاد يقوي الحرب ويقوي العلم، والعلم يقوي الحرب والاقتصاد، والحرب تحرس الاقتصاد والعلم.. وهكذا في دائرة تتضافر وتزداد قوة ونفوذا. بينما الضعف يأتي بالهزائم ويذهب بالمال وتتفلت منه الطاقات العلمية ويأتي بالأعداء الطامعين الذين يحرصون على زيادة الضعف والرهق واستمرار التسلط والتخلف ونهب الموارد الاقتصادية والبشرية على السواء.
خلاصة القول أن الإسلام، كما قال ابن تيمية، كتاب يهدي وسيف ينصر. أو كما قال الشاعر:
قف دون رأيك في الحياة مجاهدا .. إن الحياة عقيدة وجهاد
بعد الوصول إلى هذا اليقين من إجابة سؤال القضية المركزية: العقيدة المناقضة المضادة لواقع وعقيدة النظام العالمي المهيمن، ومن إجابة سؤال الأداة المركزية: الجهاد لمقاومة الاحتلال والاستبداد. عندها ستتضح معالم الخريطة الإسلامية في المرحلة القادمة، وعندها ستتدفق طاقة الحركة الإسلامية في الاتجاه الصحيح.
وبقدر ما اتضحت هذه الخريطة في عقول وقلوب أبناء الحركة الإسلامية بقدر ما كانت سائر مجهوداتهم متكاملة ومتضافرة، سواء منها المجهود العلمي والدعوي والتربوي والعسكري والفكري والاقتصادي والسياسي والأمني. إن انطلاقة الاقتصادي –مثلا- بهذه الروح ستخالف تماما في قوتها وطريقة عملها وطبيعة إنتاجها انطلاقة اقتصادي يتصور أن النظام العالمي هو منتهى ما وصلت إليه البشرية ولا ينقصه إلا تعديلات جزئية هنا أو هناك، ومثلها انطلاقة عالم الشرع فشتان بين من ينطلق موقنا أنه يخرج الناس من الظلمات إلى النور فيتفانى في بيان محاسن الإسلام عن علم ومعرفة ودراية بمساوئ ما يعاني منه الناس من هيمنة النظام المادي العلماني وبين من يتفاني في إثبات أن الإسلام يتوافق مع هذا النظام العالمي فيكون أحسن أحواله أن يفتخر بسبق الإسلام لبعض الجوانب مع مجهود هائل في تأول وتكلف حشر الإسلام في قالب الثقافة الغالبة. وذات الكلام يقال عن سائر المجالات.
ربما قيل: لكن هذا السبيل سيكلفنا تكاليف هائلة، وسيعود على بلادنا بمصائر العراق وسوريا وأفغانستان وغيرها.
والجواب: في الواقع نعم، هذا ما سيحصل، ولكنه لن يحصل لأننا اخترنا هذا الطريق.. بل هذا الطريق هو الوحيد الكفيل بتقليل الخسائر إلى أقصى مدى ممكن، وأما سائر الطرق غيره فهي التي ستودي بنا إلى هذا المصير. وبيان ذلك شيء بسيط:
1. سائر الأمم التي نهضت مرت بهذه المرحلة من مقاومة الاستبداد أو مقاومة الاحتلال أو حتى الحروب الأهلية بين طالبي الحرية ومناصري الاستبداد أو الاحتلال. إن التحرر مكلف لأن الاستقلال غالٍ، ولأنه أول طريق كل نهضة، وليس من أمة بلغت وسادت إلا وقد عانت هذا المخاض، بما فيها تلك الأمم التي علت في الأرض وهزمتنا وقهرتنا واحتلتنا.
2. مصير أمتنا تحت الاستبداد المصنوع على عين الأجنبي ليس أحسن حالا من مصيرها إن هي قاومت وكافحت، وأولئك الذين يضربون المثل بالعراق وسوريا يغفلون عن أن نفس هذا المثل هو ردٌّ عليهم. فالعراق هو تجربة استبداد أنهك البلد حتى أسلمه إلى الاحتلال فلم يَثُرْ شعب العراق على الطاغية إنما سلَّمهم الطاغية إلى الاحتلال. وأما شعب سوريا الذي ثار فقد جاءه الطاغية بالاحتلال ليحفظ له نظامه بعدما تهدد. فصار المصيران واحدا رغم اختلاف المسلك: الاستبداد سيُسلمنا إلى الاحتلال وسيدمر بلادنا، فإما سبق الاحتلال الثورة أو سبقت الثورة الاحتلال!
3. ما تدفعه الشعوب من ثمن لتحررها هو أقل مما تدفعه كثمن لخضوعها، فحين يترسخ استبداد لخمسين سنة أو ستين سنة فإنه يتسبب فيما لا يحصى من أصناف القتل والإذلال، بداية من الحروب العبثية مرورا بالفساد والإهمال والتخلف التي تسفر عن قتلى بالأمراض وبحوادث الغرق والحرق والسيارات والقطارات وغيرها وحتى الظلم والتعذيب والقتل.. فتكون المحصلة ملايين القتلى لكنهم يذهبون بهدوء وعلى مدى زمني طويل ثم في النهاية إما أن يُسلمهم إلى الاحتلال أو يجلب إليهم الاحتلال فيدفع الشعب ثمن الاستبداد عقودا ثم ثمن الثورة والاحتلال سنين أخرى. فلا تُقارَن نتائجُ الصمود حتى انتصار الثورة بنتائج هزيمة ثورة وتمكن استبداد من بلد ما!
عند هذه النقطة لا يتبقى إلا الكلام عن الاستفادة من التجارب السابقة للثورات والحركات الجهادية لكي تتمكن الحركة الإسلامية من إنتاج مقاومة ناضجة واعية راشدة تتجنب أخطاء ما فات.


الهامش

صمويل هنتجتون، صدام الحضارات، ص339.

جب: وجهة العالم الإسلامي ص9.

مذكرات الحاج أمين الحسيني ص120.

الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات”.

(المصدر: المعهد المصري للدراسات الاستراتيجية)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى