مقالاتمقالات مختارة

تحاشوا السجن ما استطعتم .. عن الحرية والسجن والاكتئاب | جمال خاشقجي

تحاشوا السجن ما استطعتم .. عن الحرية والسجن والاكتئاب

 

بقلم جمال خاشقجي

 

بعد يومين طويلين أمضيتهما في منتدى أوسلو للحرية، في العاصمة النرويجية، الأسبوع الماضي، في ظل موجة حرّ تفوق سخونة معتقلات العالم الجنوبي الذي أتى منه معظم المناضلين “البؤساء” المشاركين، سألت نفسي وأنا أستمع إلى كلماتهم وقصصهم مع معركة الحرية في توغو، كمبوديا، فيتنام، أذربيجان، اليمن، إيران، ليبيا، ومصر… هل ما أسمعه يعزز إيماني بالحرية أم يدعو إلى الاكتئاب؟

الخلاصة التي انتهيت إليها هي الاحتمال الثاني. المحبط هنا ليس فقط تكرار وتشابه القصص، وكأن الطغاة يستسقون من بئر مسمومة واحدة، وإنما لا مبالاة العالم. الخارجية الأمريكية تصدر كل عام تقريراً عن حقوق الإنسان، وآخر عن حالة الحريات الدينية حول العالم، وقد صدر الأخير الأسبوع الماضي، ولا تقل معلوماته دقة وألماً عما تقوله منظمات حقوق الإنسان المستقلة، ولكنها لم تعد تفعل شيئاً. فقط قليل من العقوبات والعتب. لقد سيّست قضية الحقوق. تتذكر انتهاكات إيران فتوقع عليها أقصى العقوبات وتنسى مصر وزيمبابوي.

ماذا لو فاز بيرني ساندرز، عضو الكونغرس اليساري والحقوقي الذي يشبه بخطابه رئيس تونس السابق والمناضل حالياً المنصف المرزوقي بالانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة عوضاً عن دونالد ترامب؟ هل كان سيرفع راية الحقوق؟ أم سيذكّره رئيس السي آي إيه بأن هذا الشعار “سيُضعف حلفاءنا في المنطقة”؟ هل ستتراجع أهمية تحقيق مصالح شركات النفط والأسلحة وتحل محلها أولوية حقوق الإنسان؟ هل يستطيع الطغاة مقاومة يد أمريكا الغليظة؟ لعلهم يستعينون حينها بشعوبهم المغيّبة ويحوّلون كتبتهم إلى مناضلين للوقوف أمام الهجمة الإمبريالية الأمريكية الجديدة. سيناريو يصلح لرواية عالم افتراضي، لا لمقال سياسي أو جلسة بمنتدى أوسلو القادم.

شعرت بالأسى خاصة لليلى يونس، المناضلة الأذربيجانية التي بدت لي أكثر كجدة طيّبة تستحق أن تتقاعد وتمضي وقتاً سعيداً على كنبتها المفضلة ومن حولها أحفادها لتروي لهم حكايات وطرائف في بيتها بباكو عاصمة بلادها الغنية بالنفط، حيث بات الحكم وراثياً. لا جديد. هكذا هي جمهوريات عالمنا. اكتشفت خلال المنتدى أن توريث الحكم شائع في إفريقيا أيضاً وأمريكا اللاتينية، دون أن ننسى جمهورية كوريا الشمالية التي توارثها أب وحفيد رغم أنها “شيوعية ديمقراطية”!

غادرت ليلى المسرح بعدما أنهكتها كلمتها المؤثرة. رفعت قبضتها الضعيفة وهتفت بصوت أوهنه المعتقل “ليسقط الدكتاتور. لا تنسوا حقوق الإنسان في أذربيجان”. هل سيهتم أحد غير المنظمات الحقوقية؟

لا أعرف لماذا قفزت إلى رأسي صورة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وهو يحتفي بالرئيس الأذري إلهام علييف، قبل أن أفكر بغيره ممن يتعاملون ليل نهار معه ومع بقية طغاة العالم؟ ربما للعلاقة المتداخلة بين البلدين. إنها المصالح التي تجعل إردوغان يهتم بحقوق الإنسان في مصر ويتجاهلها في أذربيجان، نفس المصالح التي تجعل آلافاً، بل ملايين اللاجئين العرب يدعون الله أن يفوز إردوغان بالانتخابات القادمة، وغير معنيين بنحو خمسين ألف تركي معتقل منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة قبل أكثر من عام، إذ لن يكون أمامهم ملاذ يلجأون إليه لو خسر أردوغان وحزبه، فمرشحة المعارضة ميرال أكشنار أرعبتهم بتصريحها أنها ستعيد السوريين إلى وطنهم لو فازت بالرئاسة، الوطن الذي يحكمه قاتلهم!

ذكرت هذه المفارقة بين أذربيجان وأردوغان كي أشرح كيف تقهر المصالح والبراغماتية قضايا حقوق الإنسان بغض النظر عن عدالتها، حقيقة بات يدركها كل مَن أمضى ردحاً في مجال المعارضة والحقوق.

تخلى كثيرون عن توقع النتائج العاجلة، ويعملون على المدى البعيد على طريقة “اغرس شجرة لمَن سيأتي بعدك يستظل بها أو يبني منها قوساً ونشاباً”، فتراجع اهتمامهم بالنضال السياسي وباتوا يقدّمون نشر التعليم، التثقيف الذاتي، القيم الديمقراطية، ثقافة احترام القانون، وبالطبع “المبادئ فوق الدستورية”، وهو مصطلح سمعته لأول مرة في مصر عام 2012، إذ طرحها عدد من القانونيين والليبراليين المتخوفين من نوايا الإسلاميين، وعارضها الإخوان الذين كانوا مؤمنين أكثر بقوة الصندوق. ويبدو الآن أنه حتى أصحاب “المبادئ الدستورية” لم يعودوا مؤمنين بصدق بها، إذ سرعان ما انهاروا ولحقوا بدبابة الانقلاب حيث لا دستور يُحترم ولا صندوق ناهيك عن “مبادئ فوق دستورية”.

قبل أن أودّع ليلى يونس، لا بد أن أذكر بعضاً من قصتها. في 2014، فازت أذربيجان باستضافة الألعاب الأوروبية، فاحتجت ليلى على ذلك، و”هزئت” من منح الدول الأوروبية “الحرة” حكومة قمعية هذا الشرف. في اليوم التالي، اعتُقلت واتهمت بخيانة وطنها وطعنه في الظهر. قدّمت الدولة موقفها على أنه ضد الوطن وليس ضد الحكومة. هي بالتأكيد تعشق وطنها، ولكنها لا تحب الحكومة. مَن يشرح ذلك للزعيم وإعلامه الذي يروّج لمفهوم “أنا الوطن، والوطن أنا”؟ إنها مثالية. عاشت عمرها تقود معهد السلام والديموقراطية الذي يطالب بسيادة القانون ليكون وطنها لأهله، لا لديكتاتور يحكم شعباً خانعاً له مسبّحاً بحمده، قوماً لا يرون وطناً بدون الزعيم.

انتهت ليلى إلى السجن رغم سنها المتقدم، ولحق الشر زوجها عارف أيضاً. انهارت صحتها في المعتقل فأطلق سراحها وزوجها بعد عام ونيف. تعيش الآن لاجئة في هولندا… أكاد أسمع مواطناً يسبّح بحمد زعيمه ليل نهار أو منهزم من الداخل يقول “وماذا استفادت؟”. يوماً ما، سيقول أذري بوطن حر، لا يحكمه علييف الابن أو الحفيد، ونحن نتمتع بحريتنا بفضل ليلى يونس.

الفكرة الأخيرة تحرّك التسترون، وتعيد التفاؤل، ولكن مجمل المنتدى مثير للاكتئاب. اكتشفت أنني لست وحدي مَن يعاني من الضيق، كنت دوماً أحسبه بسبب فقدان الوطن، والحنين إليه، ولكني اكتشفت خلال محاضرة لاحقة أن 19 في المئة من الناشطين الحقوقيين يعانون من PTSD أي “حالة اضطراب حاد ما بعد صدمة عنيفة” وأن هناك مؤسسة بحثية معنية بذلك وتحاول تطوير أدوية وبرامج علاجية لهذا المرض الذي يدفع بعضهم للتفكير في الانتحار أو الانعزال التام وحتى المخدرات. السياسي لا يدرك مدى الضرر الذي يقع على “ابن الناس” الكاتب، أو إمام المسجد، الصحافي، المثقف، الاقتصادي عندما يلقي به في السجن دون سبب، لمجرد تخويف بقية الشعب، بل حتى في سجن انفرادي لشهرين أو ثلاثة. سيكون ذلك كابوساً يلاحقه حتى لو لم يتعرض لتعذيب قاس عندما يخرج من السجن.

أخبرني أحد مَن مرّوا بهذه التجربة أنه فكر بالانتحار مرتين. يكون منشغلاً وسط ناس أو في أوتوبيس مواصلات فيداهمه “فلاش باك” ينقله إلى الزنزانة ومشاعر اليأس والوحدة والخوف التي عاشها.

تذكرت زميلة صحافية استقرت الآن في واشنطن ومرّت بتجربة السجن. لا تكاد تخرج من بيتها رغم أنها الآن في أمان. لم أفهم أسبابها لذلك. ربما ظلمتها واعتقدت أنها تبالغ، كانت تقول لي: “لا استطيع أن أفعل شيئاً. أنا لا أزال هناك”. أتفهّم حالها الآن أفضل، وزاد أساي عليها، بعدما جلست مع ريك دوبلن الذي يقود مؤسسة غير ربحية لتوفير علاج لهؤلاء. حدثني عن صعوبات التأقلم التي يعيشونها وسط عدم فهم واقتناع مَن حولهم.

تضاءل ضيقي من “الضيق” الذي أستيقظ به أحياناً، بعدما اخترت الغربة والسلامة بعيداً عن الوطن، بالمقارنة مع ما سمعت عن معاناة غيري ممَّن مرّ بتجربة السجن، ولكن زاد غضبي على أولئك الذين يتشفون من “زملائهم” ومواطنيهم الذين تعثر بهم الحظ وانتهوا مظلومين في سجن كئيب.

أصعب شيء أن تُسجن دون سبب. المثقف ليس مجرماً، لذلك تجده دوماً غير مستعد للسجن. اتصل بي شقيق صديق انتهى إلى السجن في سبتمبر الماضي، بعدما سمح له بزيارته. قال لي: “كسره السجن الانفرادي، لن تعرفه عندما تلتقي به”.

لمَ تفعل هذا أيها الزعيم بخيرة أبناء شعبك؟ يوماً ما، ستأمر بإطلاق سراح صديقي ورفقته، سيخرجون أحراراً بأجسادهم، ولكن بعضهم سيبقى هناك في السجن، سيلاحقه ذلك الفراغ الزماني الهائل ما حيي. أشعر بالأنانية عندما أكتب الآن “الحمد لله أنني لم أدخل السجن” وأنا أعلم كيف يعيشون الآن في السجن، وأعرف مقدار الحرمان والألم الذي يعيشه أهلهم، والخوف الذي يجثم على مَن حولهم، الأحرار بأجسادهم والمعتقلون بأرواحهم وتطلعاتهم.

نحن في زمن بات السجن جزءاً من أدوات الحكم والسيطرة على “العامة”. لم يعد يحتكم إلى قانون وأنظمة. بات سلاحاً في يد الزعيم وحزبه وجيشه وطبقته الحاكمة. لذلك أتمنى أن تتوقف الحركات الإسلامية خاصة عن تمجيد السجن وتجربته. لا تنشدوا بعد الآن قصيدة سيد قطب “أخي أنت حر وراء القيود” في جلساتكم السرية المغلقة، هذا إذا كنتم تجرؤون على عقدها حتى الآن. ابحثوا عن صيغة ما للمعارضة لا تودي إلى السجون والمواجهة. أعلم أن هذا من السهل قوله، ومن الصعب فعله، فالسجن في عالمنا ليس إجراء عقابياً أو احترازياً دوماً. إنه جزء من التفاوض السياسي وأدوات الضغط، ومهارات التحكم في العامة.

إن أي حركة سياسية تتساهل في قرارات تودي بشبابها إلى السجن هي حركة غير مسؤولة وكذلك معارضو الخارج الذي يحرّضون مَن في الداخل على الغضب والتحرك ومناكفة الحاكم. لذلك أقول دوماً للشباب في بلدي: لا تستمعوا لهم وتحاشوا السجن ما استطعتم، كل ما ستحصلون عليه هو كلمة في منتدى أوسلو للحرية، وقدر كبير من الاكتئاب.

 

(المصدر: رصيف22)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى