مقالاتمقالات المنتدى

تجليّات التّسليم الرّاشد في مواقف الخليل -عليه السلام- “في حضرة الطّوفان”

تجليّات التّسليم الرّاشد في مواقف الخليل -عليه السلام- “في حضرة الطّوفان”

 

بقلم رانية نصر “عضو هيئة علماء فلسطين” (خاص بالمنتدى)

 

إن الحالة التي نعيشها اليوم من ألمٍ وإحباط في ظل أحداث طوفان الأقصى جسّدها البيان القرآني في سورة الأحزاب في قوله تعالى:﴿إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾ الأحزاب:10، وبالفعل لقد بَلَغت فينا الحربُ مبلَغها، وضاقت علينا الأرضُ بما رحُبت، وجاؤونا من فوقِنا ومن أسفلنا، وزاغت الأبصار، وبلغت القُلوب الحناجر، وزُلزِلت الأنفس زلزالاً شديداً؛ حتى قال الذين آمنوا متى نصرُ الله؟، وقال الذين هم دونهم أين الله؟ لماذا يتركُنا؟ ألم يعِدنا بالنّصر؟ فأين النّصر؟ ولماذا كل هذا الظّلم؟!!
 ويأتي الجواب: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ البقرة: 214 نعم إن نصر الله قريب لكننا نستعجل، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لصحابته عندما استبطؤوا النصر: “ولكنكم تستعجلون”.
 هو الحيّ القيّوم الذي لا يعزُب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، هو الله الجبار القهّار المنتقم العادل القادر على استظهار دينه وإقامة الحق حالاً، أو إرجائه لحين يشاء قال تعالى: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ الأنبياء: 23 نعم لا يُسأل العظيم عمّا يفعل لأن عقولنا قاصرة عن إدراك غاية حِكمته ومُنتهى مُراده في خلقه، فليس لنا التّدخّل في مشيئته، نعم إن الابتلاء شديد والكرب عظيم، وليس لنا إلا التسليم في هذه الشّدّة، مُتّصلين بحبل الله المتين، لاجئين لكتابه الكريم شافياً للقلوب، وبلسماً للجروح، ومُعلّلاً للنّفوس، جابراً للانكسار، مَعِيناً للواردين، ومُعيناً للسّالكين، صابرين عليه ومرابطين على ثغور الحق إلى أن نلقاه مع التّسليم الرّاشد بيقين النصر والاستعلاء!
 عندما نقرأ القرآن قراءة استرشاد واستهداء، نجده مُطبّباً لأوجاعنا، سلوى لأرواحنا التي أنهكتها غُربة الدنيا ونكدها، وملاذاً لتِيه أفكارنا، ودليلاً لحيْرتنا، فيهدأ القلب ويسكُن الرّوع، ويزداد اليقين فيكون التسلّيم لقضاء الله وقدره وسُنَنِه الكونية؛ سنّة الصّراع الدائم والدائر بين الحق والباطل وبين الخير والشّر، لكن التسليم لا يعني أبداً الاستسلام، ولا يعفينا بالضرورة من النّهوض بمقتضيات النّصر وإعمال قوانينه المُستقرأة من نصوص الوحي، ولا يُسقط عنا وِزر الخذلان أو إثم التّقاعد عن الأخذ بالأسباب والتّمكن من أدوات القوة والمنعة المعنوية والمادية وصولاً للغلبة والتّمكين!
 يأتي التّسليم الرّاشد والرضا الواعي والمُبصِر بالنتائج -أياً كانت- بعد هذه المراحل المُتكاملة والمُتفاعلة من الإعداد الطويل والتخطيط والعمل الدؤوب واستفراغ المقدور، فنحن مطالبون بالسّعي لا بالبلوغ، فقد سَأل نبينا إبراهيم -عليه السلام- ربَّه -عندما أمره بالأذان في الناس للحج- قائلاً: “يارب وما يبلغ صوتي؟ قال: عليك الأذان وعلي البلاغ”، فالنتجة أمرٌ خارج عن قدرة المُكلّف المحدودة، وأمرها إلى الله بخلاف السعي الذي تناط به مصائر العباد.
 يُعد التّسليم الرّاشد أحد أدوات التّمكين النّفسي الذي يستقوِي به المؤمن على مصائب ومصاعب الحياة والابتلاءات، لكن كيف نعيش معاني التّسليم الرّاشد من هدي القرآن ونجعله سلوكاً مُختَاراً في حياتنا لا واقعاً مفروضاً؛ كرافعة روحية تنتشل النّفس مِن نوبات اليأس وتستنقذها من طوارق القنوط؟!!!
 بونٌ شاسع بين التّسليم مع رضوخ وضعف وعجز، والتسليم مع إباءٍ وقوة وعزم، والذي يفصل بينهما صلابة العقيدة ووضوح الرؤية ورباطة الجأش واشتداد البأس، وما يسمو بهذه المعاني؛ صدق النّية وعلو الهّمة للعمل دون كلل مهما اشتطت بنا سُّفُن الضلال والظلام واشتدت علينا المحن والآلام طالما أنّ الرّحمة الإلهية تظلّلنا والمعيّة الرّبّانية ترعانا وتصنعنا على أعينها!
وبين عبادة الله على حرفٍ ورهبةٍ وعبادته عن حبٍ ورغبةٍ درجات ومراتب، يرقى فيها العبد بحسب ارتقائه في مراتب الإيمان واليقين والقرب يكللهم توفيق الله وهدايته بلوغاً لمُنتهى الرّشد في التسليم؛ فهو عملية عقلية وجدانية ابتداء تظهر آثارها سلوكاً مملوءاً بالدافعية لمزيد عمل وعطاء مع اطمئنان عميق، ويتجلّى معنى التّسليم الرّاشد في مواقف سيدنا إبراهيم -عليه السلام- مع ربه؛ ومن صوره التي جسّدها القرآن الكريم:
 أولاً: لما همّ الخليل بتنفيذ أمر ربّه ذبح ابنه؛ سلّما فوراً دون تلكّؤ أو مراجعة واستفسار، فشدة وقع الخبر عليه وجسامته لم تؤخّره عن فور الاستجابة والتّنفيذ بالرغم من أن إسماعيل كان دعوة أبيه لربه ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ الصافات: 100، فاختبار سيدنا إبراهيم لم يكن اختباراً عادياً مما يُمتَحن به عوام البشر وكأن هذا الاختبار الصعب واسَقَ مرتبة النّبوة السّامية وزادها مرتبةُ الأُوْلي عزميّة، فضلاً عن مرتبة الخليليّة التي زادته صعوبه في أن يكون هو المُكلف بذبح ابنه؛ فعلى قدر الحب والقرب يكون الاختبار، فما أشدّه من اختبار على النفس البشرية أن يقتل الرجل ولده الذي كان أمنيةً ورجاءً ودعاءً بعد طول اصطبار وانتظار، وقيل: “لما تعلّقت شُعبةٌ من قلب إبراهيم بمحبة ولده؛ أُمِرَ بذبح المحبوب ليظهر صفاء الخُلّة”، وإنّ المُحب لَأَن تنازعه الرّوح ألف مرة أهون عليه من التّخلي عن محبوبه الذي ملك شغاف القلب وكان لوجيبِه النبض والحياة، فما بالنا بذبحه عن طواعية وتسليم رغبةً في استوداد الودود!!!
 ثانياً: عندما ترك السيدة هاجر -عليها السلام- وابنها في وادٍ غير ذي زرعٍ تعجبت ثم تبعته قائلة: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً وجعل لا يلتفت إليها، فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا ربه أن يحفظهم ويرزقهم، والمُلفت أن التسليم الرّاشد لم يكن من إبراهيم -عليه السلام فقط؛ بل قوبل كذلك من السيدة العظيمة أم إسماعيل فأجابته إجابة الموقن بربه وأنه الخالق والرّازق والمُحيي والمُميت وليس البشر إلا أسباباً ووسائل، فلم تتعلق بالزوج رغم وحشة المكان وانقطاع الأنيس وحاجتها الماسة لمن يقوم على رعايتها وحمايتها هي وابنها.
 ثالثاً: حطَّم إبراهيم -عليه السلام- أصنام قومه حتى يبيِّن لهم سوء صنيعهم في عبادة آلهة لا تضر ولا تنفع، فلما تبينوا سوء فعلهم وقلة حيلتهم عن دفع حججه؛ قالوا: ﴿حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ الأنبياء: 68، فجمعوا حطبًا كثيرًا ثم جعلوه في جَوْبة من الأرض وأضرموها نارًا فكان لها شرر عظيم ولهب مرتفع لم توقَدْ قط نارٌ مثلها، وجعلوا إبراهيم -عليه السلام- في كفة المنجنيق، فلما ألقَوه قال: “حسبي الله ونعم الوكيل”، وذكر بعض السلف أنه عرض له جبريل وهو في الهواء، فقال: ألك حاجة؟ فقال: أمَّا إليك فلا، وأما من الله فبلى، قال الله – عز وجل-: ﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ الأنبياء: 69، قال: لم يبقَ نار في الأرض إلا طفئت، وقال كعب الأحبار: لم ينتفع أحدٌ يومئذ بنار، ولم تحرق النار من إبراهيم سوى وَثاقِه. فهكذا يكون نصرُ الله لأوليائه بصدق التّوكّل وبالتسليم التّام الرّاشد عن وعي ويقين، فإنه سبحانه قد قضى في قضائه، أنه من عادى له وليًّا فقد آذنه بالحرب.
 وإن ما يُعيننا على بلوغ مرتبة الرشد في التسليم؛ الإيمان باليوم الآخر حيث يجعلنا أكثر اطمئناناً بأن الموت ليس نهاية المشهد وأن المظلومين سيُقتص لهم من الظالمين وستتحقق فيهم العدالة الإلهية إما في الدنيا أو في الآخرة وهذا الشعور يستجلب التسليم الراشد والرضا بما كتب الله، فما أشق الحياة على من لا يؤمن بهذه العقيدة ويُنكرها!!!
 وإن عميق الإيمان بالقضاء والقدر واستحضاره في كل لحظة، يجنبنا كذلك التّسخّط على الله فنرقى من درجة التسليم الاضطراري إلى مرتبة التسليم الاختياري، ومن تسليم المُكْرَه إلى تسليم المُحب، ومن تسليم الساخط إلى تسليم الراغب، ومن تسليم التّائه إلى تسليم العارف، وإن استحضار علّة الوجود والاستخلاف في الدنيا؛ يهوّن علينا المصائب ويُقِزّم في عيوننا الخسائر أمام عظم مقصد استرضاء الخالق ويحوّل تسليمنا من تسليم اعتياد العوام إلى تسليم رُشد الخواص.
 إن الابتلاءات المتوالية على شعب غزة وضعتهم في اختبار لا يقوى عليه إلا من وَطّن نفسه على تلك المعاني وعاش حياته لله، صابراً على قضائه وقدره مهما اشتدت الابتلاءات، مُنتظراً لقائه، محتسباً أنفاسه لله، متوكلاً عليه، وبهذا تتجلى معاني التّسليم الرّاشد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى