تجربة طالبان: قراءة خلدونية سوسيولوجية في جذور وظهور الحركة
إعداد كرم الحفيان
مقدمة
عقب ما يقارب عقدين من الحرب الدولية على أفغانستان، وهي الحرب الأطول في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، عادت حركة طالبان لصدارة المشهد السياسي الأفغاني من جديد، ووقّعت مع أمريكا اتفاقية تاريخية تقضي بانسحاب جميع القوات والقواعد الأجنبية من أفغانستان خلال أربعة عشر شهراً. الاتفاقية الثنائية عُقدت في الدوحة في 29 فبراير 2020م دون دعوة الحكومة الأفغانية أو مشاركة أي من الأحزاب أو الجهات الأفغانية الأخرى. ضمت الاتفاقية عدداً من البنود الهامة المواكبة للانسحاب العسكري الكامل لأمريكا وحلفائها. في مقدمتها: الإفراج عن 5000 أسير طالباني، وإزالة أسماء قادة وعناصر طالبانيين من لوائح العقوبات الأمريكية، أضف إلى ذلك التعهد الأمريكي بعدم استخدام القوة مجدداً أو التدخل في الشؤون السياسية الأفغانية الداخلية. في المقابل، تعهدت طالبان بعدم السماح لأي تنظيم أو فرد باستخدام الأرض الأفغانية لشن هجمات أو تشكيل تهديدات مستقبلية لأمن أمريكا وحلفائها، إضافةً إلى الإفراج عن 1000 من منتسبي حكومة كابول المدعومة أمريكياً، والبدء بمفاوضات سلام مباشرة مع الحكومة الأفغانية[1].
وبعد الاتفاقية بأيام، شكّكت مصادر أمريكية متعددة (رسمية وغير رسمية) بالتزام طالبان بالسلام مع الحكومة الأفغانية، وأشارت لوجود معلومات استخبارتية مقنِعة تفيد أنه بعد الانسحاب الأمريكي، ستشن طالبان حملة على الحكومة ومن المحتمل عودتها للحكم من جديد[2]. التطورات السابقة جددت الأسئلة الكثيرة حول الحركة وأسباب عودتها القوية. في هذا السياق، كان لابد من إعادة فتح ملف طالبان ولكن هذه المرة من زاوية جديدة.
الإطار النظري للدراسة
في عامة الدراسات والأدبيات المكتوبة عن طالبان، عادة ما يتم قراءة ظاهرة طالبان عبر عدسة العلاقات الدولية وضمن نتائج الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن. وفقاً لهذه القراءة المنتشرة بكثافة، فحركة طالبان هي صناعة خارجية، وأداة باكستانية لخدمة أهدافها الجيو سياسية في “عالم ما بعد الحرب الباردة”. لاحقاً، تطورت هذه الظاهرة لتبتعد عن رعاتها الباكستانيين والأمريكيين ولتربط مصيرها ببن لادن وبشبكات “الإرهاب العالمي”[3]. في هذه الورقة، أزعم أن هذا الطرح أحادي الجانب وهذه النظرية اختزالية. ذلك أنها تتجاهل عوامل أخرى أعمق وأكثر جذرية. في مقدمتها، نوعية المرجعية الدينية لقادة ومؤسسي وهيكل الحركة، والبنية الاجتماعية والمكانية المحيطة بحركة طالبان، وطبيعة العلاقة بين هذا القسم من المجتمع والدولة. مجموع ما سبق، إضافةً إلى الانهيار السياسي للدولة، وعسكرة المجتمع، أدى في النهاية لولادة طالبان ولادة طبيعية محلية لا قيصرية خارجية. هنا، تتجدد حيوية مجموعة من النظريات الكلاسيكية الخاصة بالتغيير الاجتماعي السياسي. هذه المجموعة المترابطة مستخرجة من مقدمة ابن خلدون، وتشكل إطاراً نظرياً مناسباً لفهم العوامل الأساسية وراء مولد طالبان وصعودها واستمرارها رغم التقلبات الكبرى في السياسة العالمية وموازين القوى فيها على مدار ربع قرن مضى. أهم هذه النظريات، تلك القائلة بأن تفاعل وتكامل عوامل الدين والعصبية والمكان، هذه التوليفة ضرورية في صناعة التغيير الاجتماعي السياسي وفقاً لابن خلدون. التغيير عادةً يأتي من هناك، من بعيد، من ثورة البوادي أو الأطراف النائية لا من الحركة داخل المدن والعواصم. والتغيير الجذري يحتاج لحشد وتضامن اجتماعي شديد التماسك والبأس لا تجده إلا في العصبيات القائمة على روابط الدم والرحم أو ما شابههما. وهذه العصبيات المختلفة عادةً لا يمكن توحيدها إلا بالدعوة والقيادة الدينية الحقة الزاهدة بالدنيا. فعامةً، الدين هو السبب في توحيد القوى الاجتماعية عبر ترسيخ أسباب الألفة والوحدة وإزالة أسباب الفرقة والتناحر، وهنا يستشهد ابن خلدون بالآية 63 من سورة الأنفال “لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم”، ويستخلص منها أن أصل الكيانات السياسية الكبيرة “الدول عامة الاستيلاء العظيمة الملك” هو الدين. بيد أنه في الوقت ذاته يقرر أن “الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم” حتى للأنبياء! “وهكذا كان حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر والعصائب وهم المؤيدون من الله بالكون كله لو شاء؛ لكنه إنما أجرى الأمور على مستقر العادة”[4].
وذلك لأن السلطات والأنظمة عادة ما تكون قوية التأسيس “ولا يزحزحها ويهدم بناءها إلا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل والعشائر”[5]، هذا في بداية الدولة، أما لاحقاً “إن استقرت الدولة وتمهدت قد تستغني عن العصبية” وتستعيض عنها بالجند والجيوش[6]. والمكون القبلي عنصر اجتماعي تأسيسي في تكوين وتركيبة طالبان، مع ما تحمله البيئة القبلية من خصائص، بدءاً من حرية الفرد والمساواة المجتمعية وبقاء البأس بعدم الخضوع للأحكام بخلاف أهل الحضر، مروراً بخشونة العيش والشجاعة والتوحش، فضلاً عن التفوق الأخلاقي والقرب من الفطرة. سبب ما سبق هو المكان؛ السكن والانتشار في الأطراف النائية الوعرة والبعيدة عن ترف وفساد المدن وسطوة السلطة[7]، كما هو حال قبائل البشتون التي انحدرت منها حركة طالبان. بصورةٍ ملفتة، تبدو الجزئيات السابقة والمعادلات الخلدونية الكلية المفسرة لتفاعلها وثيقة الصلة بنشأة حركة طالبان ومسارها، ويبدو أن الاندماج الكبير الذي حدث بين القبلية البشتونية (ببنيتها الاجتماعية والمكانية) والفكرة الدينية الديوبندية (بنمطها الحر والزاهد) هو الذي أدى لخروج حركة طالبان كنموذج مختلف عن مجمل الحركات الإسلامية المعاصرة سواءً في أفغانستان أو في سائر أرجاء العالم الإسلامي. هذه الدراسة هي محاولة لإعادة النظر في جذور طالبان وفي عملية ظهورها الأول في تسعينيات القرن الماضي دون التعريج على فترة حكمها أو ظهورها الثاني بعد 2001م. الجزء الأول من الدراسة سيفكك الخصائص المميزة للمكونات الثلاث الأهم في بنية طالبان: المرجعية الدينية الديوبندية، ثم الاجتماعية القبلية البشتونية والمكانية الجغرافية، بينما في الجزء الثاني، سنرى التطبيق العملي لتفاعل هذه المكونات وتكاملها وأثر ذلك في تكوين وأداء طالبان.
خطأ شائع حول تأسيس طالبان
بادئ ذي بدء، لابد من تصحيح المعلومة المنتشرة عن مولد طالبان. في الحقيقة، تأسيس طالبان لم يكن عام 1994م كما هو شائع إعلامياً. وقد نوّه لهذا الملا عبد السلام ضعيف أحد مؤسسي الحركة في مذكراته الهامة “حياتي مع طالبان”. على أرض الواقع، وقبل هذا التاريخ بسنوات طويلة، كانت طالبان موجودة وباسمها هذا في صورة تيار ديني علمي منتشر في أرياف أفغانستان. ثم تشكل من هذا التيار مجموعات محلية مقاتلة عمادها علماء وطلبة علم ديني في مرحلة جهاد السوفييت في ثمانينيات القرن الماضي[8].
جذور طالبان
أولاً: الجذر الديني التقليدي: الحركة الديوبندية
ومن ثمّ، فإن أردنا استكشاف الركن الأول في هوية طالبان، فبلا شك، سنجد أنفسنا على تماس مباشر مع الشبكات التعليمية التي مر بها أو تخرج منها جل قادة وأعضاء طالبان، وهي المدراس الديوبندية. هذه المدارس الدينية منتشرة بكثافة في أفغانستان وباكستان. وهاتان الدولتان هما من الدول القليلة في العالم الإسلامي التي شهدت نمواً وانتشاراً لهذه النوعية من المدراس في المناطق الريفية في القرن العشرين[9]، في الوقت الذي كان غالب العالم الإسلامي يشهد انحساراً كبيراً للمدارس الدينية واستبدال المدارس العصرية الحكومية بها. ولكن دعونا في عجالة نعرّف بالمدرسة الديوبندية، ما سبب نشأتها؟ ما أهدافها؟ ما هي مصادر تمويلها؟ وما هي هيكلتها؟ ما هي مناهجها؟ وماذا عن خريطة انتشارها؟ الإجابة عن الأسئلة السابقة ستبرز لنا خصائص رئيسية مميزة للمدرسة الديوبندية.
بعد انهيار حكم الستة قرون للدول المسلمة في جنوب آسيا، وسقوط كامل الهند في قبضة الاحتلال البريطاني، ومع فشل الثورة المسلحة التي قادها وشارك فيها الكثير من علماء الدين المسلمين عام 1857م[10]، ومنهم الشيخ محمد قاسم النانوتوي[11] مؤسس الحركة الديوبندية. استشعر العلماء كارثية الموقف مع انتشار الثقافة الغربية والمهام التبشيرية، وفكروا في كيفية حفظ الهوية الإسلامية. من هنا جاءت فكرة المقاومة السلبية بمقاطعة الاستعمار البريطاني ومجالاته العامة، وبالتوازي مع ذلك إنشاء المدارس الدينية (سميت فيما بعد بالمدارس العربية) التي ستشكل “حصوناً” للثقافة الإسلامية بتخريجها العلماء بشكل مستمر، و”خزاناً” بشرياً لفتح جبهات جديدة ضد الاستعمار[12]، وهو ما وقع بالفعل. فأُسست دار العلوم ديوبند (المدرسة الديوبندية الأم) بشيخ واحد وطالب واحد عام 1866م، قبل أن تتولد منها مدارس كثيرة. ثم أسس هذا الطالب منظمة أسماها “ثمرات التربية” ونظّم وقاد الحراك المسلح ضد البريطانيين، وهذا الطالب أصبح فيما بعد مولانا شيخ الهند محمود حسن[13]. إذن، فالخاصية الأولى المرتبطة بالبعد التاريخي في مراحل التأسيس الأولى للمدرسة الديوبندية، هي عداوة الاستعمار واعتزال ثقافته والتأهب لقتاله. الخاصية الثانية التي أرساها الشيخ المؤسس محمد قاسم النانوتوي، وركز عليها بإلحاح في قائمة المبادئ الثمانية للمدرسة الديوبندية، هي الاستقلال المالي عن أي دعم حكومي أو حتى وقفي، بل والجديد العجيب، أنه كان يحذّر من وجود أي مورد ثابت للمدارس كي يظل الافتقار إلى الله موجوداً ولا تضعف عقيدة التوكل عليه. وبعد التوكل على الله، فإن الجهة المعوِّل عليها (عند النانوتوي) في عملية تمويل المدارس هم أفراد المجتمع المسلم، الذي حرص النانوتوي على تفعيل دورهم في الشأن العام عبر إشراك الجميع في عملية بناء وحماية منظومة تعليمية إسلامية مستقلة[14]. والنتيجة كانت مذهلة، إذ استنسخت تجربة دار العلوم ديوبند وكان لخريجيها دور كبير بتأسيس مدراس جديدة حيثما رحلوا[15]، لتصبح الديوبندية المؤسسة الدينية الأكبر في آسيا، والحركة الإصلاحية والجامعة الأهم في العالم الإسلامي خارج الشرق الأوسط[16]. فمن معاقلها في الجنوب الآسيوي (الهند- باكستان- بنغلاديش- أفغانستان) مروراً بجنوب أفريقيا حيث الوجود الأكبر بعد الجنوب الآسيوي[17] ووصولاً للغرب وخاصةً بريطانيا[18]. حقيقةً، لا توجد إحصائية دقيقة لعدد المدارس التي أسسها خريجو دار العلوم ديوبند (لأن الكثير منها غير مقيد رسمياً)، بيد أن الرقم قد تجاوز مائتي ألف 200,000مدرسة حول العالم وفقاً للموقع الرسمي لدار العلوم ديوبند[19]. الخاصية الرابعة التي تجسدت في المدرسة الديوبندية، هي إعادة تموضع العلماء كرعاة للمجتمع المسلم وحراس لقيمه. فانهيار الدولة المغولية المسلمة على يد البريطانيين ترك فراغاً سياسياً وقانونياً في قيادة المجتمع. الأمر الذي تبعه تحول في دور العلماء من تولي الوظائف الحكومية في زمن الدولة المغولية المسلمة إلى قيادة المجتمع علمياً وروحياً وأخلاقياً وقضائياً (عبر إنشاء محاكم مستقلة لا تتبع للإنجليز)[20] في زمن الاستعمار البريطاني[21]. أي أن العلم والتعليم الديني نُزع منه الجانب الوظيفي المصلحي المفيد دنيوياً، وأصبح مقصوراً على الجانب الرسالي الأخروي في حفظ هوية الشعب الإسلامية[22]. والخاصية الخامسة الهامة للغاية، هي هيكلة هذه المدارس القائمة على: النموذج الأهلي لا الحكومي من ناحية، فنشأة المدارس عادةً ما تكون بمبادرات وتمويل من السكان المحليين بعيداً عن إشراف ورقابة الحكومات[23]، وعلى النموذج الشبكي لا الهرمي[24]من ناحيةٍ أخرى. وقد أشار الباحث الألماني المتخصص في (الإسلام خارج العالم العربي)Dietrich Reetz إلى بلوغ هذه الشبكات المدرسية الديوبندية مرحلة “الحركة الذاتية المستقلة في التشغيل والنمو” بمعزل عن المؤسسة الأم (دار العلوم ديوبند) وخريجيها[25]. وفي كل بلد، تنتظم جميع المدارس ضمن رابطة علمائية ديوبندية واحدة كوفاق المدارس العربية في باكستان مثلاً. دور هذه الروابط هو تحديد المناهج والامتحانات ومنح الشهادات والإجازات، والأهم من ذلك تمثيل هذه الشبكات المدرسية الضخمة والدفاع عنها ضد أي سياسات حكومية عدائية[26].أما فيما يتعلق بالمنظومة التعليمية الديوبندية فهي ذات شقين، الأول: المناهج المؤلفة من المتون والشروح والحواشي الموروثة والمنتشرة في أصول الفقه والتفسير والفقه والحديث واللغة العربية والمنطق والفلسفة، وذلك وفق النظام التعليمي الأكثر قبولاً هناك وهو ما يعرف بالدرس النظامي[27]، هذا مع عناية عميقة وتميز كبير في علوم الحديث، وقد أشار لهذه الخاصية العالم المصري الشهير محمد رشيد رضا عقب زيارته الهند[28]. والشق الثاني هو الطرق التزكوية والتربوية المرتبطة كذلك بالأسانيد الصوفية المتصلة، مع توجه ناقد بشدة “للتصوف الشعبي” وممارساته وطقوسه[29].
الجانب التربوي يبدو جوهرياً في التعليم الديوبندي، وفلسفته تقوم بالدرجة الأولى على مفهوم “الصحبة” في التراث الإسلامي. فالنصوص العلمية ينبغي أن تنقل مع حمولتها الأخلاقية المتجسدة في بشر أحياء. وذلك عبر التفاعل المستمر بين الأساتذة والطلاب خلال سنوات الدراسة الطويلة، والاشتراك في التطبيق العملي للنصوص الشرعية، والمعالجة المستمرة للنفس كي يتم التخلص من الأخلاق الرذيلة كحب الدنيا والرياء والحسد، واكتساب الأخلاق الحميدة كالتقوى والخشوع والزهد في الدنيا[30]. ومن وجهة نظر الباحث، من المحال فهم الحالة الطالبانية الفريدة من غير الرجوع لتقاليد المدرسة الديوبندية الحاضنة لطالبان.
هذه المدرسة اتصفت بمجموعة من الخصائص نجدها متمثلة في حركة طالبان، وغائبة عن جل التيارات والحركات الإسلامية التقليدية والحركية المعاصرة. أولها: عداوة الاستعمار واعتزال ثقافته والتأهب لقتاله. وثانيها: الاستقلال المعرفي والمالي عن الاستعمار ودول ما بعد الاستعمار. وثالثها: تفعيل دور المجتمع في بناء المؤسسات التعليمية الإسلامية المستقلة. ورابعها: المعيارية في البناء المعرفي الموحد بين جميع خريجيها، الأمر المانع من الانشطار والتشظي الفكري. وخامسها: تموضع علماء الدين كقادة للمجتمع وحراس لقيمه. وسادسها: النمط التعليمي القديم القائم على الزهد وطول الصحبة والروابط الروحية المتينة بين مجتمعات الأساتذة والطلاب. وسابعها: القدرة على الحشد والإدارة اللامركزية لشبكاتها التعليمية العريضة. إذن فالدعوة الدينية التي ولدت من رحمها طالبان تبدو فريدة خاصةً في حِقب الحداثة وما بعدها. ورغم انتماء العالم المعروف أبو الحسن الندوي لاتجاه إسلامي آخر[31]، وانتقاده للديوبندية في عدم استفادتها من الجوانب الإيجابية في الحضارة الغربية، غير أنه وصف نجاحها في رسالتها الدينية “بالباهر” وأشار لأثرها الكبير في “تمسك الشعب الهندي الإسلامي بالدين وشريعة الإسلام، وتفانيه في سبيله، والتماسك أمام الحضارة الغربية المادية الإلحادية تماسكاً لم يشاهد في بلد إسلامي آخر تعرف بهذه الحضارة ووقع تحت حكم أجنبي”. وفي هذا المقام، يصف الندوي الديوبندية بأنها “المركز الثقافي الديني والتوجيهي الإسلامي الأكبر في الهند”. وبحسب المفكر والأديب محمد واضح رشيد الحسني الندوي فسبب نجاح الديوبندية هو “أنها لم تكن تنال مساعدة من الحكومة وكانت قائمة على أساس الزهد والتضحية والجهاد”[32]. ووجود خصال الزهد والتضحية في أي دعوة دينية يزيد من قدرتها على الحشد الهادف للتغيير السياسي كما ذكر ابن خلدون عند مناقشته لدور الدين في تأسيس الدول. وذلك عبر تأليف القلوب (بتنقيتها من أمراض التحاسد والتنافس) وتوحيد الجهود ومضاعفة قوة قوى التغيير[33]، إلا أن هناك أمراً آخراً لا يتم التغيير إلا به كما ستبين الصفحات القادمة.
ثانياً: البنية الاجتماعية التقليدية: العصبية العرقية والقبائلية – المكان الجغرافي
قد ذكرنا أن الدعوة الديوبندية انتشرت في بلاد كثيرة خاصةً في جنوب آسيا، فما هي الخصوصية التي أدت لوصول طالبان لحكم أفغانستان في نهاية التسعينيات ثم عودتها القوية بعد عشرين عاماً من الحرب الدولية عليها، وعدم تحقق هذا الأمر في الدول الأخرى التي دخلتها الدعوة. لا شك أن هناك عدة عوامل سياسية واقتصادية داخلية وخارجية، إلا أن العامل الأهم في نظر الباحث هو البنية الاجتماعية الحاضنة لطالبان، والنجاح الطالباني في تفعيلها وقيادتها بكفاءة عالية. لكن دعونا في البداية نحلل هذه البنية بشيء من التفصيل.
من الناحية الإثنية فجل أعضاء وقادة طالبان ينتسبون للقبائل والعرقية البشتونية. هذه القبائل تمتد بين قندهار وكابول في جنوب وشرق أفغانستان وصولاً للحدود الباكستانية ثم إلى الطرف الآخر المقابل في المقاطعة الشمالية غرب باكستان. البشتون هم العرقية الأكبر والحكام التقليديون في أفغانستان من جهة، والأغلبية في الجزء المحاذي بباكستنان والعرقية الثانية هناك مع وجود كبير في الحكومة من جهة ثانية[34]. في أفغانستان، يشكل البشتون 42% من مجموع السكان، فيما يشكل الطاجيك 27%، والأوزبك 9%، والهزارة (الشيعة) 9%، والتركمان 3%، والبلوش 2%، وأقليات صغيرة أخرى[35]. وبالرغم من عدد القبائل الكبير (نحو ثلاثين قبيلة) والمصالح والعادات المختلفة بينهم إلا أن الإنتماء للهوية العرقية يبدو قوياً عند البشتون. يرجع هذا الأمر، بالإضافة إلى الدين الواحد واللغة الواحدة والنسب الواحد إلى مدونة أخلاقية اجتماعية موحدة تسمى (بشتون والي) وتعني: طريق البشتون. تطبيق هذه المدونة المحددة لقواعد السلوك العام المقبول والمرفوض يبدو مشتركاً بين سائر قبائل البشتون، وضرورياً في الحفاظ على شرف الفرد داخل القبيلة. يتشكل هذا القانون والعرف القبلي من مجموعة بنود ومبادئ على رأسها ثلاثة:
- حسن الضيافة.
- الثأر.
- الإجارة (الإيواء).
وبالنسبة للفرد البشتوني فإن تطبيق هذه المبادئ وغيرها واجبٌ أخلاقي، بغض النظر عن الظروف المحيطة ومهما كانت قوة الجهات الرافضة له، وعليه يمكن فهم الكثير من تصرفات طالبان اللاحقة في ضوء الثقافة البشتونية[36]. في الواقع، فإن التركيبة القبائلية البشتونية في أفغانستان تتسم بالمساواة الكبيرة بين أفرادها وغياب الهياكل الهرمية، والمؤسسات الدائمة. والولاءات والفعّالية العملية فيها تتدرج من أسفل لأعلى بحسب الظروف المحيطة. فالبنية المجتمعية تتكون من العائلة الذريّة ثم العائلة الممتدة ثم العشيرة ثم القبيلة ثم اتحاد القبائل ثم عرقية البشتون. ففي الأحوال العادية، لا سلطة على الفرد وعائلته، ولا دور عملي للعشيرة والقبيلة (فضلاً عن الدولة). وفي وقت الخلافات أو الحروب يتم تشكيل مجالس من كبراء المجتمع وتسمى مجالس الجيرغا. هذه المجالس تعمل بشكل مؤقت وتصدر أحكامها وفقاً لفهمها للشريعة الإسلامية والتقاليد المحلية[37]. ولكن كيف تم الحفاظ على هذا النموذج الاجتماعي الديناميكي في ظل الدول العصرية المهيمنة على كافة نشاطات المجتمع؟ الجواب له عدة جوانب وهو كالتالي:
عند الحديث عن تاريخ القبائل في أفغانستان وبالأخص البشتون في المناطق الريفية والقبلية، فإن العنوان الأبرز المعبر عن حالها هو التشبث بالحكم الذاتي لمناطق وجودها ومقاومة هيمنة الدولة الحديثة عليها. ولذلك أسباب عديدة. أولها الطبيعة الجغرافية الوعرة العازلة بين المدن والأرياف، أضف إلى ذلك الاكتفاء المعاشي والاقتصادي، وأهمها -في نظر الباحث- هو تصور القبائل العقائدي عن الدولة الحديثة[38].
فالجغرافية الأفغانية القاسية قللت من سيطرة الدولة على الكثير من المناطق الريفية الممتدة والتي يشكل سكانها ثمانين بالمائة من إجمالي سكان أفغانستان، مما أدى لاستمرار الروابط الاجتماعية القبلية بشكل قوي في الأرياف والأطراف. والاكتفاء الاقتصادي سببه الدوائر الاجتماعية متحدة المركز التي تحيط بالأفغاني عامةً والبشتوني خاصة، وتجعله نادراً ما يحتاج خدمات من خارج محيطه القبلي والعرقي. وأخيراً الاعتقاد السائد عند القبائل بأنها المركز وليست الدولة، فمن حيث النشأة، هي سابقة بقرون على الدولة في صورتها الحديثة، أضف إلى ذلك نظرة الكثير من القبائل للدولة الحديثة على أنها كيان معادي للإسلام وقيمه، ناهيك عما ذكرناه من الاستغناء المعاشي الداخلي وعدم الاعتماد على مؤسسات الدولة وخدماتها[39]. قراءة الأمور السابقة في ضوء نظريات التغيير ودورات الزمان الخلدونية يبدو ذا صلة وثيقة، سواءً فيما يخص حرية الفرد أو استقلال المجتمع، والدور التأسيسي لهذين العاملين عند بدء التحرك باتجاه التغيير الاجتماعي السياسي الحقيقي والجذري. فوفقاً لابن خلدون، إن “معاناة أهل الحضر للأحكام مفسدة للبأس فيهم ذاهبة بالمنعة منهم، وذلك أنه ليس كل أحد مالكٌ أمر نفسه”[40]، بعكس ما رأيناه من حالة الفرد البشتوني الذي لا توجد سلطة فوقه إلا في حالات وظروف محددة ومؤقتة. ومن ناحية ثانية، فإن المجتمع الذي يعجز عن “المدافعة فأولى أن يكون عاجزاً عن المقاومة والمطالبة” وهذا يقع في المدن عادةً حيث توكل مسألة المدافعة للحاكم والحامية[41]، أما المناطق المعزولة غير المندمجة كالأرياف الواسعة الكبيرة في أفغانستان، فقد رأينا تمسك القبائل البشتونية القاطنة هناك بعصبيتها وتفعيلها لها، ما أدى لاستقلالها النسبي ومقاومتها لاختراق الدولة لها. وهنا يدلنا ابن خلدون على قاعدة ذهبية في تكوين شخصية الإنسان والمجتمع، ويبين لنا أثر المكان في الكثيرين فيقرر أن “الإنسان ابن عوائده ومألوفه لا ابن طبيعته ومزاجه”[42].
ثالثاً: الخلفية السياسية المركبة
كجل التيارات الدينية التقليدية في حقبة ما بعد الاستعمار في العالم الإسلامي. نأى طلبة العلوم الدينية الطالبان بأنفسهم عن أي مشاركة سياسية، سلمية كانت أو عنيفة، وانصب تركيزهم على العملية التعليمية. التفاعل السياسي الأول لطالبان كان في نهاية السبعينيات أشهر قليلة قبل الغزو السوفيتي. والسبب كان أمران. أولاً: ضغط الحكومة الأفغانية الشيوعية على الطالبان لضمهم لبرنامجها في “الإصلاح الزراعي”. وثانياً: تهديدات ومطاردة الحكومة لطالبان. والرد كان استهداف مؤيدي الحكومة[43]. ثم في حقبة الاحتلال السوفييتي والحكم الشيوعي الأفغاني في الثمانينيات، شكّل الطالبان مجموعات مقاتلة في الجنوب الأفغاني، خاصةً في محافظة قندهار. في ذلك الوقت، عُرف الطالبان بعدة أشياء:
أولاً: اهتمامهم بتعليم المنضمين لهم دينياً بشكل منتظم وتدريجي، وأنماط السلوك المختلفة عن باقي مجموعات المجاهدين (الزهد والقسوة). وتأسيسهم لنظام قضائي مؤلف من محاكم إسلامية منتشرة في الجنوب الأفغاني، فضلاً عن قيامهم بأعمال وساطة بين المتنازعين[44]. بيد أنه لم يكن لهم أي استراتيجية، أو برنامج، أو حزب أو حتى طموح سياسي. في الواقع، كانت المجموعات الطالبانية تعمل تحت مظلة أحزاب أفغانية أخرى، وهي إن كانت تحمل نفس التوجه التقليدي إلا أنها كانت أنشط سياسياً، في مقدمتها حركة الانقلاب الإسلامي بزعامة محمد نبي محمدي[45]. الملا محمد عمر نفسه مؤسس حركة طالبان في صورتها السياسية منتصف التسعينيات كان قائداً عسكرياً في جبهات حركة الانقلاب الإسلامي[46]. لاحقاً، بعد مشاركتهم في هزيمة الاتحاد السوفيتي وانسحابه عام 1989م، ثم سقوط الحكومة الشيوعية الأفغانية عام 1992م، عاد الطالبان لدروسهم الدينية. وبعد مرور سنتين عجاف، وبصورة غير متوقعة، بدأ الطالبان في التحرك الميداني عام 1994م[47]، ليصبحوا في أشهر معدودة القوة الاجتماعية السياسية الأكبر في أفغانستان، وليستمروا كذلك لربع قرن مضى وما زالوا، فكيف كان ظهور طالبان وما هي أسبابه المختلفة؟ الجواب في الأسطر القادمة. ولكن قبلها، تجدر الإشارة إلى أساتذة طالبان المباشرين. فغالب قادة طالبان تخرجوا من الفرع الباكستاني للمدرسة الديوبندية: جمعية علماء الإسلام في باكستان. وهذا الفرع يختلف عن الأفرع الديوبندية الأخرى في أنه الأنشط سياسياً ولقادته سجل سياسي طويل منذ تأسيس دولة باكستان عام 1947م. فقد كان للجمعية دور كبير في تأسيس دولة باكستان وهندسة دساتيرها والعمل كمجموعات ضغط لأسلمة القوانين والتشريعات أو إسقاط بعض الحكومات على مدار عقود طويلة. هذا بالإضافة إلى مشاركتهم في العمل البرلماني النيابي وفي حكم بعض الأقاليم الباكستانية[48]. وقد درس نحو تسعون بالمائة من قادة طالبان في أحد أشهر الشبكات التعليمية الديوبندية في باكستان، وهي ما تُعرف بالجامعة الحقانية التي يحلو لبعض الباحثين وصفها ب “هارفرد طالبان” ويُطلق على مديرها الشيخ سميع الحق لقب “أبو طالبان”. والشيخ سميع الحق يجمع بين كونه عالم يدرّس العلوم الشرعية، وسياسي ذا حضور مهم ومستمر في المشهد الباكستاني، وهو زعيم أحد فرعي جمعية علماء الإسلام (بعد انقسامها في الثمانينيات)[49]. هذه الخلفية الدينية السياسية لأساتذة طالبان وجهودهم في قضية تأسيس دولة إسلامية تطبق الشريعة تبدو مهمة وسيلحظ أثرها عند تحرك طالبان فيما بعد.
ظهور طالبان
كي نصل لفهمٍ شاملٍ لصعود طالبان، نحتاج أن نعمق النظر من عدة زوايا وعدسات لنلمّ بمجموع الأسباب المتعلقة بهذه الظاهرة، بدايةً من الدوافع والمرجعيات والأنماط الدينية الداخلية، والهياكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والتقسيمات العرقية، وسنمر سريعاً على العوامل الخارجية المتعلقة بالجغرافية السياسية، وديناميكيات السياسة الدولية.
1- ما بعد السوفييت وقبل طالبان (1992-1994)
هذه الفترة هي نموذج صارخ للمراحل الانتقالية شديدة الاضطراب والفوضى على مختلف المستويات الاجتماعية والسياسية. فإثر سقوط النظام السياسي السابق: الحكم الشيوعي (العصبية القديمة) لم يتم القضاء على نفوذه السياسي وهياكله الاجتماعية. ناهيك عن أن الإسلاميين الذين صعدوا للحكم لم يستطيعوا أن يشكلوا عصبية جديدة قوية وموحدة. الحزبان الإسلاميان الألمع في مرحلة جهاد السوفييت والشيوعيين كانا الحزب الإسلامي بقيادة المهندس قلب الدين حكمتيار، والجمعية الإسلامية بقيادة البروفيسور برهان الدين رباني والقائد العسكري الشهير المهندس أحمد شاه مسعود. الجماعتان تنتسبان للحركة الإسلامية المعاصرة (الإخوان المسلمين) التي ركزت على استقطاب طلاب الجامعات في العاصمة كابول وغيرها. حكمتيار ينتسب للبشتون (أكبر عرقية 42%) ورباني ومسعود ينتسبان لعرقية الطاجيك (أكبر أقلية وثاني أكبر عرقية 27%). الحزب كان حركة شديدة المركزية حول القيادة السياسية لا العسكرية. بينما الجمعية كانت عبارة عن رابطة هشة من قادة عسكريين محليين جلهم خريجي جامعات عصرية بلا أي جسم سياسي قوي[50]. عام 1992م، رسمياً، استلم السلطة حلفٌ من الأقليات العرقية والأيديولوجية والدينية. أما واقعياً، فقد كان هناك حلفان متصارعان مع تقسيمات فرعية أكثر تعقيداً وتبدلاً. في الحلف الأول تجد الطاجيك بقيادة الرئيس برهان الدين رباني والقائد العسكري ووزير الدفاع أحمد شاه مسعود (الجمعية الإسلامية)، إضافةً إلى الجنرال الشيوعي الأوزبكي الشهير دستم (من رؤوس النظام السابق) وميليشاته الأوزبكية، فضلاً عن الهزارة الشيعة، وحزب البرشاميس الشيوعي (أغلبهم حضريين غير بشتون). في الطرف المقابل، تجد رئيس الوزراء حكمتيار (الحزب الإسلامي) وأنصاره أغلبهم من البشتون، وحليفه حزب خلقيس الشيوعي (أغلبهم ريفيون من البشتون). في الحقيقة، هذه التحالفات كانت رخوة للغاية، وشهدت تحولات وتقلبات من طرف حكمتيار لطرف رباني ومسعود وبالعكس[51]. في خضم ما سبق، دخلت البلاد في موجة غير مسبوقة من الحرب الأهلية الدموية والانقسام السياسي الحاد، حتى إن بعض المنظمات استقلت بمناطق وكان لها بنوكها ومطارتها وإذاعاتها بل وأعلامها الخاصة المختلفة عن الحكومة المركزية[52]. وعلى الصعيد الاجتماعي، تفشت ظاهرة الانفلات الأمني والجرائم الأخلاقية[53].
2- بداية التحرك
وقندهار (مسقط رأس الكثير من قادة ومؤسسي طالبان) وجنوب أفغانستان عموماً لم تكن استثناءً، بل كانت مسرحاً للحرب الأهلية والجرائم الأخلاقية بما فيها من سلبٍ للأموال وقتلٍ للأنفس بل وانتهاكٍ للأعراض من قبل العصابات الإجرامية المنتشرة[54]. حينها، قرر عشرات من طلاب المدارس الدينية التقليدية التحرك، وبعد أن أنهوا اجتماعهم في المسجد الأبيض بمنطقة سانجيسار بقندهار، تبايعوا على محاربة الفساد ومطاردة المجرمين وتطبيق الشريعة الإسلامية، واختاروا الملا محمد عمر قائداً لحركتهم الجديدة[55]. من هنا، تبدأ قصة ظهور طالبان. وبالرغم من أن حركة طالبان هي حركة ملالي (طلاب علم) أكثر منها حركة مولوية (علماء)[56]، إلا أن بعض العلماء الكبار كان دورهم محوري منذ الانطلاقة، سواءً على صعيد المشاركة أو الاستشارة أو إعطاء الشرعية للتحرك. وهذه الأخيرة تحديداً حرص الطالبان على تحصيلها من القاضي الشهير المولوي باساناي، فهو شخصية عامة ذات أثر وقبول مجتمعي كبير، وقد أقر تحركهم[57]. في البداية، لم يكن لدى طالبان أي خارطة طريق سياسية أو استراتيجية أو برنامج لإسقاط حكومة الإسلاميين. فقط كانوا يحاولون معالجة حالة انعدام الأمن ومحاربة قطاع الطرق في محيطهم المجتمعي وما تلاه من مناطق وقد نجحوا في السيطرة على كامل ولاية قندهار ونشر الأمن فيها وتطبيق الأحكام الشرعية. لاحقاً، بدأت تصل الوفود من المناطق والولايات المجاورة طالبةً المدد من طالبان لتخليصهم كما قندهار. ومع كل تقدم ميداني، يلتحق قادة ومقاتلون جدد من الأحزاب الأخرى. وبعد دخول طالبان للعديد من الولايات صلحاً، وانضمام قادة كبار لها، طالبت جميع الأحزاب والشخصيات الموجودة في الحكم والمعارضة بإيقاف الاقتتال والوصول لحل بينهم، وطالبوا الحكومة بإخراج الشيوعيين من هياكل الدولة وتطبيق الشريعة الإسلامية ومحاربة الفساد الأخلاقي. لم تفلح كل المحاولات، واستمر الزحف الطالباني نحو قلب العاصمة[58]. وبحسب الصحفي والمراسل الميداني أنطونيو دايفز Anthony Davisفإن أعداد طالبان تضاعفت بمعدل كبير جداً خلال أول سنتين من انطلاقتها. فالبداية كانت بقوة تقل عن مئة مقاتل، ثم قفز العدد أثناء مسيرها والتحاق أعضاء جدد بها إلى بضعة آلاف، لتصل إلى ما لا يقل عن 30000 – 35000 مقاتل مع نهاية 1996م[59]. وقد استطاعت طالبان بين سبتمبري 1994م و1996م أن تزيل كافة العصابات الإجرامية، وتقضي على ظاهرة أمراء الحرب، وتهزم قوات الحكومة والمعارضة معاً، وتعيد الأمن والنظام الاجتماعي في غالب أفغانستان، وتدخل العاصمة كابول في 27 سبتمبر 1996م بعد انسحاب حكومة الإسلاميين وقواتها منها[60]. وفي واحدة من أوائل أفعالها قامت طالبان بإعدام وتعليق الرئيس الشيوعي السابق نجيب الله (وهو من عرقية البشتون) في مكانٍ عام، وكذا فعلت بأخيه شهبور مدير جهازه الأمني بعد إخراجهما عنوةً من مجمع الأمم المتحدة الذي لجأ فيه منذ 1992م. الأمر الذي أحجمت بسببه حكومة رباني الإسلامية عن اعتقالهما، قبل أن تظهر طالبان وتحسم أمرهما[61]. سؤال فوري يطرق الأذهان هنا. كيف لحركة وليدة بلا أي خبرة سياسية أن تهزم جميع الفصائل والقوى الأخرى الأقدم عملاً والأكثر خبرةً وعدداً؟ والغريب أيضاً، كيف نجح هذا الحراك الشعبي الداخلي في استعادة الأمن الاجتماعي الغائب منذ فترة كبيرة في منطقة ملتهبة وفي ظل انقسامات عرقية وسياسية حادة وبمدة وجيزة وعلى رقعة جغرافية وعرة وكبيرة؟ وكيف نجحت (تقربياً) في توحيد أفغانستان؟
3- العوامل المرجحة وديناميكيات الحشد عند طالبان
تحدث الكثيرون عن العوامل الخارجية والدعم الباكستاني والسعودي لطالبان، وركز البعض على حالة الفراغ السياسي التي أعقبت الحرب السوفيتية وسقوط الشيوعية، وأشار آخرون للاستقطاب العرقي وانتساب طالبان للعرقية الأكبر، إلا أن جميع المعطيات المذكورة لا تبدو العامل المرجّح لطالبان. فالدعم الخارجي لخصوم طالبان كان ضخماً ومن دول مجاورة كذلك كإيران والهند، إضافةً إلى روسيا، وموارد طالبان كانت أقل، ودعمها لم يكن من البداية ولم يكن مستمراً ولم يكن كافياً لترجيح كفتها على مجموع خصومها. أما فيما يخص مسألة الفراغ السياسي، وإحالة سبب صعود طالبان له فأمر لا يستقيم من جهتين. أولاً، لم يكن هناك فراغ على الحقيقة فجميع المناطق كانت محكومة بقادة محليين قادرين على تمويل أنفسهم وميليشياتهم عبر زراعة المخدرات وفرض الضرائب، وهم أنفسهم كانوا أعضاء في مجالس شورية رخوة للإقليم الذي هم فيه، وهم قادرين على إحداث بلبلة كبيرة إن تم المساس بمصالحهم كما فعلوا أثناء حرب السوفييت وكذلك بعد الاحتلال الأمريكي. ومن جهة ثانية، فإن الحزب الإسلامي بزعامة حكمتيار كان شديد المركزية ولديه (تقريباً) جميع مقومات الحكومة ولم يستطع ملئ هذا الفراغ المتوهم ولسنوات قبل ظهور طالبان وسيطرتها على جل البلاد. وفيما يتعلق بالصراع العرقي وانتساب طالبان للأغلبية فكذلك كان حكمتيار وحزبه الإسلامي، وسنعرض لتفاصيل هذه النقطة في الصفحات القادمة[62]. حقيقةً، يكمن الجواب في مزيج من العوامل الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتجسدة في دورات ابن خلدون الزمنية للتغيير الاجتماعي السياسي (صعود وانهيار الدول). فالتغيير يحصل إن شاخت الدولة بخلل في عصبيتها (الجند) أو اقتصادها (المال) وأهم أسبابه الترف والظلم. وأول علاماتها انقسامها و”قد ينتهي الانقسام إلى أكثر من دولتين وثلاثة” و”الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قل أن تستحكم فيها دولة” و”الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع”، والدولة “إذا أدركها الهرم والضعف تأخذ في التناقص من جهة الأطراف”، فإذا نجحت دعوة أو قيادة دينية في توحيد وتوجيه قبائل وعصبيات في أطراف ونواحي الدولة لم يقف لها شئ لأن “الاجتماع الديني” (كما سماه ابن خلدون) من شأنه أن يزيل التنافس والحسد ويوحد الهدف فتتضاعف “قوة عصبيتهم بالاستبصار والاستماتة”، هذا وإن لم يكونوا أصحاب العصبية الأقوى[63]، فكيف إن كانوا كذلك، كما هي حالة البشتون حكام أفغانستان خلال ثلاث قرون مضت. أضف إلى ذلك أن القيادة الدينية في حالة طالبان لم تكن مجرد شخصية أو دعوة محدودة، إنما كانت حركة اجتماعية متجذرة ومتجانسة ولها امتداداتها التاريخية والجغرافية كما مر معنا في المحور الأول من هذه الدراسة. بدايةً، شُكِّلت هذه الحركة عبر الحشد الناجح لطلاب المدارس الدينية المنتشرة في ريف أفغانستان. وكما أشرنا سابقاً، فإن سكان الريف الأفغاني يشكلون نحو ثمانين بالمائة من مجمل السكان، وهذا الريف غير مدمج بالمدن جغرافياً وثقافياً، وليس بخاضعٍ إدارياً للسلطة المركزية، واقتصاده ذاتي وغير رسمي، مما يسهل عملية الحشد وييسر استمراراها لمدة زمنية طويلة. التعبئة العامة المذكورة لم تقتصر على الملالي طلاب المدارس الدينية الديوبندية ولكنها حُفِّزت بهم وقِيدت من خلالهم. في القرية الأفغانية، يتمتع الملالي بنفوذ اجتماعي كبير عبر حضورهم اليومي الفعال في المجالات العامة. فمن إمامة المسجد الذي يعد مركز القرية، إلى التدريس في المدارس الدينية المحلية التي شهدت نمواً كبيراً خلال القرن العشرين[64]، وصولاً إلى المشاركة في المناسبات العامة كالزيجات والجنائز، ناهيك عن الاستشارات الفقهية المقدمة إلى الناس[65]. والتحشيد لم يقتصر على أفغانستان بل امتد للشبكات التعليمية الديوبندية في باكستان[66]. وهنا لابد من وقفة لرصد التماثل والأثر الكبير لتقاليد المدرسة الديوبندبة في تكوين ونشأة طالبان خاصة في جوانب الزهد في الدنيا والتوكل على الله والبنية الشبكية.
فالطالبان وقادتهم حتى بعد وصولهم للسلطة وسيطرتهم على 90% من الأرض الأفغانية وما فيها من موارد ومقدّرات، لم يغيروا نمط حياتهم البسيط الزاهد في المسكن والملبس والمأكل[67]، وروجوا لهذا النمط من الحياة والحكم المقتبس من الثقافة الدينية الديوبندية، والأعراف القبائلية البشتونية حول المساواة الاجتماعية[68]، الأمور التي جعلتهم مختلفين عن الساسة الأفغان السابقين بكل أطيافهم العرقية والفكرية. أما خلق التوكل على الله فصفةٌ تلمسها بوضوح في مختلف مراحل طالبان. فمن البداية العفوية للحركة بإمكانات بسيطة جداً وبأعداد قليلة[69]، ثم اتخاذها لقرارات وسياسات (بعد وصولها للحكم) نابعة من حسها وفهمها لواجبها الإسلامي بغض النظر عن موقف القوى العظمى والمجتمع الدولي منها، كأسلمة القوانين والمجالات العامة، ورفض احتكار الشركات الأمريكية لعقود النفط والغاز في أفغانستان، ووقف إنتاج الأفيون، وهدم أصنام بوذا، ورفض التبعية الأمنية للدول الإقليمية والقوى العظمى عبر تسليمها مطلوبين، وغيرها من المواقف[70]. وبخصوص البنية الشبكية عند طالبان، فالمكانة المركزية هي للفكرة والإنجاز وليست للأشخاص[71]. والنظام الإداري يقوم على المجالس الشورية المحلية متعددة المراكز من جهة[72]، وعلى التغيير المستمر في المناصب العليا من جهة أخرى، كي لا تنشأ نخبة مرفهة منعزلة، فاليوم قد تكون وزيراً وغداً رئيس بلدية وبعده جندياً على الجبهة وهكذا، وحتى أثناء تولي المناصب الكبيرة ينخرط المسؤول في الأعمال القتالية بجانب الأعمال المدنية بحيث لا تصبح مدة المنصب مغنماً ومطمحاً[73]. المعطيات السابقة تبين مرونة هيكلة الحركة وطريقة عملها وتفسر قلة تأثرها بغياب أي شخصية مهما كانت رمزيتها وأهميتها، فحتى المؤسس الملا محمد عمر يُوصف بأنه “الأول ضمن متساويين كثر” ولذا بقيت طالبان عصيّة على الاستئصال رغم كثرة وتنوع المحاولات، ولم تجدي معها استراتيجية قطع الرؤوس المتبعة في سياسات مكافحة التمرد الأمريكية[74]. العنصر الآخر شديد الأهمية في البنية الاجتماعية للريف الأفغاني وطالبان على حدٍ سواء هو القبيلة والقانون القبلي. وبالرغم من أن روابط الدم والرحم تشكل أساساً للتضامن الاجتماعي داخل كل قبيلة، والقانون القبلي (بشتون والي) يشكل إطاراً مرجعياً عاماً محدداً لقواعد الأخلاق والسلوك داخل كل قبيلة وبين القبائل بعضها البعض. إلا أن القبائل عادةً ما تكون مفرقة ويقتصر همها على المصالح الذاتية[75]، إلى أن تظهر قيادة دينية كاريزمية توحدهم لهدف أكبر. وهذا ما وقع بالضبط مع مؤسس طالبان الملا محمد عمر، وهي المرة الأولى في تاريخ دولة أفغانستان التي يقرر فيها الزعيم الديني أن يصبح الحاكم السياسي[76]. وقد رصد الكاتب الباكستاني المولوي حفيظ الله حقاني هذا التغير في دور العلماء أو الحركات الدينية العلمية في أفغانستان في ثنايا كتابه “طالبان من حلم الملا إلى إمارة المؤمنين”، فمنذ تأسيس دولة أفغانستان عام 1747م، كان العلماء يثورون عندما يرون خللاً في النظام الحاكم، ثم يسلمون السلطة لغيرهم[77]، الأمر الذي تغير في نموذج طالبان.
4- خصائص حركة طالبان
ولكن لماذا نجحت طالبان وفشلت غيرها من القوى والأحزاب السياسية؟ لا شك أن لعصبية البشتون دورٌ كبير فهم العرقية الأكبر وأصحاب الشرعية التاريخية في حكم أفغانستان. ووصول رباني ومسعود وهما من الطاجيك لسدة الحكم استثار البشتون. ولكن كما أنه لم ينجح البشتون الشيوعيون وحكومتهم المدعومة سوفيتياً في حشد البشتون (قبل طالبان)، ولم يفلح كرزاي البشتوني وحكومته المدعومة أمريكياً (بعد سقوط حكم طالبان مطلع الألفية الحالية). فكذلك عجز حكمتيار البشتوني الإسلامي في حشد البشتون قبل وأثناء وبعد ظهور طالبان[78]، فإن كانت مسألة الهوية الدينية للشعب تفسر الحالتين الأولتين، فإن الحالة الثالثة بحاجة لمقاربة أخرى مركبة تجمع بين الأنماط الدينية المختلفة والمؤثرات الاجتماعية والمكانية المتعددة. هنا، لعله من الأهمية بمكان المقارنة بين العوالم والخلفيات المختلفة التي نبتت منها طالبان وباقي الحركات الإسلامية المعاصرة في أفغانستان وغيرها. فالطالبان رجال قبائل مركزهم وجذروهم وقلب حركتهم في المناطق الريفية القبلية المستقلة بإدارتها وبتعليمها الديني المعياري المتجانس وباقتصادها غير الرسمي. أما الحركات الإسلامية الأفغانية الأخرى (ومنها حزب حكمتيار) فخزانها البشري هم خريجو الجامعات العصرية وموظفو المؤسسات الحكومية ومركزها العواصم والمدن الكبيرة[79]. الأمور التي توضح لنا ديناميكيات الحشد المختلفة عند الطرفين، وتكشف لنا عن أحد أهم أسباب صعود طالبان دون غيرها في نظر الباحث. ففي المدن تذوب العصبيات وتتدهور الأخلاق ويزيد الترف وينكسر بأس الناس بالأحكام القاهرة[80]. أما في الضواحي والبوادي فيحتفظ الناس بعصبيتهم وشجاعتهم ويقتصرون على الضروريات ويكون فسادهم أقل بكثير من أهل المدن كما ذكر ابن خلدون في عدة مواطن من مقدمته[81]. وفي هذا الشأن، ولملامسة الواقع المعاصر للمدن وأثرها بشكل أكثر تفصيلاً، يحسن الاقتباس من أقوال بعض الفلاسفة المسلمين المعاصرين كرئيس البوسنة الأسبق علي عزت بيجوفيتش وكعبد الوهاب المسيري المفكر المصري الشهير. يقول علي عزت بيجوفيتش في كتابه الشهير (الإسلام بين الشرق والغرب): “وتقل نسبة التدين تبعاً لحجم المدينة ويرجع هذا إلى تركيز العوامل الحضارية التي تساعد على عزلة الإنسان” والمقصود بالعزلة هنا العزلة عن الطبيعة وتجلياتها الروحانية والجمالية المختلفة، ويضيف أيضاً “بالنسبة لحجم المدينة هناك علاقة عكسية بالتدين وعلاقة طردية بالجريمة”[82]. الشيء بالشيء يذكر، فإن المرة الأولى لدخول كُثر من طالبان للعاصمة كابول كانت عند سيطرتهم عليها في عام 1996م بحسب رواية الملا عبد السلام ضعيف أحد أهم مؤسسي وقادة الحركة[83]! وقد ذكر الصحفي المصري فهمي هويدي إبان زيارته لأفغانستان أثناء حكم طالبان أن قادة الحركة انتقلوا من مقاعد الدراسة (الدينية) في القرية إلى ميادين الجهاد ثم إلى السلطة السياسية دون أي مراحل انتقالية مدنية، هذا هو التسلسل الزمني والمكاني الذي مر به جل قادة الحركة والباقي استثناء[84]. من زاوية أخرى، يشير المفكر الإسلامي الشهير عبد الوهاب المسيري لمعنى هام جداً عند حديثه عن الفرق بين المجتمعات التقليدية الريفية والمجتمعات الحديثة. المجتمع التقليدي الريفي مجتمع تراحمي متماسك وتسود فيه الروح الجماعية وشبكات العلاقات متعددة فيه وتأخذ صوراً وصيغاً متنوعة استناداً إلى القيم الدينية أو العرف أو العادات أو الروابط القبلية، أما المجتمع الحديث فيوصف بالمجتمع التعاقدي الذي تغلب عليه النزعات الفردية، وتتمحور العلاقات فيه حول العقود القانونية[85]. إذن، فبقاء شبكات ونوعيات العلاقات المتينة والمتشعبة التي تربط وتشبِّك بين أعضاء حركة ريفية كطالبان وبين محيطها الاجتماعي القبلي البعيد عن مراكز الدولة والخارج عن هيمنتها والمحتفظ بعصبيته وبأسه وتوحشه (بالتعبير الخلدوني) هي من تفسر المستويات المتعددة والمتجددة من الإمدادات البشرية واللوجستية والمعنوية التي تصل لحركة طالبان، وترشدنا بشكل أوضح لأحد أهم الأسباب الذاتية لنجاة ونهوض طالبان في خضم التحديات والضغوطات الكبيرة التي واجهتها على الصعيدين الداخلي والخارجي. فإن توفرت لأصحاب العصبية القبلية الصبغة الدينية الحقّة ذهبت أسباب التنافس والنزاع وطلب الدنيا ووحدت الوجهة، وبذلك يستطيعون هزيمة جيوش الدول أو الأطراف التي يستهدفونها وإن كانت أضعافهم في العدد وأشد توحشاً منهم، وقد ذكر ابن خلدون نماذج متعددة من حقب تاريخية مختلفة لهذه الظاهرة[86]. وبالنظر إلى عصرنا الحالي، فيمكن أن نزيد ومهما كانت الفجوة التكنولوجية هائلة بين الطرفين.
خاتمة
في الختام، حاولت هذه الدراسة أن تعيد قراءة ظاهرة طالبان في ضوء نظريات ابن خلدون للتغيير الاجتماعي السياسي. فللدول أعمار كما للأشخاص، إلا أنها راسخة لا تُزال من الداخل إلا بقوة القبائل والعشائر التي لا تجتمع أهواءها (في الأعم الأغلب) إلا بالدعوة والقيادة الدينية الصادقة، حينها تتضاعف قوتهم بالاستبصار والاستماتة. فإذا هَرِمت الدولة بخلل في عصبيتها (الجند) أو نظامها المالي، نتيجة للترف والظلم فهي فانية لا محالة. وسترثها القوى والهياكل الاجتماعية الأكثر عصبيةً (الحشد المتماسك) وتوحشاً (خشونةً وعسكرةً) وحريةً (الأقل خضوعاً للأحكام) وذلك لا يتوفر إلا في الأماكن النائية البعيدة عن المدن. ومع الانهيار السياسي للدولة الأفغانية الحديثة مطلع التسعينات، نجحت حركة طالبان في حشد وتفعيل أقوى الهياكل الدينية والاجتماعية، وهي الحركة الدينية الديوبندية والقبائل البشتونية. الهيكل الاجتماعي الأول الذي ولدت منه واعتمدت عليه طالبان كان الحركة العلمية الديوبندية السائدة في جنوب آسيا. والمتصفة بسبع خصال مميزة، بدءاً من: كراهية الاستعمار واعتزال ثقافته والقابلية المستمرة لجهاده، ثم الاستقلال عن دول ما بعد الاستعمار معرفياً ومالياً وإدارياً، وتفعيل دور المجتمع في بناء وحفظ مؤسساته التعليمية والمعرفية المستقلة، والمعيارية في البناء المعرفي لمنع التشظى والسيولة الفكرية لدى منتسبيها، وإعادة تموضع العلماء كقادة وحراس لقيم المجتمع في وجه السلطات، ونمط التعليم القديم القائم على الزهد والروابط الروحية المتينة بين شبكات الأساتذة والطلاب، وأخيراً وليس آخراً، البنية الشبكية والإدارة اللامركزية للكم الهائل من المدارس الديوبندية المنتشرة حول العالم (حوالي مائتي ألف مدرسة). الهيكل الثاني في تكوين طالبان الاجتماعي هو القبائل والعرقية البشتوينة الممتدة بين أفغانستان وباكستان. البشتون هم العرقية الأكبر وحكام أفغانستان التاريخيين، وثاني أكبر عرقية بباكستان، ولهم حضور مؤثر هناك. ويتمتع البشتون بعدة أمور: الانتماء العرقي العميق المتمحور حول قانون قبلي موحد (بشتون والي) شبيه بالأعراف العربية قبل البعثة النبوية وقبل الحداثة (حسن الضيافة= الثأر= الإيواء- النجدة…)، المساواة المجتمعية وغياب الهيكلية الهرمية داخل القبائل البشتوينة، وحرية الأفراد والعوائل فلا سلطة دائمة مسيطرة على تفاصيل حياتهم، والجغرافية القاسية العازلة عن ترف المدن ومؤثرات الحداثة، والمساعدة في منع هيمنة الدولة على حياة القبائل. أضف إلى ذلك عداء القبائل البشتونية للدولة الحديثة واعتبارها كيان معادي للإسلام، وأخيراً الاكتفاء الذاتي والاستغناء عن خدمات الدولة ومؤسساتها. باختصار، فإن ظهور طالبان يمكن قراءته كصعود للهياكل الدينية والاجتماعية التقليدية بخصائصها وملامحها المذكورة، وتراجع دولة ما بعد الاستعمار، وقيمها، والأحزاب والكيانات التي نشأت في ظلالها في أفغانستان. هذا على الرغم من الجهود الكثيفة السوفيتية ثم الأمريكية في ترسخيها. وبالنظر إلى محيطنا العربي، وخاصة البلاد التي شهدت ثورات مسلحة وانهيار اقتصادي وتفكك سياسي للأنظمة الحاكمة. إضافةً إلى التغيرات الاجتماعية والديمغرافية الهائلة. وبغض النظر عن احتمالات تكرر نموذج طالبان في المدى القريب أو المتوسط. بيد أن قراءة تجربة طالبان وتفاصيلها الغنية بعدسة خلدونية أمر جدير بتجلية الكثير من عوامل ومعالم التغيير الاجتماعي والسياسي. هذا، رغم عمق وحجم التدخلات العالمية، فهي ليست أبدية زماناً ولا ثابتة اتجاهاً، وتبقى العوامل الداخلية هي الأصل والرصيد في أي تغيير منشود حينما تحين الفرصة السياسية المواتية.
[1] وكالة الأناضول، نص اتفاق السلام بين الولايات المتحدة وطالبان (وثيقة)، 29 فبراير 2020م.
[2] NBC NEWS, “U.S. has persuasive intel Taliban do not intend to abide by terms of peace deal, officials say” ,Courtney Kube, Ken Dilanian and Dan De Luce. March 7 2020.
[3] The Taliban and the crisis of Afghanistan, ed. Robert D. Crews and Amin Tarzi (Cambridge: Harvard University Press, 2008). 8-9-52.
[4] عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، مقدمة إبن خلدون، الجزء الثاني، تحقيق: د.علي عبد الواحد وافي، (القاهرة: نهضة مصر للطباعة والنشر، يناير 2004م)، 519-521، 522.
[5] نفس المصدر، 521..
[6] نفسه، 515-517.
[7] نفسه، 467-497.
[8] عبد السلام ضعيف، حياتي مع طالبان، ط1، (بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2014م).-69-70، 84-85، 91.
[9] Oliver Roy, Islamic radicalization in Afghanistan and Pakistan, (Paris: UNHCR emergency and security service, 2002), pp. 9.
[10] أبو الحسن علي الحسني الندوي، المسلمون في الهند، ط1، (دمشق- بيروت: دار ابن كثير، 1999م)، 179.
[11] محمد قاسم النانوتوي: عالم دين كبير ولد عام 1248هـ بنانوتا بالهند، واشتهر بالعلم والزهد والعبادة والمناظرة، وبمشاركته في ثورة 1857م ضد الاحتلال البريطاني، ثم بتأسيسه دارالعلوم ديوبند. للمزيد: أبو الحسن علي الحسني الندوي، أضواء على الحركات والدعوات الدينية والإصلاحية ومدارسها الفكرية ومراكزها التعليمية والتربوية بالهند، (لكناؤ: المطبعة الندوية، 1995م)، 26.
[12] أبو الحسن علي الحسني الندوي، الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية، ط 2، (دار الندوة للتوزيع:لبنان،1968)، 75-76.
[13] Silken letters movement, complied by Maulana Muhamed Miyan, (District Saharanpur: shaikul al Hind Academy- Dar uloom Deoband: 2012). 3-5.
[14] سيد المحبوب الرضوي الديوبندي، ترجمة وتعليق: محمد عارف جميل القاسمي المباركفوري، نشأة الجامعة الإسلامية: دارالعلوم ديوبند مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند، السنة 37، العدد 9-10، يوليو- سبتمبر 2013م.
[15] Dietrich Reetz. The Deoband universe: what makes a transcultural and transnational educational movement of Islam, Comparative Studies of South Asia, Africa and the Middle East, Volume 27, Number 1, 2007. 143.
[16] Wilfred Cantwell smith, Modern Islam in India, (London: Victor Gollancz, 1946), 295.
[17] Brannon D. Ingram, Revival from below: the Deoband movement and global Islam. (California: university of California press: 2018), 4.
[18] Dietrich Reetz. The Deoband universe: what makes a transcultural and transnational educational movement of Islam. 153.
[19] الموقع الرسمي للجامعة الإسلامية دار العلوم ديوبندالهند.
[20] Barbara D. Metcalf, Islamic revival in British India, Deoband 1860-1900, Princeton legacy library, new jersey, 1982. 138-145, 196-197.
[21] Brannon D. Ingram, Revival from below: the Deoband movement and global Islam. (California: university of California press: 2018. 40،55.
[22] Ibid, 50.
[23] Ali Riaz, Faithful education: Madrassas in south Asia. (New Brunswick, new jersey, London: Rutgers university press, 2008), 79-80.
[24] Oliver, Roy. Islamic radicalization in Afghanistan and Pakistan”. UNHCR emergency and security service. Paris, 2002. 9.
[25] Dietrich Reetz. The Deoband universe: what makes a transcultural and transnational educational movement of Islam. 158.
[26] Ali Riaz, Faithful education: Madrassas in south Asia. 80.
[27] نسبة لنظام الدين السهالوي المتوفى 1161هـ أحد أكبر علماء الهند، للمزيد: أبو الحسن علي الحسن الندوي، المسلمون في الهند. الطبعة الأولى، (دار ابن كثير: دمشق، 1999م)، 125، 129=131، انظر أيضاً:
Dietrich Reetz. The Deoband universe, 112-113.
[28] أبو الحسن علي الحسني الندوي، أضواء على الحركات والدعوات الدينية والإصلاحية ومدارسها الفكرية ومراكزها التربوية في الهند، الطبعة الندوية، (مطبوعات المجمع الإسلامي العلمي: لكناؤ-الهند: 1995م). ص24-25.
[29] Barbara D. Metcalf. “Traditionalist” Islamic activism: Deoband, Tablighis, and Talibs. (Netherlands: Leiden Isim: 2002), 5-6.
[30] Brannon D. Ingram, Revival from below: the Deoband movement and global Islam. (California: university of California press: 2018), 20-120-123-124-147.
Barbara D. Metcalf. “Traditionalist” Islamic activism: Deoband, Tablighis, and Talibs. (Netherlands: Leiden Isim: 2002), 5.
[31] ينتمي الشيخ أبو الحسن الندوي لندوة العلماء في الهند، وقد ترأسها لفترة، وهو تيار علمي تربوي يدعوا للجمع بين محاسن الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية، وكان لها إسهام كبير في الفكر الإسلامي المعاصر.
[32] أبو الحسن علي الحسني الندوي، الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية، 74-77. أبو الحسن علي الحسني الندوي، أضواء على الحركات والدعوات الدينية والإصلاحية ومدارسها الفكرية ومراكزها التربوية في الهند، 24. محمد واضح رشيد الحسني الندوي، منهج علماء الهند في الدعوة والتربية الإسلامية، الطبعة الثالثة، (المدينة المنورة، مكتبة الكوثر، 2004م)، 92.
[33] مقدمة ابن خلدون، 521-522.
[34] الجزيرة نت، من هم البشتون، 16 مايو 2011.
[35] Rohullah, Rahimi. “Afghanistan: exploring the dynamics of socio- political strife and the persistence of the insurgency,” Pearson peace keeping center. Canada. 2008. 6.
[36] Vern Liebl, “Pushtons, Tribalism, Leadership, Islam and Taliban: A Short View,” Small Wars and Insurgencies 18, no. 3 (September 2007): 492-510.
[37]Rohullah, Rahimi. “Afghanistan: exploring the dynamics of socio-political strife and the persistence of the insurgency,” Pearson peace keeping center. Canada. 2008. 14.
[38] Ibid, 7-18-19.
[39] Ibid.
[40] عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، مقدمة إبن خلدون، تحقيق: د.علي عبد الواحد وافي، (القاهرة: نهضة مصر للطباعة والنشر، يناير 2004م)،477.
[41] نفسه، 467-497.
[42] نفسه، 477.
[43] عبد السلام ضعيف، حياتي مع طالبان، ط1، (بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2014م).-69-70.
[44] نفسه، 20-21-91.
[45] Oliver, Roy. Islamic radicalization in Afghanistan and Pakistan”. UNHCR emergency and security service. Paris, 2002. 14.
[46] مجلة الصمود الإلكترونية، السيرة الذاتية للمغفور له الملا محمد عمر، 6 أبريل 2015م.
[47] نفسه.
[48] Muhammad Rizwan- Manzoor Ahmed- saima gul. Ideology and politics of Jamiat Ulema-i-Islam (1947-1973). Global Social Sciences Review (GSSR), Vol. III, No. I (Winter 2018).
[49] Fida Ur Rahman, Democratic transitions in the muslim world, (Malaysia:IAIS intenational institute of advanced Islamic studies: 2018). Chapter 11, 212-214. Ali Riaz, Faithful education: Madrassas in south Asia. (New Brunswick, new jersey, London: Rutgers university press, 2008). 31. Sami al-Haq, Afghan Taliban: War of Ideology, Struggle for Peace (Islamabad: Emel Publications, 2015), xvii.
مولوي حفيظ الله الحقاني، طالبان من حلم الملا إلى إمارة المؤمنين، (إسلام أباد: معهد الدراسات السياسية، 1997م)، 65-66
[50] Oliver, Roy. Islamic radicalization in Afghanistan and Pakistan”. UNHCR emergency and security service. Paris, 2002. 6.
[51] Umer, Rahman. “political economy of the Taliban”. Honors college research collection. 1. 2010. 31-38.
للمزيد: أحمد موفق زيدان، الصديقان القديمان يربكان المحاور الإقليمية.. تحالف حكمتيار ومسعود، الحياة، 29 أبريل 1996 م.
[52] يوسف العييري، الميزان لحركة طالبان ، نسخة إلكترونية، مقابلة مع الملا عمر، ص49.
[53] “political economy of the Taliban”. 31-38.
للمزيد: أحمد موفق زيدان، الصديقان القديمان يربكان المحاور الإقليمية.. تحالف حكمتيار ومسعود، الحياة، 29 أبريل 1996 م.
[54] عبد السلام ضعيف، حياتي مع طالبان، ط1، (بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2014م)، 134.
[55] نفس المصدر، 147-148.
[56] Michael, Semple. Rhetoric ideology and organizational structure of the Taliban movement. United states institute of peace. Washington DC. 21
[57] عبد السلام ضعيف، حياتي مع طالبان. 145.
[58] يوسف العييري، الميزان لحركة طالبان، 19-21.
[59] Anthony Davis, “How the Taliban Became a Military Force,” in Fundamentalism Reborn? Afghanistan and the Taliban, ed.William Maley (Lahore: Vanguard, 1998), 69.
[60] Abdulkader Sinno, “Explaining the Taliban’s ability to mobilize the Pashtuns” in The Taliban and the crisis of Afghanistan, ed. Robert D. Crews and Amin Tarzi (Cambridge: Harvard University Press, 2008). 60-66.
[61] The New York times, “Guerillas Take Afghan capital as troops flee”. Sep 28 1996.
[62] Abdulkader Sinno, “Explaining the Taliban’s ability to mobilize the Pashtuns, 70-74.
[63] عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، مقدمة إبن خلدون، تحقيق: د.علي عبد الواحد وافي، (القاهرة: نهضة مصر للطباعة والنشر، يناير 2004م(، 520،525 706-712
[64] Oliver, Roy. Islamic radicalization in Afghanistan and Pakistan”. UNHCR emergency and security service. Paris, 2002. 9.
[65] Umer, Rahman. “political economy of the Taliban”. 19.
[66] Ibid, 12.
[67] فهمي هويدي، جند الله في المعركة الغلط، ط 2، )القاهرة: دار الشروق)، 58.
[68] Michael, Semple. Rhetoric ideology and organizational structure of the Taliban movement. United states institute of peace. Washington DC. dec. 2014. 12.
[69] يوسف العييري، الميزان لحركة طالبان ، نسخة إلكترونية، مقابلة مع الملا عمر، 26-27.
[70] عبد السلام ضعيف، حياتي مع طالبان. -191، 225-226-233-234، 240-246.
[71] يوسف العييري، الميزان لحركة طالبان، مقابة مع المولوي أحمد جان المسؤول الإعلامي لمكتب الملا محمد عمر، 47.
[72] Abdulkader Sinno, “Explaining the Taliban’s ability to mobilize the Pashtuns, 79-87.
[73] Michael, Semple. Rhetoric ideology and organizational structure of the Taliban movement, 11-12.
[74] Abdulkader Sinno, “Explaining the Taliban’s ability to mobilize the Pashtuns, 89.
[75] “Afghanistan: exploring the dynamics of socio- political strife and the persistence of the insurgency”, 15.
[76] Oliver, Roy. “Islamic radicalism in Afghanistan and Pakistan”, UNHCR emergency and security service. Paris. Jan 2002. 18.
[77] مولوي حفيظ الله الحقاني، طالبان من حلم الملا إلى إمارة المؤمنين، (إسلام أباد: معهد الدراسات السياسية، 1997م)، 37-45.
[78] Abdulkader Sinno, “Explaining the Taliban’s ability to mobilize the Pashtuns, 69-73.
[79] Ibid, 75-76.
[80] عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، مقدمة إبن خلدون، 473، 477، 497.
[81] نفس المصدر، 473، 476، 480.
[82] علي عزت بيجوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب، الطبعة الأولى، ترجمة محمد يوسف عدس، (بيروت: مؤسسة العلم الحديث، 1994م)، 110-111.
[83] عبد السلام ضعيف، حياتي مع طالبان، 167.
[84] فهمي هويدي، جند الله في المعركة الغلط، 64.
[85] حوارات مع د. عبد الوهاب المسيري، 1 (الثقافة والمنهج)، تحرير سوزان حرفي، (دمشق: دارالفكر، 2009م)، 21-24.
[86] مقدمة إبن خلدون، 519-520.
المصدر: مركز المجدد للبحوث والدراسات