الإمام محمد محمود – اسلام أون لاين.
في أحد الإحتفالات السنوية التي تقيمها الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا بمناسبة تأسيسها، حضرت محاضرة للمفكر الكبير ورئيس الجامعة الإسلامية سابقا ومؤسسها عبد الحميد أبو سليمان، أحد رواد فكرة أسلمة المعرفة وله مؤلفات في هذا الموضوع منها كتابه أسلمة المعرفة: “الخطة والإنجازات”، وهو صاحب فكرة دمج كلية معارف الوحي بكلية العلوم الإنسانية وجعلها كلية واحدة.
في ختام محاضرته أثار الرجل تساؤلا مهما يدعو إلى التأمل والتفكير حيث ذكر أن الدخل القومي لليابان يعادل إحدى عشر مرة الدخل القومي لكل دول العالم الإسلامي مجتمعة.
كان التساؤل مثيرا ومحيرا كيف لدولة مثل اليابان لا تمتلك أي موارد طبيعية أن تكون قوة اقتصادية عالمية، ومركز من مراكز الثروة في العالم بحيث يقف العالم مندهشا أمام إنجازاتها في ميدان العلم والتكنولوجيا والصناعة ؟ إنها صناعة الإنسان تلك الميزة التى اعتمدتها الدول الآسيوية في طريقها إلى بناء قوتها وتنمية مجتمعها والخروج إلى آفاق الإنتاج والإبداع رغم إنعدام الموارد وشحها.
سينغافورة إحدى دول جنوب شرق آسيا التى حققت إزدهارا اقتصاديا هائلا، كان أساسه وركيزته العنصر البشري بناءا و تكوينا، مع زرع قيم العمل والتميز والإبداع . فهذه الدولة التى لا تمتلك أي موارد طبيعية ، وبمساحة لا تتجاوز 710 كلم حققت نجاحا منقطع النظير و أصبحت إحدى مراكز المال والأعمال في العالم، فمن سنة 1959 وصول الأب الروحي لسينغافورة ومهندس إستقلالها المحامي “لي كوان يو” إلى سنة إستقالته 1990 ارتفع دخل الفرد القومي من 400 دولار إلى 22000 ألف دولار ، ثم واصل ارتفاعه إلى حدود 38000 دولار سنة 2015. في نفس السنة 2015 وصل قيمة الإحتياط النقدي 341 مليار الدولار ، فيما وصلت قيمة الصادرات 351 مليار دولار.
كيف لدولة مثل سنغافورة تستورد الماء الشروب من ماليزيا في اتفاقيات 1961 ، 1962 ، 1990 الشهيرة ، كيف لها أن تكون بتلك القوة الإقتصادية والمكانة المالية؟ كيف لتلك الدولة التي لا تتعدى مساحتها 710 كلم مربع أن تتحول إلى مارد اقتصادي يحقق مراكز متقدمة في مؤشرات التنمية في العالم، نسبة البطالة 2%، المرتبة الخامسة في مجال كفاءة الإدارة، المرتبة الثالثة في جودة التعليم الأساسي، المرتبة الأولى في كفاءة التعليم العالي والتكوين المهني.
تقول الحكاية إنه في أواخر القرن التاسع عشر وصلت مجموعة من العائلات الصينية الثرية الهاربة من جحيم الشيوعية إلي جزيرة “بولو أوجونغ” في الجنوب الماليزي والتي ستعرف لاحقا بسنغافورة. استطاعت هذه العائلات أن تقيم علاقة متميزة مع البريطانيين الذين كانوا يسيطرون على المنطقة في تلك الحقبة. نفس العائلات الصينية هي التي أنجبت الأسطورة أو ما يعرف بالأب الروحي لسنغافورة ومهندس استقلالها المحامي خريج جامعة كامبريدج “لي كوان يو” الذي وصل إلى الحكم سنة 1959.
ركزت التجربة السنغافورية على تكوين العقل البشري كأساس للتنمية، حيث أنفقت الدولة مليارات الدولارات من أجل تطوير نظامها التعليمي ودعم البحث العلمي. “يحكي رئيس الوزراء السابق ورائد نهضتها قبل 25 سنة قابلت العالم البيولوجي سيدني برمير وتحدث إلي أن تبني هذا العلم قد يساعد سنغافورة على التطور والتقدم إذا كانت هناك إرادة صادقة لذلك، لاحقا تم تدشين المعهد العلمي للبيولوجيا وتم استقدام خبراء من مختلف دول العالم، وقد أصبحت لنا صناعة متطورة في مجال العقاقير”
عملت سنغافورة على جذب المهارات والكفاءات الأجنبية من خلال تقديم امتيازات كبيرة لهم وذلك من أجل الاستفادة من خبراتهم. من الجوانب المهمة في التصنيع ركزت سنغافورة على صناعة الإلكترونيات بكافة أشكالها، عملت على استقطاب شركات عالمية ذات صيت كبير في مجال صناعة الإلكترونيات، حيث منحتهم إعفاءات ضريبية مغرية وساعدت هذه الشركات في تطوير خبرة اليد العاملة الوطنية.
من خلال سياسة استقطاب الشركات الأجنبية استطاعت سنغافورة أن تجد لنفسها موطئ قدم في الأسواق العالمية جنبا إلى جنب مع دول عريقة في مجال الصناعات الإلكترونية مثل اليابان، كوريا. تصل نسبة الأمية في سنغافورة إلى 9% وهي أقل نسبة مقارنة مع نظيراتها من الدول الآسيوية، الإنفاق على التعليم سنة 2007 وصل 7.5 بليون دولار، وفي سنة 2012 ارتفع هذا الإنفاق ليصل إلى 10.5 بليون دولار وهو ما يعادل 20% من الإنفاق الحكومي.
النظام التعليمي في سنغافورة من أقوى أنظمة التعليم حول العالم، وأكثرها كفاءة وتميزا، وحجم الإنفاق الحكومي على التعليم يعكس ذلك، توجد اليوم في سنغافورة ست جامعات من أرقى جامعات العالم تتبع لها مراكز بحث متقدمة توظف الآلاف من الخبراء والباحثين، جامعة سينغافورة الوطنية و جامعة Nanyang Technological University صنفتا ضمن أفضل 13 جامعة في العالم لعام 2016 حسب QS World University Ranking وتستقطب كل واحدة من هاتين الجامعتين 30 ألف طالب ضمن مختلف التخصصات.
إن تجربة سينغافورة في التنمية و الإزدهار تقدم لنا الكثير من الدلائل والقرائن بأن حجم الدولة أو حجم ثروتها ليس معيارا هاما للتقدم والتطور. ركزت سينغافورة تلك الدولة الصغيرة في حجمها الكبيرة بتجربتها وانجازاتها على بناء العنصر البشري الذي هو أساس التنمية ووقودها و نواتها الصلبة فحققت من التنمية والإزدهار ما عجزت عنه الدول الكبيرة ذات الثروات الضخمة. إن وفرة الموارد الطبيعية مع قلة الخبرة البشرية وغياب سياسات بناء الإنسان وتكوينه وتأهيله يجعل التنمية تمشي بشكل مختل وربما تتوقف، العامل البشري هو أهم ركيزة في بناء النهضة ولا يتم ذلك إلا بخلق نظام تعليمي قوي وبرامج تكوين وتأهيل للعنصر البشري .