تجديد الفقه في مجال الاجتهاد
بقلم أيمن صالح
قيام العلماء بفرض الكفاية بالاجتهاد وإعادة الاجتهاد هو الذي يضمن للفقه حيويته وجِدّته ومواكبته للعصر، وذلك أنّ الفقه في معظمه ليس شيئًا غير الحصيلة التراكميّة التي وصلتنا من اجتهادات الأجيال السّابقة، والاجتهاد بطبيعته وثيق الصّلة بالبيئة والعرف والمصالح والمفاسد والموازنة بينها في إطار الزمان والمكان الذي حصل فيه؛ وهذا يعني أنّ اجتهادات علماء كلِّ عصر تحمل في طيّاتها قدرًا من «الحمولة التاريخيّة» المرتهنة بالعصر الذي مُورست فيه تلك الاجتهادات، بحيث لا يصلح لأهل العصور اللاحقة أن يتبنّوها إلا بعد تنقيحها وفرز ما كان تاريخيًّا فيها، وتمييزه عمّا هو مطلق صالحٍ للحمل والنّقل في كلّ العصور، أو على الأقل، صالح للحمل والنّقل خلال أكثر من عصر.
وهذه «الحمولة التاريخيّة» كانت تمثِّل قدرًا ضئيلًا في اجتهادات الأجيال السّابقة، منذ عصر الصحابة، رضوان الله عليهم، إلى ما قبل عصرنا الحديث (منذ أواسط القرن الثالث عشر الهجري حتى الآن). ولذلك كان الاجتهاد المذهبي، الذي تشكّل ثمّ استمر بمرور الأجيال بعد انقطاع الاجتهاد المستقلّ، كفيلًا بمعالجة الحمولات التاريخيّة وفرزها، أي أنّه كان قادرًا على تجديد الفقه المذهبي بالتنقيح والتخريج والتصحيح والترجيح، وجعلِه ملائمًا لكلّ عصر، وافيًا بحاجات النّاس فيه، وقائمًا بمصالحهم.
وأمّا في العصر الحديث فقد اختلف الحال، وحصل ما يشبه الانفجار في التغيّرات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة على الصعيدين المحلّي والدّولي، الأمر الذي جعل «الحمولة التاريخيّة» في الفقه الموروث تكبر أضعافًا مضاعفة بالنّسبة إلى عصرنا، مقارنة بما كانت عليه بين كلِّ عصرٍ وعصرٍ من العصور السّابقة. ومن هنا كان هذا العصر، وما سيعقبه من العصور، أحوجَ العصور إلى الاجتهاد والقيام به، للحفاظ على حيويّة الفقه وموائمته للواقع، وقدرته على الوفاء بحاجاته في مجال التشريع.
وتظهر هذه الحاجة من جهتين:
إحداهما: إعادة الاجتهاد في المسائل القديمة لتصفيتها وتمييز ما هو تاريخي فيها عمّا هو مطلق. ومن أجلى الأمثلة على ذلك الفقه السّياسي في الإسلام بشقّيه المحلّي والدّولي (فقه الجهاد والسِّيَر، وفقه السّياسة الشّرعية)، فحجم «الحمولة التاريخيّة» في هذا الفقه كبيرٌ جدًّا بالنظر إلى التغيّرات الهائلة التي طرأت على النّظام والأعراف الدّوليّة ولاسيّما بعد الحرب العالميّة الأولى والثانية ونشوء القانون الدّولي والمؤسّسات الدّوليّة اللذين باتا يحكمان العلاقات بين الدّول في السِّلم والحرب. وكذلك نشوء أنظمة الحكم الجديدة في الدّولة الحديثة التي تقوم على الفصل بين السّلطات، وتداول السّلطة، وتدخُّل الدّولة المتزايد في حياة الأفراد الاقتصاديّة والاجتماعيّة، مقارنة بالدّولة القديمة. ولذلك وجب إعادة النّظر في هذا الفقه الموروث عن الأجيال السّابقة لتنقيحه من عوالقه التاريخيّة، ثمّ البناء عليه لتأسيس فقهٍ سياسيٍّ جديد.
والجهة الأخرى: التصدّي للمستجدّات والحوادث التي لم يسبق للقدماء رأيٌ فيها، وهي كثيرة جدًّا في هذا العصر، وفي كلّ المجالات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة والطّبّيّة. وحاليًّا يظهر اهتمامٌ متزايد من متفقّهة هذا العصر بالمسائل المعاصرة والمستجدّات، فما تكاد تبرز قضيّة حتّى تتوالى فيها البحوث والدراسات والرسائل، وتُعقد لها المؤتمرات والندوات. هذا فضلًا عن نشوء بعض المؤسّسات والمراكز البحثيّة الخاصّة التي تُعنى بالاجتهاد في هذه المستجدّات.
من كتاب صناعة التفكير الفقهي، فصل صناعة التجديد الفقهي.
(المصدر: مدونة أيمن صالح)