تجديد الخطاب الدّيني: مؤامرة متجدّدة لتحريف صحيح العقيدة 6من 6
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
5- تساؤلات ختاميَّة
1.اشترك كافَّة دعاة الحداثة، على اختلاف انتماءاتهم الفكريَّة، سواء من فئة المفكِّرين الإسلاميين الدارسين في الغرب، أو من التيَّار التوفيقي المحسوب على الفكر الإسلامي، أو من الليبراليين العلمانيين، في دعوتهم إلى تحرُّر الفكر الإسلامي من الجمود والرجعيَّة، موصين جميعًا بالتركيز على العقلانيَّة والتأمُّل من خلال دمج الفلسفات الأوروبيَّة بالعقيدة الإسلاميَّة. تبيّن الدّراسة أنَّ الطعن في التعليم الديني الإسلامي، القائم على تعليم القرآن الكريم والسُّنَّة النبويَّة المطهَّرة، من وسائل إعادة تشكيل العقيدة الإسلاميَّة لتكون أقرب إلى المسيحيّة، التي اتَّفق علماء الإسلام، أمثال الدكتور عبد الجليل عبده شلبي والإمام محمَّد الغزالي والإمام عبد الحليم محمود، ومؤرخو الغرب، ومنهم شارل جينيبير، على أنَّ ما أفسد صحيح دعوتها هو دمجها بالفلسفات الإغريقيَّة القديمة، مثل الغنوصيَّة والرواقيَّة، لتقل القبَّالة اليهوديَّة. لم يغب عن الدعوة إلى دمج العقيدة الإسلاميَّة بالفلسفة من أصحاب الرأي المشار إلى مؤلَّفاتهم إلَّا الشيخان السعوديَّان عوض القرني وسفر الحوالي، المعتقلان حاليًا. والتساؤل هنا: هل المقصود هو فرض الملَّة الباطنيَّة المحسوبة على الإسلام، ألا وهي الصوفيَّة، على عموم ديار الإسلام؛ فتنحصر علاقة المسلم بربِّه على “اتِّباع الظنِّ” الناتج عن ممارسات تأمُّليَّة؟ تكوَّنت عقيدة ألفيَّة المسيح من خلال رؤيا ظنيَّة للقديس يوحنَّا اللاهوتي، كما جاء الأمر بالتبشير في رؤى ظنيَّة للرُّسُل بعد قيامة المسيح، فهل المطلوب هو الاتجاه إلى التأمُّل الروحاني، كما أوصى خالد محمَّد خالد (1950)، معتبرًا أنَّ الروحانيَّة تفتح المدارك وتمدُّ الإنسان بالمجهول وتومض إلهامًا يصنع معجزات؟ حينها، يصدق في المسلمين قول الله تعالى “وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا” (سورة النَّجم: الآية 28)، كما صدق في أهل الكتاب قوله تعالى “وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا” (في سورة النِّساء: الآية 157).
2. اتَّفق دعاة الحداثة على ضرورة تطبيق وسائل النهضة الماديَّة الغربيَّة، ولو على حساب ثوابت رسالة الإسلام الحقَّة، معتبرين أنَّ في تطبيق الدِّين رجعيَّة وتخلُّف عن الأمم المتقدِّمة ماديًّا. وهناك إجماع بين هؤلاء على أنَّ سبب التخلُّف الحضاري للأمَّة الإسلاميَّة يكمن في اقتران السُّلطة الدينيَّة بالسُّلطة السياسيَّة، وتستُّر الأولى على انتهاكات الثانية في مقابل المناصب والعطايا، ولعلَّ ما جاء به مؤلّف رواية “مولانا” خير نموذج لذلك. هناك إجماع آخر على أنَّ فِكر يسوع النَّاصري هو أساس الفكر العلماني النفعي، الداعي إلى عدم التقيُّد بحرفيَّة الكتاب والأخذ بما يحقق المصلحة، مستشهدين في ذلك بآيات سبقت الإشارة إليها. والسؤال: كيف يكون يسوع المسيح نموذجًا للفكر الداعي للتكالُب على الدنيا، وهو الذي جاء ليبشِّر بقُرب ملكوت السماوات “«تُوبُوا، لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ. فَإِنَّ هذَا هُوَ الَّذِي قِيلَ عَنْهُ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ الْقَائِلِ: صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً»” (إنجيل متَّى: إصحاح 3، آيات 2-3)”؟ إن كان قد فُهم من أقوال المسيح أنَّ البارَّ هو المؤمن بإله، ولو كان جمادًا، كما هو فِكر المرجئة، فنبي الله عيسى تعهَّد بإقامة فرائض ربِّه طوال حياته “وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا” (سورة مريم: الآية 31).
3.أجمع دعاة الحداثة كذلك على أنَّ الدولة العثمانيَّة، آخر وحدة جامعة للمسلمين تحت لواء واحد، كان عقبة في طريق تطوير العالم الإسلامي، مستشهدين في ذلك بإحباطها سعي الحملة الفرنسيَّة إلى دمج الحضارة الوثنيَّة المصريَّة القديمة في الحضارة الغربيَّة الحديثة، ومعتبرين أنَّ الحضارة العريقة لمصر أُهملت منذ الفتح الإسلامي. سبقت الإشارة إلى أنَّ الحكومات التي حكمت المسلمين تُقسَّم إلى ثلاثة أنواع: حكومة دينيَّة، وحكومة سياسيَّة، وحكومة الشهوة والاستبداد. كفلت الحكومة الدينيَّة، أو الخلافة الرَّاشدة، للمسلمين حياة عادلة آمنة؛ لأنَّها طبَّقت شريعة الخالق العليم الخبير بطبيعة خلْقه، لكنَّها لم تدم طويلًا؛ لأنَّ الماديَّات أغرت المسلمين، وألهتهم قليلًا عن دينهم. انتهى عصر الخلافة، ليبدأ عصر الحكومة السياسيَّة، الذي اعتمد على القوانين الوضعيَّة. وبسبب تسلُّط الدنيا على قلوب المسلمين، انتهى هذا العصر بخيره وشرِّه بأن سقطة الدولة العثمانيَّة، ليبدأ عصر “حكومة الشهوة والاستبداد”، المتَّسم باتِّباع الهوى وتغليب المصلحة، وهو أكثر عصر عانى فيه المسلمون. يعني هذا أنَّ التهافت على نعيم الدنيا يفضي إلى الهوان والانكسار والتبعيَّة للغير، وهذا حال المسلمين منذ أن غزت بلادهم منتجات الحداثة الغربيَّة وسيطرت على حياتهم، في فتنة ظاهرها السرَّاء وباطنها المضرَّة والمذلَّة. إذا كان دعاة الحداثة يريدون للمسلمين مزيدًا من تغييب الدين وتغليب المنفعة الدنيويَّة، أليس في ذلك ما ينطبق على قول الرسول (ﷺ) “يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ”؟ أخرجه أبي داود في سننه (4297)، وورد في مسند أحمد(21890)، وفي مسند أبي داود الطيالسي (1085).
4.اشترك دعاة الحداثة في اعتبار أنَّ حل الأزمة الاقتصاديَّة العالميَّة يكمن في تطبيق نظام اشتراكي عادل، يُنقذ العالم من أنانيَّة الرأسماليَّة، كما اتَّفقوا على أنَّ المذهب البروتستانتي المعتدل، الثائر على اقتران السُّلطة السياسيَّة بالمؤسسة الدينيَّة. وسبقت الإشارة إلى أنَّ أوَّل دعوة للفصل بين الدين والدولة جاءت بعد انعقاد المجمع المسكوني الفاتيكاني الرابع عام 1215 ميلاديًّا، والذي ندَّد بالممارسات الربويَّة لليهود. وسبقت الإشارة كذلك في الدراسة عن مخطوطات البحر الميِّت وعقيدة بني إسرائيل الحقيقيَّة إلى أنَّ من بين نبوءات بني إسرائيل في مخطوطة “حرب أبناء النور ضد أبناء الظلام” انهيار كاثوليكيَّة روما، وانضمام أتباعها، وهم النسبة الأكبر من مسيحيي العالم، إلى الدين العالمي في ظلِّ المخلِّص بعد ظهوره في أورشليم؛ فقد جاء في الأعمدة 15-19/ بعنوان “المعركة ضد الروم: إنَّ هذا الزمن سيكون زمن الخلاص لشعب الربِّ، وهو عصر حُكم لجميع أعضاء طائفة الربِّ، والخراب الدائم لجميع طائفة الشيطان، والاضطراب لأبناء يافث سيكون (كبيرًا) وآشور سوف تسقط دون أي معين، وإنَّ حُكم الرومان سوف ينتهي وسيختفي الشر والخطيئة، ولا تترك لها أثرًا (لأنَّ أبناء) الظلام ليس لهم من مهرب (وأبناء الحق/النور) سوف يشعُّون فوق نهايات الأرض، وسوف يستمرُّون في الإشعاع حتى تُستهلك جميع مواسم الظلام، وفي الموسم الذي عيَّنه الربُّ سوف يشعُّ بنوره الربَّاني إلى الأبد ليشرق السلام والبركة والمجد والسرور، والحياة الطويلة لجميع أبناء النور. وفي اليوم الذي سوف يسقط فيه الرومان، ستكون معركة هائلة مع ملحمة هائلة، أمام ربِّ بني إسرائيل…”.
المفارقة أنَّ “مولانا” حاتم الشنَّاوي قد اعتبر أنَّ المذهب البروتستانتي هو مذهب التحرُّر العقلي والتخلُّص من رقبة المؤسسات الدينيَّة. بعد أن اتَّضح للجميع أنَّ الاشتراكيَّة هدفها الأساس تطويع العالم بأكمله إلى ما يُطلق عليه “طليعة اشتراكيَّة”، هي بالطبَّع من شعب الله المختار، وأنَّ صاحب فكرة إذابة الأديان في دين عالمي موحَّد، والموصي بتأسيس مذهب الشيوعيَّة ليحلَّ محل الأديان هو اليهودي الماسوني آدم فيسهاوبت، مؤسس حركة المتنورين؛ وبعد أن أُثبت في دراسة مخطوطات البحر الميِّت أنَّ المذهب البروتستانتي أُسس استنادًا إلى العهد القديم بمعرفة اليهود للخروج عن سيطرة المذهب الكاثوليكي، الذي لا يؤمن بعهد الربِّ لأبرام العبراني بمملكة من “نهر النيل إلى النهر الكبير، نهر الفرات”، غير المذكور من الأصل في العهد الجديد، نتساءل: من هي الفئة المستفيدة من تطبيق نظام اشتراكي عالمي ودين موحَّد يعتمد على الروحانيَّات والطقوس التأمُّليَّة؟
(المصدر: رسالة بوست)