تتبع الفاروق رضي الله عنه للرَّعية بالتَّوجيه والتَّعليم في المدينة
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
كان الفاروق يتعهَّد الرَّعية بالتَّوجيه، والتَّعليم، والتَّربية من خلال الاحتكاك اليومي وخصوصاً يوم الجمعة حيث كانت خطبة الجمعة من المنابر المهمَّة في توجيه الأمَّة وترشيدها، وقد حفظ التَّاريخ للفاروق كثيراً من خطبه، وهذه إِشاراتٌ عابرةٌ لبعض خطبه:
خطب عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إِنَّه قد نزل تحريم الخمر، وهي خمسة أشياء: العنب، والتَّمر، والحنطة، والشعير، والعسل. والخمر ما خامر العقل، وثلاثٌ وددت أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفارقنا حتَّى يعهد إِلينا عهداً: الجَدُّ، والكلالة، وأبوابٌ من أبواب الرِّبا.(الطنطاويان،1983، ص263)
وخطب يوم الجمعة في نصح الرَّعية، وبيان حقِّها عليه، فقال: أيهَّا الناس ! إِنَّ بعض الطَّمع فقرٌ، وإِنَّ بعض اليأس غنىً، وإِنَّكم تجمعون ما لا تأكلون، وتأملون ما لا تدركون، وأنتم مؤجَّلون في دار غرورٍ، كنتم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تؤخذون بالوحي، فمن أسرَّ شيئاً؛ أخذ بسريرته، ومن أعلن شيئاً؛ أخذ بعلانيته، فأظهروا لنا أحسن أخلاقكم، والله أعلم بالسَّرائر، فإِنَّه من أظهر لنا شيئاً، وزعم: أنَّ سريرته حسنةٌ؛ لم نصدقه، ومن أظهر لنا علانيةً حسنةً ظننَّا به حسناً، واعلموا أنَّ بعض الشُّحِّ شعبة من النِّفاق، فأنفقوا خيراً لأنفسكم {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *} [الحشر: 9]، أيُّها الناس ! أطيبوا مثواكم، وأصلحوا أموركم، واتَّقوا الله ربَّكم، ولا تُلبسوا نساءكم القباطي؛ فإِنَّه إِن لم يشفَّ، فإِنَّه يصف. أيها الناس ! إِنِّي لوددت أن أنجو كفافاً لا لي، ولا عليَّ، وإِنِّي لأرجو إِن عُمِّرت فيكم يسيراً، أو كثيراً أن أعمل بالحقِّ فيكم إِن شاء الله. وألا يبقى أحدٌ من المسلمين ـ وإِن كان في بيته ـ إِلا أتاه حقُّه، ونصيبه من مال الله، ولا يعمل إِليه نفسه ولم ينصب إِليه يوماً، وأصلحوا أموالكم الَّتي رزقكم الله، ولقليلٌ في رفقٍ خيرٌ من كثيرٍ في عنفٍ، والقتل حتف من الحتوف يصيب البرَّ، والفاجر، والشَّهيدُ من احتسب نفسه، وإِذا أراد أحدكم بعيراً فليعمد إِلى الطَّويل العظيم، فليضربه بعصاه، فإِن وجده حديد الفؤاد؛ فليشتره.(الحنبلي،2000،ج2، ص717)
_ حكم عظيمة من الخطبة:
لقد استفتح عمر رضي الله عنه خطبته بحكمٍ عظيمةٍ بيَّن فيها: أن الغنى الحقيقيَّ يكون بالقناعة، وأنَّ الفقر الحقيقيَّ يكون بالطَّمع، فأصل القناعة الإِياس ممَّا في أيدي الناس، فمن أيس ممَّا عند غيره؛ قنع بما عنده، ومن قنع بما عنده؛ استغنى؛ وإِن كان فقيراً، ومن أخذ به الطَّمع، واستشرف لما في أيدي النَّاس؛ افتقر في نفسه وإِن كان غنيَّاً في ماله، فإِنَّ ماله لا يغنيه؛ لأنَّ الغنى غنى النفس، وأن العقل السَّليم يقتضي ألا يجمع الإنسان من الدُّنيا أكثر ممَّا يحتاج إِليه، وألا تكون اماله الدُّنيويَّة معلقةً بما لا يملك، وأن ينظر إِلى الدُّنيا على أنَّها دار زوال، وأن لا يغترَّ بما فيها من جواذب، ومغريات.(اليحيى، 1996، ص300)
ـ أخذ الناس بظاهرهم وترك سرائرهم:
وفي هذه الخطبة تقريرٌ لما استقرَّ عليه الأمر بعد انقطاع الوحي من أخذ النَّاس بظاهرهم، وترك سرائرهم إِلى الله تعالى، وفيه إِشارةٌ إِلى أنَّ الوالي ليس مسؤولاً عن الحكم على سرائر القلوب، ولن يستطيع ذلك، ولكنَّه مسؤولٌ عن صلاح ظواهر النَّاس، ومن صلاح الظَّاهر يتكوَّن المجتمع الصَّالح، فإنَّه يحكم للمجتمع بذلك إذا صلح ظاهره، ولم تعلن فيه الفواحش، ولم يبرز فيه مَنْ يجاهر بالفسوق، أو يدافع عنه، وإِن كان فيه أفراد قد ساءت بواطنهم؛ لأنَّ العرف الاجتماعيَّ ـ والحال هذه ـ يكون سائراً مع ما أعلن من الصَّلاح، ومكارم الأخلاق، أمَّا ما خفي من الانحراف؛ فإِنَّ العرف الإِسلامي يرفضه، فيضطر أصحابه إِلى التستُّر، والانزواء.
ـ بعض الشُّحِّ شعبةٌ من النِّفاق:
وقوله ـ رضي الله عنه ـ: واعلموا: أنَّ بعض الشُّحِّ من النِّفاق واضحٌ في الَّذين يتقاعسون عن الإِنفاق في سبيل الله تعالى، وهم يرون دولاً، وطوائف من أمَّتهم يعتدي عليهم الكفار، وتنتهك أعراضُهم، وتُنتهب بلادهم، فينهض هؤلاء المعتدى عليهم للجهاد، ولكن لا يجدون إِلا القليل من المسلمين الَّذين يساعدونهم بأموالهم، فالَّذين أصيبوا بمرض الشُّحِّ من المؤمنين قد اتَّصفوا بالنِّفاق العملي، وهو علامةٌ على ضعف الإِيمان.
ـ ولوددت أنجو كفافاً لا لي، ولا عليَّ !
إحساسٌ مرهفٌ، وتصوُّرٌ بالغ الدِّقَّة في إِدراك المسؤوليَّة، فإِنَّ تحمُّل الولاية إِقدامٌ على عملٍ من أعلى الأعمال الصَّالحة، ولكن فيه مزالق خطيرةٌ، قد تحيله إِلى عملٍ من أسوأ الأعمال، وكم من مسؤولٍ كان عمله رافعاً ذكره عند الله تعالى، وعند الصَّالحين من النَّاس؛ لما يقوم به من محاسبة نفسه على كلِّ صغيرةٍ، وكبيرةٍ، وكم من مسؤول كان عمله بضدِّ ذلك؛ لكونه أتبع نفسه هواها، وقدَّم رضا النَّاس على رضا الله تعالى.
ولقد كان عمر رضي الله عنه من أبرز عظماء التَّاريخ الَّذين مثَّلوا العدالة في أبلغ صورها، ومع ذلك يقول هذه المقالة، ويحمله خوفه العظيم من الله تعالى على تناسي ما لعمله في الولاية من أجرٍ مقابل أن يخرج طاهر الأردان ممَّا فيها من وزرٍ.(الحميدي،1998،ج20، ص266)
مراجع البحث:
علي محمد الصلابي، عمر ابن الخطاب، شخصيته وعصره، دار ابن كثير، 1424ه-2003صص213-216
يوسف بن الحسن بن عبد الهادي الدِّمشقي الصَّالحي الحنبلي، محض الصَّواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب، ، دار أضواء السَّلف، الرِّياض، الطَّبعة الأولى 1420 هـ 2000 م.
قاسم عاشور، فرائد الكلام للخلفاء الكرام، دار طويق السُّعودية، الطَّبعة الأولى 1419 هـ 1998 م.
عبد العزيز عبد الله الحميدي، التَّاريخ الإِسلامي مواقف وعبر، دار الدَّعوة، الإِسكندريَّة، دار الأندلس الخضراء، جدَّة، الطَّبعة الأولى 1418 هـ 1998 م.
يحيى إِبراهيم اليحيى، الخلافة الرَّاشدة، والدَّولة الأمويَّة من فتح الباري، دار الهجرة، الرِّياض، الطَّبعة الأولى 1417 هـ 1996 م.
علي الطَّنطاوي، ناجي الطَّنطاوي، أخبار عمر، وأخبار عبد الله بن عمر، المكتب الإِسلامي، الطَّبعة الثَّامنة، 1403 هـ 1983 م.