بقلم د. أحمد الريسوني
تبييض الأموال، أو غسل الأموال، ويقال غسيل الأموال، يراد به نقل الأموال المكتسبة بطرق غير مشروعة، من صفتها اللاشرعية واللاقانونية، إلى حالات واستعمالات تؤدي إلى طمس صفتها الأصلية، والتوصل إلى إكسابها الصفةَ الشرعية والوضع القانوني السوي.
وبالإضافة إلى الهدف الأساسي للتبييض، وهو تأمين الأموال غير المشروعة وإكسابُها طابعَ التملك الشرعي، قد يكون من أغراض غسل الأموال أيضا: طمس الأدلة والآثار المتعلقة بأفعال جنائية مرتبطة بتحصيلها.
أما الأموال المكتسبة بطرق غير شرعية فهي مثل: عوائد تجارة المخدرات، وعوائد شبكات الدعارة، والأموال المسروقة والمغصوبة، وأموال الرشاوي، وأموال القمار، والأموال المهربة، والأوراق النقدية المزيفة…
وأما طرق غسل الأموال وتبييضها، فمنها إيداعها في حسابات بنكية، أو استعمالها في شراء أصول عقارية، أو تذويبها في مبادلات تجارية، أو في مشاريع استثمارية حقيقية أو صورية، أو تسجيل ملكيتها بأسماء بعض الأقارب، كالأولاد والآباء والأزواج. وقد يتطلب الأمرُ تحويلَ الأموال من بنك إلى بنك، ومن بلد إلى بلد…
وبصفة عامة وإجمالية، فإن جميع الدول اليوم لها قوانين تجرم تبييض الأموال وتعاقب عليه. ولها قوانين ومؤسسات للتقصي والمراقبة في هذا المجال. هذا بالإضافة إلى القوانين والاتفاقيات والجهود الدولية، الرامية إلى منع التبييض ومحاربته وتضييق الخناق عليه.
وأما موقف الإسلام والفقه الإسلامي، فهو — في الجملة — لا يختلف عن موقف القوانين الوضعية، الوطنية والدولية. بل هو سابق لها. فالمال الحرام يبقى حراما، مهما تغيرت أسماؤه وأشكاله وأحواله وأماكنه.
ومن أقدم الأساليب والحيل المستعملة في تبييض المال الحرام بغية استحلاله، ما ذكره الحديث النبوي المتفق عليه، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله اليهود؛ حُرّمتْ عليهم الشحوم، فجملوها فباعوها». أي أن الله تعالى لما حرم عليهم أكل الشحوم، بدأوا يقومون بتذويبها وبيعها وأكل ثمنها. والنتيجة أنهم ارتكبوا جريمتين، أو جريمة مركبة: جريمة أكل ما حرم عليهم بأكلهم ثمنَه، وجريمة التدليس والخداع. ولو أنهم أكلوا الشحوم المحرمة عليهم مباشرة، دون احتيال أو مخادعة، لكانت معصيتهم معصيةً واحدة، ولكنهم أضافوا إليها معصية أشنع، وبذلك استحقوا لعنة الله.
ومن الأساليب القديمة المتجددة لشرعنة غصب الأموال، لجوء بعض الماكرين إلى القضاء وتقديم إثباتات زائفة أو شهود زور، على أن المال ملْكُهم، فيكون القاضي — حتى النزيهُ — ملزما بالحكم لصاحب الحجج المزيفة الخادعة، لكونه إنما يحكم بحسب الوثائق والشهود والبيانات المقدمة أمامه، وهو لا يدري حقيقتها وما خفي من أمرها. وأما القاضي المتواطئ ففي ذلك مساعدةٌ له وتسهيل لخيانته. ومن هنا قرر الفقهاء وأفتوا بأن “حكم القاضي لا يُـحل حراما ولا يحرم حلالا”.
وإذا كان حكم القاضي نفسه لا يحيل الحرام حلالا، فأحرى أن تكون السجلات البنكية، أو السجلات العقارية، أو عمليات البيع الصوري… لا تحل حراما ولا تغسل نجاسة ولا وسخا.
اغتصاب الحكم وتبييضه؟
مما سبق يظهر أن هناك إجماعا لدى السياسيين والقانونيين والفقهاء الشرعيين، على بطلان غسل الأموال المحرمة، واعتباره جريمة أخرى، تضاف إلى جريمة اكتساب المال الحرام. وهذا شيئ جيد.
لكن هناك جريمة مماثلة لجريمة تبييض الأموال، بل هي أختها الكبرى، ومع ذلك لا نكاد نجد لها ذكرا ولا منعا، ولا تجريما ولا عقوبة، ألا وهي جريمة اغتصاب الحكم والاستيلاءُ غيرُ الشرعي عليه. بل هذه الجريمة هي — كما يعرف الجميع — أخطر وأفدح من جريمة تبييض الأموال، بما لا يحصى من المرات، كمّاً وكيفا.
الأساليب القديمة لتبييض اغتصاب الحكم
قديما — وإلى اليوم في بعض البلدان العربية — كان تبييض الحكم المغتصَب يتم بأساليب بدائية مفضوحة، إلى درجة كأنها توحي للناس بأن الاغتصاب أمر مشروع بل محمود، وأن التبييض إنما هو بياض حقيقي أصلي، تماما كمن يسرق ويغصب في واضحة النهار، ليوهم الجيران والمارة، أنه من أهل الدار وأهل المحل.
وهكذا، فبعد أن يقول السيف كلمته ويحسمَ معركته، يُـحمل الناس — عامتُهم وأعيانهم — إلى تقديم البيعة والولاء طوعا أو كرها، ويُلزم الخطباء بالدعاء للحاكم المتغلب ومدحه وتمجيده على المنابر. ثم يأتي الشعراء يتسابقون ويهيمون، ويقولون ما لا يفعلون…
وبهذا ينقلب من كان من وقت قريب يوصف بالمارق والباغي والفتان، ينقلب إلى إمام شرعي، حائز للبيعة والولاء، مستحق للطاعة والوفاء.
ثم يقطع اغتصابُ الحكم خطوة أخرى على طريق التبييض والتحليل والتجميل، فينتقل من تبييض حاضره إلى تبييض مستقبله، فإذا من لا يملك الحق (الحق في الحكم)، يعطيه لمن لا يستحقه، ثم مَن لا يستحقه يَعهَد به لمن وُلد بالأمس، ثم لمن لم يولد بعد. ثم إذا بنا نصبح أمام ولي العهد، وولي ولي لولي العهد. فلم يعد الحاكم يعهد لمن بعده، وإنما يعهد لمن بعده، ولمن بعدَ مَن بعده، ولمن شاء ممن سيأتي، وقد لا يأتي. هذا في العلن، وأما في السر، فما خفي أعظم.
وفي جميع الأحوال، فإن “البيعة الشرعية”، المجهزة أو المعلبة، تسَعُ الجميع في آن واحد، وتتجاوز تبييض الاغتصاب، لتصبح أداة لتبييض العبث والسفه، وكأنَّ أحدا لم يسمع صيحة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في كلام له صحيح صريح مجلجل (وهو في صحيح البخاري)، حيث قال رضي الله عنه: “من بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين، فلا يتابَعُ هو ولا الذي بايعه، تغرَّةَ أن يقتلا”. قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): “والمعنى: أن من فعل ذلك (أي بايع أحدا بغير مشورة بين المسلمين) فقد غرر بنفسه وبصاحبه وعرضهما للقتل”.
ولعل عمر كان يشير إلى الحديث النبوي الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه، وفيه يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر).
والحديث يفيد بأن البيعة الشرعية اللازمة إنما هي تلك التي تكون (ثمرة القلب)، أي تكون نابعة من القلب، ومعبرة عن الرضى والاختيار. أما مجرد صفقة اليد أو اللسان، بدون ثمرة القلب، فإنما هي نفاق أو إكراه، وكل منهما ليس له اعتبار ولا أثر في الشرع. فالبيعة الصورية الزائفة إنما هي جريمة إضافية، تستعمل لغسل جريمة اغتصاب الحكم، فهي من باب غسل الدم بالدم، أو غسل الدم بالصديد.
الانقلابات الحديثة وأساليب تبييضها
نحن اليوم نعيش في عصر الانقلابات العسكرية — وخاصة في عالمنا العربي والإسلامي — بحيث يقوم واحد أو مجموعة من قادة الجيش، المتحكمين فيه بحكم المسؤولية المسندة لهم والأمانة المنوطة بهم، يقومون فينَحُّون ولاة الأمر ويعتقلونهم أو يقتلونهم، ويستولون على الدولة ومؤسساتها غصبا بقوة السلاح. فهذه هي الجريمة الأولى، وفي ثنايها تقع جرائم ومظالم لا تحصى. وأما الجريمة الثانية، وهي أيضا تتضمن سلسلة من الجرائم، فهي تبييض الجريمة الأولى، وإضفاء الشرعية الزائفة عليها.
قديما كان يؤتى بالعلماء والوجهاء والشعراء، لتبييض وجه الاغتصاب والاستيلاء الدموي على الحكم، بالبيعة والثناء والدعاء.
واليوم حينما ينفَّذ الانقلاب العسكري على الحاكم الشرعي، يؤتى بالمفْلسين من السياسيين، وبالمرتزقة من الصحفيين، وبالقضاة الخائنين، وبأثرياء المال الحرام… يؤتى بهؤلاء وأشباههم ليشهدوا بشرعية الاغتصاب وشهامة قائد الانقلاب، وليُقسموا بالأيمان المغلظة على ذلك. ثم يؤتى ببعض “رجال الأديان”، ليعلنوا توحدهم في نصرة البغي والطغيان…
أما المرحلة الثانية من تبييض الانقلاب ومحاولة غسل نجاسته — وهي واسطة العقد عندهم — فهي مواجهة الرافضين الصامدين، وتصفيتُهم وتوزيعهم ما بين القبر والسجن والمنفى.
وأما مرحلة التتويج، فهي التي تكون بواسطة استفتاءات وانتخابات متحكَّم فيها من أولها إلى آخرها، متحكَّم في شروطها وضوابطها، وفي مقدماتها ونتائجها، أو كما قال الشاعر: “…فيك الخصام وأنت الخصم والحَكَمُ”.
ورغم أن العلامة الإمام محمد رشيد رضا، كان من حسن حظه أنه لم يعش حتى يدرك “العصور الذهبية” للانقلابات العسكرية، ولم ير أساليب غسلها المتطورة، سواء في بلده الأول سوريا، أو في بلده الثاني مصر، فإنه كان مدركا غاية الإدراك لجوهر الأساليب الانقلابية في التزييف وتبييض اغتصاب الحكم. ولعل معاصرته ومعاينته للتجربة الانقلابية التي قادها كمال أتاتورك وقام بتبييضها بمظاهر انتخابية ديموقراطية، كانت كافية لتجعله يكتب في تفسيره — تفسير المنار — قائلا: “ولا يكون هذا الانتخاب شرعيا عندنا إلا إذا كان للأمة الاختيار التام في الانتخاب، بدون ضغط من الحكومة ولا من غيرها، ولا ترغيب ولا ترهيب. ومن تمام ذلك أن تعرف الأمة حقها في هذا الانتخاب والغرضَ منه. فإذا وقع انتخاب غيرهم بنفوذ الحكومة أو غيرها كان باطلا شرعا، ولم يكن للمنتخَبين سلطة أولي الأمر. ويتبع ذلك أن طاعتهم لا تكون واجبة شرعا بحكم الآية، وإنما تدخل في باب سلطة التغلب، فمَثَلُ من ينتخب رجلا ليكون نائبا عن الأمة فيما يسمونه السلطة التشريعية وهو مكره على هذا الانتخاب، كمَثَل من يتزوج أو يشتري بالإكراه: لا تحل له امرأته، ولا سلعته”. — تفسير المنار (5/162).
محاباة الأقوياء والتحامل على الضعفاء
رأينا بوضوح أن تبييض الأموال تتجند ضده قوانين دولية ومحلية، وأجهزة أمنية واستخباراتية، ومؤسسات مالية وقضائية، وفتاوى فقهية. ولكن جرائم اغتصاب الحكم وتبييضه بشتى وسائل التزييف والإكراه، مسألة عادية معترف بها سياسيا وفقهيا وقانونيا. وهكذا سائر جرائم الاستبداد والفساد والإفساد السياسي.
ولقد قرأت في بعض الفتاوى الفقهية المتعلقة بعمليات غسل الأموال، أن التوسط والمساعدة في تلك العمليات هو أيضا حرام، وأن أي كسب من هذه الوساطة فهو حرام، لأن (ما بني على باطل فهو باطل). وكل هذا صحيح لا غبار عليه، ولكن المستغرب هو أننا لا نجد عند جمهور فقهائنا من يطبق قاعدة (ما بني على باطل فهو باطل) في فتاوى الحكم والسياسة، وتنظيم الانقلابات وتزوير الانتخابات…وهكذا الشأن عند السياسيين، وعند القضاة والقانونيين.
فالمتغلبون المتحكمون يصبحون محصنين مؤيَّدين مبرئين مهما فعلوا، أو متغاضى عنهم على الأقل، وكل الطرق تؤدي إلى إعذارهم وتبرئة ذمتهم والتلطف معهم. وأما الضعفاء، فكل الطرق تؤدي إلى التضييق عليهم وتشديد محاسبتهم. وهذه آفة قديمة جديدة، بل هي سبب من أسباب البلايا والرزايا التي تحل بالأمم. فعادة ما نجد الضعفاء المغلوبين يلقون شديد المحاسبة والمواخذة، على ما فعلوه وما لم يفعلوه وما يريدون فعله، صغيرا كان أو كبيرا. وبالمقابل نجد دوما من يدافع عن القوي المتغلب، ولو كان ظالما مبطلا، ومن لا يدافع عنه يسكت عنه. ومن لا يبرئه يُهون من جريمته وخطيئته، ومن لم يفعل ذلك يلتمس له مائة عذر. وقَلَّ من يقول للظالم المتغلب: يا ظالم، وللمجرم القوي: أنت مجرم. وقد ورد في بعض الآثار: “إذا رأيتَ أمتي تهاب الظالم أن تقول له: إنك ظالم، فقد تُوُدع منها”.
ومن صور هذه الآفة ما جاء في الحديث الشريف، وهو في الصحيحين: «أيها الناس، إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد…».
ومن أمثلتها المعاصرة في موضوعنا: أن السياسيين والمشرعين والقضاة والمحققين، يستأسدون على من يقومون بمحاولة انقلاب فاشلة، فيعاملونهم بأقبح المعاملات، ويدمغونهم بأغلظ الاتهامات، وينزلون بهم أقسى العقوبات. وأما من ينجحون منهم في تنفيذ جريمة انقلابهم، فيصبحون سادة قادة أشرافا، يعظمهم الخاصة والعامة، ويَسمع لهم ويطيعهم المشرع والقاضي والمفتي والسياسي. وما ذلك إلا لكون الصنف الأول أصبح ضعيفا مغلوبا، والصنف الثاني أصبح متغلبا حاكما. ولو كان القانون قانونا والقضاء قضاء، لكان الصنف الثاني أولى بالإدانة والعقوبة، لكونهم أتوا بجريمتهم كاملة، وأتبعوها بجرائم أحرى لا عد لها ولا حصر، بينما الصنف الأول لم يتجاوزوا النية والمحاولة.
*المصدر : موقع الشيخ د. أحمد الريسوني