تاريخ من الذل.. هكذا تخلص الأوروبيون من مأساة الاستبداد
إعداد محمد شعبان أيوب
“إذا كان الاغتصاب هو ممارسة إنسان ما لسلطة ليست من حقه، فإن الاستبداد هو ممارسة سلطة لا تستند إلى أي حق، ويستحيل أن تكون حقا لإنسان ما”[1]
(جون لوك)
ولعل هذا الأمر هو الذي اضطر الملك جيمس أمام البرلمان الإنجليزي سنة 1630م ليقف مُدافعا عن مكانته السياسية قائلا: “إن الفرق بين الملك والطاغية هو أن الأول يجعل من القوانين حدا تنتهي عنده سلطته، كما أنه يجعل من خير المجموع الغرض الأساسي لحكمه، أما الطاغية فلا حد لسلطانه، كما أنه يُسخّر كل شيء لإرادته ورغباته”[2].
فعِلّة الاستبداد وأصله يكمن حقيقة في “عدم المساءلة”، ولعدم المساءلة تاريخ طويل ضارب بجذوره منذ أقدم الحضارات والعمران البشري في الشرق والغرب على السواء، فقد كان الملك في مصر الفرعونية إلها منذ بداية النظام الملكي فيها، ولم تكن هذه الألوهية رمزية أو مجازية تشير لسلطته المطلقة، ومكانته السامية، بل هي تعبر حرفيا عن عقيدة كانت إحدى السمات التي تميزت بها مصر الفرعونية، وهي عقيدة تطورت على مر السنين، لكنها لم تفقد شيئا من قدرتها وتأثيرها.
فالملك قبل كل شيء، هو الإله حورس أو الإله الصقر وهو أحيانا إله الشمس “رع”، ويصبح حورس تابعا له، ويصبح الملك في هذه الحالة هو “حورس- رع” أو يصبح فيما بعد “ابن الإله رع”، وهو في جميع الحالات إله بين الآلهة، ويمثل البلاد بين الآلهة وتتجسد فيه مصر ويمثلها في مجمع الآلهة، وهو من ناحية أخرى الوسيط الرسمي الوحيد بين الشعب والآلهة والكاهن الأوحد المعترف به للآلهة كلها.
بل إننا نجد نصوصا في تمجيد الملك تصفه بأنه في وقت واحد مجموعة من الآلهة وليس مجرد إله بين الآلهة، فهو “سيا” إله الإدراك، وهو “رع” إله الشمس، وهو “خنوم” خالق البشر على دولاب الخزاف، وهو باسنث “الآله الحامي، وهو في الوقت نفسه “سخمت” إله العذاب، ومعنى ذلك أن الفهم والحكم المطلق ومسؤولية إكثار السكان والحماية والعقاب كلها من خواص الملك، والملك هو كل واحد منها، “فالملك هو كل هذه الآلهة”[3]!
عرف كل من الإغريق والرومان الاستبداد واقعا قاتما في تاريخهم القديم، وعلى الرغم من وجود الفلسفة اليونانية القديمة التي أصّلت لمعاني الديمقراطية والجمهورية وسيادة الشعب، فإن تلك المعاني كانت في أرض الواقع على النقيض من ذلك تماما، بسبب وجود الطبقية الاجتماعية التي أصّلت لهذا التفاوت الطبقي وتمايزه، وحتى حين احتل الرومان بلاد الإغريق، وما سببوه من وراء ذلك في القمع ومساوئ الاحتلال، فإن العامل الأكبر الذي آلمهم أشد الإيلام لم يكن الاحتلال نفسه بقدر ما كان الاستبداد، وهو ما يؤكده ديورانت بقوله: “إن بلاد اليونان ظلت فقيرة، ولم يكن فقرها هو الفتح الروماني، بل كان الاستبداد الذي خنق أرواح الأهلين في إسبارطة”[4].
على الجانب الغربي من العالم القديم كانت الإمبراطورية الرومانية الأعظم والأشد قوة وبطشا، فقد استطاعت أن تحتل جزءا كبيرا من العالم في قاراته الثلاث، وطالما تساءل المؤرخون والفلاسفة عن أسباب قيام هذه الحضارة وعن أسباب سقوطها وهي التي استمرت في واقع الحال ثلاثة قرون كاملة.
تناول المؤرخون في تاريخ الرومان كافة الأسباب والجوانب التي أدت إلى ذلك السقوط، وحين تأملوا في الجانب السياسي وأسباب تدهوره رأوا أن “الأسباب السياسية التي أدت إلى انهيار الإمبراطوريّة الرومانية ترجع كلها إلى أصل واحد هو أن الاستبداد المتزايد قضى على شعور الفرد بحقوق المدنية، وأنضب معين قدرته على القيام بأعباء الحكم. ولما عجز الروماني عن التعبير عن إرادته السياسية إلا بالعنف، فقدَ مِن أجل ذلك اهتمامه بشؤون الحكم، وانهمك في أعماله، وفي متعه، وفي فيلقه، أو في نجاته الفردية”[5].
فالاستبداد السياسي وعدم قدرة الروماني القديم على مواجهته بالقوة كان له أثره العكسي حين أعلن فلسفة الانسحاب والتخاذل، وإعلاء روح الفردانية التي أدت إلى انتشار الطمع، وزيادة الأحقاد، وانعدام المسؤولية الاجتماعية والولاء السياسي للدولة الرومانية، تلك الدولة التي كانت منذ تلك اللحظة تفقد أهم مقومات بقائها بوجود الفرد الموالي لها، والمؤمن بوجودها ومشروعية استمرارها وبقائها.
استمرت لوثة الاستبداد السياسي في أوروبا بعد ظهور المسيحية حين انقسمت السلطة السياسية بين الكنيسة وملوك وأباطرة أوروبا، وكان للبابا مكانته العليا، وسلطته المقدسة على جميع الأباطرة حتى بدأت حركات الإصلاح الديني في الظهور منذ القرن السادس عشر الميلادي، فتحتَ تأثير أفكار مارتن لوثر (ت 1546م) انفصلت الكنيسة الألمانية عن الكنيسة الأم وتسمت باسم الكنيسة البروتستانتية، ثم انتقلت عدواها إلى بريطانيا على يد هنري الثامن (ت 1547م)، ومنها إلى فرنسا على يد كلفن (ت 1564م).
كانت مواجهة الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في حقيقة الأمر مواجهة للاستبداد الديني، واحتكار فهم النصوص المقدسة، والحق المطلق في الوصاية الدينية، كانت المعركة شرسة وحدثت في سبيل ذلك مجازر مروعة تجاه البروتستانت أشهرها مذبحة سان بارتلمي سنة 1572م لتؤدي دور الصاعق، وكانت نتيجتها الفورية عدم مقاومة الكنيسة الكاثوليكية فقط، وإنما مقاومة سلطة الملكية الفرنسية التي كانت تأتمر بأمر البابا.
رافق تلك المعارضة انفجار أدبي تنافست بفضله رسائل الهجاء والنشرات الهجائية، مصوّبة سهامها شطر تجاوزات الأمراء وإفراطهم في سوء استخدام السلطة، أما حين بلغت موجات السخط السياسي الأوج كانت الشعبية الخارقة التي اكتسبتها الأفكار الجديدة، لا في ميدان الأدب ذي النزعة الإنسانية فقط، وإنما في الميدان السياسي من بعد، لدى عمّال المطابع وأصحاب المكتبات وعمّال التجليد، تساعد على نشر تلك الكتابات التي وصفت بأنها تمردية، وكان الناس يتخطفونها بلهفة.
قام الكتاب البروتستانت بحملة فكرية وأدبية كبيرة، جعلتهم يوصفون بأنهم “موناركوماك” أي معارضي الملك، تمثلت هذه الحملة في استهداف الملك والأمراء المستبدين، واللافت أن تلك النداءات الاحتجاجية الرافضة أدت إلى توسيع دائرة الرفض حتى بين الكاثوليك أنفسهم الذين بدأوا ينادون إلى “إصلاح الخدمة الإلهية المقدسة والطاعة لصاحب الجلالة”، وكانوا يرمون من وراء ذلك إلى وضع حدود للسلطة الملكية وإزالة الحكم المطلق، واستعانوا من أجل الدفاع عن حرية الشعوب بعدد من الحجج التي أخذوها عن غرمائهم البروتستانت[6].
حتى بعض رجال القضاء والمفكرين آنذاك دخلوا على خط الأزمة وبدأوا في التساؤلات الحقيقية والجادة حول أسباب الاستبداد السياسي والديني في عصرهم، وكان التساؤل الأكثر وضوحا يتمثل في “كيف نستوعب أن يقوم ملايين من البشر فيشقَوا ليخدموا رجلا واحدا، وهم فخورون به ومسحورون، في حين أنه حيالهم متوحّش وبلا رحمة؟! إن الشعب يتعرض بوحشية لأعمال السلب والفجور والعنف لا على يد جيش ولا من قِبل معسكر من البرارة الذين ينبغي للمرء التصدّي لهم؛ دفاعا عن دمه وحياته، وإنما على يد فرد واحد، وليس ذلك الرجل بهرقل ولا بشمشون بل هو من أشباه الرجال، وغالبا ما يكون الأكثر جبنا والمخنّث في الأمة، فهو لم يخبر رائحة بارود المعارك، بل لا يكاد يعرف غبار نزال الخيل، ولا تتوفر لديه القدرة على قيادة الرجال، بل حتى على تلبية مطالب أضعف امرأة”[7].
تلك التساؤلات كانت في حقيقة الأمر كرصاص البنادق في قوته وانتشاره في المجتمعات الأوروبية حينذاك، وهي بوجه من الوجوه كانت دليلا متناميا على نضوج الدولة المتنامي، وتدل على تزايد قوى الروح القومية، فقد دعّمت مركز الدولة المستقلة ذات السيادة بإسقاطها كل تقليد يحد من السلطة الملكية، وساندت الروح القومية بتحريرها من ازدواجية الولاء، ولا سيما الولاء للكنيسة الكاثوليكية العالمية، وهي بإشعالها للحروب الأهلية داخل أوروبا، وبإشاعتها للارتباك والفوضى نتيجة لتلك الحروب أرغمت الدولة على إعادة النظام وعلى تحديد قواعد العقيدة ومتطلباتها.
وهكذا -كما يقرر المفكر الكبير رونالد سترومبرج- كان للإصلاح الديني أبلغ الأثر في السياسة، حيث جاءت نظريات تقول بسيادة الدولة وبحق الملوك الإلهي، لتقابل نظريات أخرى من كلفينية ويسوعية تنادي بحق الانتفاض والثورة، ولا خلاف أن انفجارات الإصلاح الديني مزّقت الوحدة الدينية إربا إربا، وقذفت بأوروبا إلى متاهات الفوضى والاضطراب، لكنها أنتجت المذهب البروتستانتي الذي احتاج إلى وقت ليس بالقصير ليغدو مقبولا كأساس للنظام السياسي، غير أن الأوروبيين توقفوا فوضعوا مناهج تمكن الأيديولوجيات السياسية المتصارعة من النشاط داخل إطار سياسي واحد دون أن تنجم أي كارثة عن أنشطتها[8].
لم يكن تناول مسألة الاستبداد والإصلاح من منظور ديني فكري فقط، وإنما نظر إليه أيضا من جانبه الاقتصادي وجدل العلاقات الاجتماعية بين طبقاته، فقد كان ذلك العصر عصرا سيطرت فيه الملكية المطلقة بجوار الطبقة البرجوازية الجديدة من كبار التجار والصناع، فمن قلب تناقضات ذلك النظام الإقطاعي راحت بذور مقاومة الاستبداد تكافح للظهور على الضفة الأخرى في إنجلترا، فالإقطاعيون الإنجليز أجبروا الملك على الاجتماع بهم في المناسبات المهمة لطلب المشورة والنصيحة، بل والمشاركة في نفقات الحرب وغيرها، وهكذا استقر نظام جديد يُدعى إليه الأشراف والأساقفة، ثم ازدادت سلطات المجلس فانتقلت من المشورة إلى التشريع ثم الإشراف على القضاء، وأصبح هذا المجلس يجتمع سنويا، ثم ثار النبلاء والأشراف والأساقفة على الملك جون وصدر “العهد الأعظم أو المجناكارتا”[9].
أجبر الملك على عدم إلغاء أي قانون صدر عن هذا المجلس، وتوسع عدد الأعضاء فأضيف إليه فارسان عن كل مقاطعة وممثلون عن المدن المهمة، حتى أصبح يتألف من خمس فئات، وتكتل نواب المقاطعات والمدن حتى انفصلوا في مجلس خاص هو مجلس العموم.
لم يكن الأمر سهلا أو ميسورا للوصول إلى حق الأمة البريطانية في التشريع والمراقبة، فإذا كان أولئك الأشراف قد كافحوا ودخلوا في صراع مع الملك من قبل، فقد تجدد الصراع في القرن السابع عشر على نحو أشد عنفا في عهد الملكين جيمس الأول (1603- 1625م) وشارل الأول (1625- 1649م) حتى تحول الصراع إلى حرب أهلية بين عامي (1642- 1645م) ثم تجددت مرة أخرى (1647- 1649م) لتنتهي الحرب بإعدام الملك شارل الأول في 30 يناير/كانون الثاني 1649م، وتولى البرلماني أوليفر كرومويل زعامة البلاد[10].
ظل الاستبداد جاثما على صدر الأوروبيين لعقود طويلة، تارة تحت هيبة الحاكم المطلقة في العالم القديم في عصر الإغريق والرومان، وتارة في ظل كهنوت الكنيسة وسيطرتها المطلقة على النفوس والعقول والأجساد بل والملوك، وأخيرا كانت مواجهة الكنيسة سببا في فتح الأبواب المغلقة في عالم السياسة والفكر والاجتماع، واستطاعت أوروبا أن تجمع هذه المتناقضات حين اكتشفت نظاما سياسيا تعدديا يتيح للإنسان حرية العيش والفكر دون قيد من ذل!
(المصدر: ميدان الجزيرة)