تاريخ حلّ الدَّولتين منذ الانتداب البريطاني حتَّى صفقة القرن 6 من 6
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
موقف السَّعوديَّة من احتلال فلسطين: هل تغيَّر عبر السّنين؟
يفترض منتقدو الموقف السَّعودي من إسرائيل، الميَّال إلى التَّعاون الاقتصادي والتَّقني والأمني، أنَّ المملكة السَّعوديَّة بذلك تغيّر سياستها تجاه الكيان الصُّهيوني، بعد عداء ومعارضة، بينما يرى مؤرّخون أنَّ المملكة في الأصل لم تصرّح بعداء تجاه إسرائيل إلَّا إرضاءً للانتداب البريطاني، الَّذي كان الحفاظ على علاقتها بها أهمُّ من إعاقة تأسيس الدَّولة العبريَّة. تتضمَّن الطَّبعة الثَّانية من كتاب The War for Palestine: Rewriting the History of 1948-حرب فلسطين: إعادة كتابة تاريخ 1948، الصَّادرة عام 2008م، دراسة للدُّكتورة مضاوي الرَّشيد، أستاذة علم الأنثروبولوجيا الدّيني، في قسم اللاهوت والدّراسات الدّينية بكلية الملوك بجامعة لندن، وحفيدة آخر حاكم من أسرة الرشيد الحاكمة في حائل، تتحدى من خلالها الرُّواية الرَّسميَّة عن موقف المملكة العربيَّة السَّعوديَّة من حرب فلسطين وإعلان دولة إسرائيل عام 1948م. كما يوحي عنوان الدّراسة، وهو “Saudi Arabia and the 1948 Palestine War: beyond official history- السَّعوديَّة وحرب فلسطين 1948: ما وراء التَّاريخ الرَّسمي”، تعتبر الرَّشيد أنَّ فيما روته المصادر السَّعوديَّة الرَّسميَّة عن معاداة الملك عبد العزيز آل سعود، مؤسّس المملكة العربيَّة السَّعوديَّة والمعروف في الأوساط الغربيَّة باسم ابن سعود، للصَّهاينة ودفاعه عن فلسطين فيه مبالغة وتضخيم. لم تنسَ الرَّشيد الإشارة إلى أنَّ الرُّواية الرَّسميَّة تتعمَّد تجاهُل “الصَّداقة الَّتي كوَّنها ابن سعود مع بريطانيا خلال الثَّلاثينات والأربعينات، وكيف منعته تلك الصَّداقة من اتّخاذ موقف فعَّال في التَّعامل مع الأزمة الفلسطينيَّة”، كما تتجاهل القدرات العسكريَّة السَّعوديَّة غير المواكبة للحدث، والمنافسة بين ابن سعود وعبد الله بن الحسين، مؤسّس المملكة الأردنيَّة، ودورها في سياسة ابن سعود تجاه فلسطين (ص229). تراجع الرَّشيد مجموعة من الرَّسائل والخطب والمذكّرات الَّتي نشرتها مراكز بحثيَّة سعوديَّة في هذا الصَّدد، في محاولة لكشف حقيقة موقف مؤسّس السَّعوديَّة من محنة الفلسطينيين والكيان الصُّهيوني.
موقف مؤسّس المملكة سَّعوديَّة من الهجرة اليهوديَّة وتقسيم فلسطين
استغلَّ ابن سعود توتُّر العلاقات بين عبد الله بن الحسين والحاج أمين الحسيني، مفتي القُدس، في تكوين صداقة مع الأخير في مواجهة منافسهما المشترك. تتناول الرَّشيد رسالة من ابن سعود إلى أمين الحسيني تعود إلى عام 1931م، يعرب فيها عن تقديره لمعاناة الفلسطينيين، وينصحه بعدم إتاحة الفرصة لـ “المغرضين”، في إشارة غير مباشرة للهاشميين حُكَّام الأردن، للانتصار عليه. مع ذلك، لم يتَّخذ ابن سعود موقفًا مؤيّدًا للثَّورة الكبرى (1936-1939م) المطالِبة بانتهاء الانتداب البريطاني وإيقاف الهجرة اليهوديَّة عند اندلاعها، خاصَّة بعد أن أرسلت إليه الحكومة البريطانيَّة عبر قنصليَّتها في جدَّة في 7 مايو 1936م، رسالة تحذّره فيها من إبداء التَّعاطف تجاه المعارضين لسياسات بريطانيا في فلسطين؛ لأنَّ في ذلك اصطفافًا ضمنيًّا مع المحتجّين ضدَّ بريطانيا. وما كان من ابن سعود إلَّا أن ردّ برسالة يؤكّد فيها ولاءه لبريطانيا، وإن كان “لا يحتاج إلى طمأنة الحكومة البريطانيَّة أنَّها ستظلُّ صديقة لبلاده”، مشيرًا إلى أنَّ الفلسطينيين هم الَّذين تخلَّفوا عن قاعدة السَّعي إلى تحقيق السَّلام مع بريطانيا، ويعد بتوجيه النَّصيحة إليهم لكي “يبقوا سلميين ويدخلوا في مفاوضات مع بريطانيا” (ص231). أتبع ابن سعود تلك الرّسالة بأخرى ينفي فيها شائعات تردَّدت عن تورُّط أهالي مدينة الجوف الشَّماليَّة في جمْع الأسلحة وتهريبها إلى “المتمرّدين” في فلسطين قال فيها “ليست ادّعاءات أنَّ العتاد العسكري قد هُرّب من أرضنا إلى المتمرّدين في فلسطين…إلَّا شائعات ترمي إلى إفساد صداقتنا” (ص231).
أعرب ابن سعود في بعض رسائله إلى حكومة بريطانيا عن شعوره بالحرج حيال الهجرة اليهوديَّة المتزايدة إلى فلسطين، وعدم قدرته على عدم إدانة الأمر مع تزايُد الغضب العربي تجاهه، مقترحًا أن توقف بريطانيا الهجرة اليهوديَّة 10 سنوات على الأقل لإيقاف حالة الاضطراب المرتبطة بتلك الهجرة. تناوَل مؤسّس السَّعودية في رسائله كذلك مستقبل الحكومة في فلسطين بعد انتهاء الانتداب البريطاني، خشية أن يسيطر عبد الله بن الحسين على كامل الأراضي العربيَّة الّتي لم يطلها الاستيطان اليهودي. اقترح ابن سعود حينها تأسيس حكومة دستوريَّة تشمل العرب المتواجدين حينها، مع وضْع شروط خاصَّة تكفل الوصول إلى الأماكن المقدَّسة، وحماية الأقليَّات والمصالح البريطانيَّة، كما تنقل الرَّشيد عن رسالة للملك تعود إلى سبتمبر 1936م (ص232). لم تكن خشية ابن سعود من تقسيم فلسطين نابعة من حرصه على وحدة أراضي العالم العربي أو رفضه تأسيس دولة الكيان الصُّهيوني، إنَّما من خشيته أن يفضي التَّقسيم إلى سيطرة خصمه الأكبر، ابن الحسين، على القسم العربي من فلسطين، ممَّا يقوّي من شوكته.
دور ابن سعود خلال حرب 1948م
عقب صدور قرار الجمعيَّة العامَّة للأمم المتَّحدة رقم 181، الخاص بتقسيم فلسطين، في 29 نوفمبر 1947م بأيَّام قليلة، وصلت إلى القاهرة وعمَّان وبيروت وبغداد وجدَّة رسالة من حكومة بريطانيا، تؤكّد فيها دولة الاحتلال على عدم مشاركة أيّ من الدُّول العربيَّة المذكورة في إحداث مشكلات لها، طالما لم تزل الأمور في فلسطين تحت سيطرتها. من ناحيته، ردّ ابن سعود بأنَّ بلاده لم تنخرط في عمل يُحرج بريطانيا، طالما لم تتخلَّ عن مسؤوليتها عن فلسطين بالكامل. طلبت حكومة بريطانيا كذلك من حُكَّام الدُّول المعنيَّة، “ليس فقط الامتناع عن إرسال وحدات عسكريَّة، إنَّما كذلك منْع أيّ مواطن يحاول الذّهاب إلى فلسطين بهدف إحداث فوضى، وكذلك كبْح المنظَّمات والأفراد في أراضيهم ممَّن يحاولون إثارة الفوضى من الخارج” (ص239). وما كان من ابن سعود إلَّا أن أرسل وليّ عهده، الأمير سعود بن عبد العزيز، إلى المسؤولين البريطانيين في جدَّة لطمأنتهم إلى أنَّه لم يكن ليفعل شيئًا “يزيد من متاعبهم في فلسطين” (ص239). اضطر ابن سعود أن يحضر مؤتمر جامعة الدُّول العربيَّة في 7 و8 ديسمبر 1947م، وشارك الزَّعماء العرب في رفضهم قرار تقسيم فلسطين، وفي انتقادهم للقرار في أنَّه منَح الدَّولة اليهوديَّة أفضل أراضي فلسطين ووضَع نصف مليون عربي تحت الحُكم الصُّهيوني، وفي إعلانهم مساندة الإخوة الفلسطينيين في مقاومة التَّقسيم. وافق الزَّعماء العرب على اقتراح إرسال مجموعة من المتطوّعين إلى فلسطين، يبلغ عددهم 3 آلاف فرد، وتكفَّل ابن سعود بدفع 20 بالمائة من التَّكلفة الماديَّة، بل وأسَّس صندوقًا خاصًّا لتقديم الدَّعم للفلسطينيين.
ومع تطوُّر الأحداث بعد إعلان دولة إسرائيل في 15 مايو 1948م، فور انتهاء الانتداب البريطاني، وصدور قرار بإرسال الجيوش النّظاميَّة العربيَّة إلى فلسطين، كانت المشاركة السَّعوديَّة ضئيلة نسبيًّا، بما لا يزيد على 1200 جندي، بعدد محدود من العتاد وبلا ذخيرة، علاوة على عدم تلقّي الجنود التَّدريب المناسب للمشاركة في الحروب الحديثة حينها. لم يرِد ابن سعود تسيير القوَّات من أرضه عبر شرق الأردن إلى فلسطين، مفضّلًا أن تحارب تحت اللواء المصري، وأن تتحرَّك من قاعدة الجيش السُّوري في مدينة قطنا، غربي دمشق. لم يزل عدد السَّعوديين المشاركين في حرب فلسطين 1948م محلّ جدال؛ فهناك من يقول أنَّ 500 من الجنود غير النّظاميين انضمَّ إلى الـ 1200 جندي، وهناك من يقول أنَّ 3 آلاف من أبناء القبائل كانوا على استعداد لخوض المعركة في فلسطين دون دعم من الدَّولة، كما تشير التَّقارير الرَّسميَّة السَّعوديَّة إلى مشاركة 500 فدائي في “الجهاد” في فلسطين (ص241). ويبقى أداء السَّعوديين في الحرب، مثل عددهم، محلّ خلاف، ما بين التَّفخيم والمبالغة في المصادر السَّعوديَّة، وإقلال الشَّأن والاستخفاف في المصادر البريطانيَّة. في النّهاية، تؤكّد مضاوي الرَّشيد أنَّ سياسات الملك عبد العزيز آل سعود تجاه فلسطين في حرب 1948م كان يحرّكها “حفظ ماء الوجه والحفاظ على المصالح الشَّخصيَّة، وإحكام سيطرته على سُلطته، والتَّصدّي لصعود الهاشميين في السّياسة الإقليميَّة” (ص244). ولتحقيق ذلك، كان عليه الحفاظ على متانة علاقة بالقوَّة الإقليميَّة العظمى حينها، ألا وهي بريطانيا، الَّتي طالما اعتبرته “رجلها”، وكان تحالفه معها حيويًّا للحفاظ على موازين القوَّة الإقليميَّة في مواجهة صعود الهاشميين والقوى الأخرى في المنطقة (ص244).
المصدر: رسالة بوست