تاريخ حلّ الدَّولتين منذ الانتداب البريطاني حتَّى صفقة القرن 1 من 6
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
يناقش بيني موريس، أستاذ تاريخ الشَّرق الأوسط في جامعة بن غوريون الإسرائيليَّة، في كتابه One State, Two States: Resolving the Israel/Palestine Conflict– دولة واحدة…دولتان: حل الصّراع الإسرائيلي–الفلسطيني (2009م)، سُبل الوصول إلى تسوية شاملة في فلسطين تُنهي الصّراع بين الاحتلال الإسرائيلي وأبناء الشّعب الفلسطيني، المغتصَبة أراضيهم والمعرَّضين منذ عقود طويلة لآلة البطش الإسرائيليَّة من أجل دحْر مقاومتهم وتخلّيهم عمَّا بقي من مساحة من الأرض تحت سيطرتهم. يبدأ المؤرّخ الإسرائيلي نقاشه بالإشارة إلى أنَّ المنتمين إلى الجماعات الإسلاميَّة المتشدّدة في فلسطين، وبخاصَّة الجهاد الإسلامي وحماس، يصرُّون على إزالة دولة إسرائيل وتأسيس دولة واحدة مسلمة على أرض فلسطين، بينما يعرب مفكّرون فلسطينيون، يعيشون في الغرب ويعتنقون فكر حركة فتح، عن تفضيلهم، إن لم يكن حتميَّة، تأسيس دولة موحَّدة بين نهر الأردن والبحر المتوسّط يعيش فيها المسلمون واليهود جنبًا إلى جنب. يمثّل هذا الفكر تحوُّل كبير عن الموقف الفلسطيني خلال تسعينات القرن الماضي، والمصرُّ على تأسيس دولة فلسطينيَّة إلى جانب إسرائيل، والموقف الأسبق لحركة فتح ومنظَّمة التَّحرير الفلسطينيَّة خلال السّتّينات والسَّبعينات، والمصرُّ على إزالة دولة الاحتلال بالكامل وتأسيس دولة للفلسطينيين وحدهم.
ينقل موريس رأي بعض الفلسطينيين المتغرّبين عن مثاليَّة حلّ الدَّولة الموحَّدة على أرض فلسطين التَّاريخيَّة، في إطار من التَّعايش بين العرب واليهود، ومن بين هؤلاء النَّاشطة البريطانيَّة، فلسطينيَّة الأصل، غادة كرمي، في مقالها المنشور عام 2002م، تحت عنوان “دولة ديمقراطيَّة علمانيَّة في فلسطين التَّاريخيَّة: فكرة حان وقتها؟”. تعتقد كرمي أنَّ الفلسطينيين فقدوا إيمانهم بفكرة حلّ الدَّولتين، معتبرةً أنَّ تأسيس دولة ثنائيَّة القوميَّة (bi-nationalism) قد يمهّد الطَّريق أمام نشأة دولة ديمقراطيَّة علمانيَّة في فلسطين التَّاريخيَّة، كما يخبر العنوان. أمَّا المؤرّخ الأمريكي، فلسطيني الأصل، رشيد خالدي، أستاذ الدِّراسات العربيَّة الحديثة في جامعة كولومبيا الأمريكيَّة، فقد رأى، كما يخبر في كتابه The Iron Cage-القفص الحديدي (2006م)، أنَّ قناعة قد تكوَّنت في السنوات الأخيرة بأنَّ حلَّ الدَّولتين أصبح غير ممكن تنفيذه، في ظلّ استمرار إسرائيل في إحكام قبضتها على الضَّفَّة الغربيَّة والقُدس الشَّرقيَّة، ممَّا أغرى الفلسطينيين بإعادة النَّظر في الحلول المطروحة للصّراع مع المحتل، والاعتراف بأنَّ حلَّ الدَّولة الواحدة هو الخيار السَّليم، في ظلّ التَّكهُّنات المتزايدة-يقصد وقت إعداد مؤلَّفه قبل 15 عامًا تقريبًا-عن تخطيط إسرائيل لضمّ الضَّفَّة الغربيَّة والقُدس الشَّرقيَّة، أي المنطقة المفترَض تأسيس الدَّولة الفلسطينيَّة فيها. يضيف خالدي أنَّ “مفهوم منظَّمة التَّحرير الفلسطينيَّة لدولة ديموقراطيَّة علمانيَّة في كامل أراضي فلسطين تكفل حقوقًا متساوية للجميع” من بين المقترحات الواقعيَّة، معترفًا بأنَّه لا يضع في اعتباره ما يثار عن عدم شرعيَّة الدَّولة اليهوديَّة، الَّتي أُسّست بموجب قرار من الأمم المتَّحدة صدر في 29 نوفمبر 1947م (ص5).
يعتبر المؤرّخ البريطاني اليهودي توني جَدت، أستاذ التَّاريخ الأوروبي بجامعة نيويورك الأمريكيَّة، أوَّل من دعا إلى تأسيس دولة علمانيَّة ليبراليَّة في فلسطين، في مقاله “Israel: The Alternative-إسرائيل: البديل” (2003م)، الَّذي أصبح بمثابة البرعم الأوَّل لفكرة حل الدَّولة الواحدة (one-statism) في الأوساط الفكريَّة الغربيَّة؛ لما أحدثه من “انقلاب في موازين العلاقات العامَّة”، بإعادته طرْح فكرة كانت قد استُبعدت من الحسابات منذ الأربعينات (ص6). يشير جَدت في مقاله إلى أنَّ العصر الحالي ليس بعصر يسمح بالتَّمييز العنصري لليهود على سائر الأمم، مضيفًا أنَّ إسرائيل أُسّست وفق تخطيط يعود إلى القرن التَّاسع عشر، يقوم على فكرة الفصل العنصري، وهذا لم يعد محتملًا في عصر الحدود المفتوحة والقانون الدُّولي. ينذر معدَّل الإنجاب المرتفع لدى الفلسطينيين بتزايد متواصل في عددهم، بما يتجاوز عدد اليهود، وهذا ينذر بواقع جديد في فلسطين التَّاريخيَّة لا يمكن للإسرائيليين مواجهته إلَّا من خلال حلَّين، أحدهما التَّخلُّص من كافَّة الفلسطينيين وإبعادهم بالكامل عن إسرائيل، والآخر هو تأسيس نظام للفصل العنصري ضدَّ الأغلبيَّة العربيَّة المحرومة من أبسط الحقوق. يستبعد جَدت كلا الحلَّين، كما يستبعد فكرة تأسيس دولة فلسطينيَّة من خلال الرَّبط بين قطاع غزَّة والضُّفَّة الغربيَّة، خاصَّة وأنَّ اتّفاقيَّة أوسلو الَّتي تمخَّضت عنه قد قضت ولا سبيل لإحيائها في رأيه. لا يمكن الآن، بعد تأسيس الكثير من المستوطنات في المنطقة الَّتي كان من المفترَض أن تشكّل الدَّولة العربيَّة في فلسطين، أن يقبل المستوطنون اليهود العيش في دولة فلسطينيَّة؛ كما لن يقبل أيُّ سياسي إسرائيلي سحْق المستوطنين في حال رفضوا الجلاء عن مستوطناتهم. أمَّا عن السَّبيل لحلّ تلك المشكلة، فهو تأسيس دولة موحَّدة ثنائيَّة القوميَّة تجمع بين الإسرائيليين والفلسطينيين. تعرَّض جَدت إلى هجوم واسع، واتُّهم بمعاداة السَّاميَّة، بعد إدانته السّياسات الإسرائيليَّة في قمْع الفلسطينيين، لما تسبّبه ليهود المهجر من غير الإسرائيليين من انتقادات بسبب انتهاكات لم يتورَّطوا فيها.
تحت عنوان ” Tony Judt’s Final Word on Israel-كلمة توني جَدت الأخيرة عن إسرائيل”، وبتاريخ 14 سبتمبر 2014 ميلاديًّا، نشرت مجلَّة ذا أتلانتيك (The Atlantic) الأمريكيَّة، المعنيَّة بمجالات الأدب والثَّقافة والتَّعليم، حوارًا أُجري مع المؤرّخ الرَّاحل، قبيل وفاته في 6 أغسطس 2010م بسبب ضمور في الجهاز العصبي. أشار جَدت في حواره إلى أنَّ فكرة تأسيس دولة موحَّدة تجمع بين الإسرائيليين والفلسطينيين وتساوي بينهم في الحقوق والميزات تتماشى مع توجُّه السّياسيين الإسرائيليين المعلَن عن السَّعي إلى تأسيس دولة واحدة على كامل أراضي فلسطين التَّاريخيَّة، ذات أغلبيَّة عربيَّة. وبرغم أنَّ ذلك النَّموذج للدَّولة هو الأفضل للطَّرفين، فليس من المتوقَّع أن يسفر عن مجتمع آمن ومستقر فور تأسيس تلك الدَّولة ثنائيَّة القوميَّة؛ والسَّبب هو أنَّ تلك الدَّولة ستقوم على أساس ديني يتقيَّد بمعتقدات الطَّائفة اليهوديَّة الأرثوذكسيَّة، ويسيطر عليها جيش تتحكَّم فيه أفكار المجتمعات الدّينيَّة والاستيطانيَّة. وبسؤاله عن خطورة أن يشكّل العرب الأغلبيَّة في تلك الدَّولة على حساب اليهود، أجاب جَدت بأنَّ القانون الدُّولي الَّذي سيحكم تلك الدَّولة سيقضي على أيّ خطورة في هذا الصَّدد، خاصَّة مع عدم وجود سجل تاريخي عن تورُّط الفلسطينيين في جرائم قتل ونهْب واغتصاب في حقّ اليهود؛ بل على العكس، يوجد ما يثبت اضطهاد اليهود للفلسطينيين دون مبرّر.
برغم الانتقادات الواسعة الَّتي تعرَّض له توني جَدت بعد طرحه فكرة حلّ الدَّولة الواحدة ثنائيَّة القوميَّة، فهناك من الباحثين، من داخل إسرائيل نفسها، من أيَّد فكرته ودعا إلى تطبيقها، وكانت الباحثة السّياسيَّة الأمريكيَّة فرجينيا تيلي من أوائل الدَّاعمين لما طرحه جَدت في مقاله المثير للجدل (2003م)، بما أوردته في مقال نشرته في العام ذاته تحت عنوان “The One-State Solution-حلّ الدَّولة الواحدة”. اعتبرت تيلي أنَّ الاستيطان الإسرائيلي للأراضي المخصَّصة للدَّولة العربيَّة المزمع تأسيسها في فلسطين، قضى على أيّ إمكانيَّة لتنفيذ حلّ الدَّولتين، ومن ثمَّ لم يعد هناك حلٌّ سوى دولة تجمع اليهود والفلسطينيين معًا. لا شكَّ في أنَّ تحديات جمَّة تواجه المجتمع الإسرائيلي فيما يتعلَّق بالتَّعايش مع الفلسطينيين في دولة واحدة، والأمر ذاته ينطبق على الفلسطينيين، الَّذين يميلون إلى نظام سياسي ديني يحافظ على الطَّابع الإسلامي والهويَّة العربيَّة. طوَّرت تيلي فكرتها ونشرتها في كتاب يحمل العنوان ذاته بعد عامين، لتعيد فيه إدانة عملية الاستيطان والأيديولوجيَّة والقوى السّياسيَّة الموجّهة لها، مشدّدةً على عدم وجود قوَّة يمكنها إيقاف الاستيطان وتفريق المستوطنات من سكّانها واستبدالهم بالفلسطينيين.
ومن بين مؤيّدي فكرة توني جَدت الباحث جاري سوسمان، المتخصّص في الدّراسات التَّاريخيَّة في جامعة تل أبيب الإسرائيليَّة، حيث نشَر عام 2004م مقالًا تحت عنوان “The Challenge to the Two-State Solution-تحدٍّ يواجه حل الدَّولتين”، انتقد فيه سياسة الفصل العنصري الَّتي تتبعها دولة إسرائيل ضدَّ الفلسطينيين، معتبرًا أنَّ التّبعات السَّلبيَّة لتلك السّياسة ستسفر عن نشأة دولة ثنائيَّة القوميَّة؛ لأنَّ الفصل العنصري مذموم ولا يمكن استمراره. عبَّر عمر البرغوثي، وهو باحث فلسطيني عاش فترة من حياته في الولايات المتَّحدة واستقرَّ في إسرائيل بعد زواجه من إسرائيليَّة عربيَّة الأصل، عن الفكر ذاته في مقال نشره عام 2004م تحت عنوان “Relative Humanity: The Fundamental Obstacle to a One-State Solution in Historic Palestine-الإنسانيَّة النّسبيَّة: العقبة الأساسيَّة أمام تأسيس دولة واحدة في فلسطين التَّاريخيَّة”، حيث اعتبر أنَّ حلَّ الدَّولتين لم يعد قائمًا، وأنَّ الصُّهيونيَّة آخذة في الزَّوال، ولا سبيل لإنقاذها. الحلُّ الوحيد لاستمرار دولة إسرائيل، في رأي البرغوثي، هو تأسيس دولة ديموقراطيَّة علمانيَّة من الأردن إلى البحر المتوسّط، يتساوى فيها المواطنون من النَّاحية الإنسانيَّة، وبالتَّالي في الحقوق.
أثارت فكرة الدَّولة الواحدة إعجاب النَّاشط الأمريكي، فلسطيني الأصل، علي أبو نعمة، وأغرته بإصدار مؤلَّف أيَّد من خلال الفكرة. في كتابه One Country: A Bold Proposal to End the Israeli-Palestinian Impasse-دولة واحدة: عرض جريء لإنهاء المأزق الإسرائيلي-الفلسطيني (2006م)، رأى أبو نعمة أنَّ التَّعايش السَّلمي بين اليهود والعرب ممكنٌ، على اعتبار أنَّ الحال كان كذلك قبل نشأة إسرائيل. غير أنَّ ذلك لم يثنِ الكاتب عن الإشارة إلى أنَّ الفلسطينيين انخرطوا في أعمال اغتيال استهدفت اليهود، وبخاصَّة خلال سنوات الثَّورة الكبرى (1936-1939م). كغيره من الباحثين، ألقى أبو نعمة باللوم على الاستيطان الإسرائيلي في ضياع فرصة تنفيذ حلّ الدَّولتين، معتبرًا أنَّ من العبث أن تدَّعي إسرائيل تأييدها ذلك الحلَّ في قمَّة كامب ديفيد عام 2000م، بينما تنفق المليارات من الدُّولارات في إعداد الطُّرق والمساكن الَّتي ما كان لها أن تتركها للفلسطينيين بلا مقابل. يضيف الكاتب أنَّ إصرار الإسرائيليين على الاحتفاظ بالطَّابع اليهودي حصريًّا لدولتهم، برغم أنَّ فلسطين طالما كانت منفتحة على مختلف الثَّقافات والدّيانات، إزكاءً للقبليَّة العنصريَّة، وهذا يتعارض مع المبادئ الدّيموقراطيَّة والعالميَّة.
تاريخ حلّيّ الدَّولة الواحدة والدَّولتين
يبدأ بيني موريس بسرد تاريخ الصُّهيونيَّة السّياسيَّة، بالتَّذكير بأنَّ بدايتها كان في أوروبَّا الشَّرقيَّة تزامنًا مع اغتيال ألكسندر الثاني نيكولايفيتش رومانوف، قيصر روسيا السَّادس عشر، عام 1881م. ومع نهاية القرن التَّاسع عشر، تحوَّلت أيديولوجيَّة الصُّهيونيَّة السّياسيَّة إلى كيان ينفّذ مخطَّطاتها، هو المنظَّمة الصُّهيونيَّة. تزايَد عدد المؤمنين بالصُّهيونيَّة ومشروعها الخاص بتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين، الأرض الموعودة لبني إسرائيل، إلَّا أنَّ التَّأييد الأكبر لذلك المشروع حُشد في أعقاب الحرب العالميَّة الثَّانية (1939-1945م)، بعد اضطهاد ألمانيا النَّازيَّة لليهود، ممَّا برَّر الهجرة اليهوديَّة إلى فلسطين. كما سبقت الإشارة، فجَّرت الهجرة اليهوديَّة المتزايدة إلى فلسطين انتفاضة شعبيَّة منذ بداية الانتداب البريطاني على فلسطين عام 1920م، لتنشأ حالة من الوعي القومي عمَّت أنحاء البلاد. تطوَّرت الحركة الصُّهيونيَّة تزامنًا مع انتشار الفكر القومي في العالم العربي، بعد سقوط دولة الخلافة الإسلاميَّة وإحلال الهويَّة العربيَّة محلَّ الهويَّة الإسلاميَّة، وصاحَب ذلك اعتناق واسع لأفكار غربيَّة تسرَّبت إلى العقل العربي، مثل الليبراليَّة والدّيموقراطيَّة والاشتراكيَّة والتَّحديث. يعتقد موريس أنَّ الحركة القوميَّة العربيَّة، والحركة القوميَّة العربيَّة الفلسطينيَّة المنبثقة عنها، نشأتا في بيئة يسودها الإسلام، “بموقفه الإقصائي لكلّ غير المؤمنين به، وبمقاومته للتَّغيير”، ويُمارس فيها الاستبداد الدّيني، وتحكمها التَّقاليد القبليَّة.
عدَّلت الحركة الصُّهيونيَّة موقفها من حيازة أراضي فلسطين، من المطالبة بالأرض كاملةً باعتبارها حقًّا متوارثًا لليهود إلى الاكتفاء بجزء من تلك الأراضي لتأسيس وطن قومي، استجابةً للإملاءات السّياسيَّة والدّيموغرافيَّة. أمَّا الحركة القوميَّة العربيَّة، سواءً في العالم العربي أو في فلسطين، فقد أصرَّت منذ تداعي الدَّولة العثمانيَّة وإيذانها بالسُّقوط على حيازة فلسطين كاملةً. يوضح المؤرّخ الإسرائيلي أنَّ فلسطين لم تكن تحكمها إدارة موحَّدة منفصلة قبل الانتداب البريطاني، مشيرًا إلى أنَّ المنطقة من رام الله ويافا وحتَّى غزَّة وبئر سبع كانت تُحكم مباشرةً من إسطنبول، بسبب الطَّبيعة الدّينيَّة والسّياسيَّة الخاصَّة لتلك المنطقة، على اعتبار أنَّها تضمُّ القدس والمسجد الأقصى المبارك. أمَّا المنطقة الواقعة جنوب غزَّة وبئر سبع وحتَّى خليج العقبة، فكانت تُحكم من دمشق. في حين كانت المنطقة الشَّماليَّة مقسَّمة إلى ثلاث مناطق إداريَّة، وكانت تُحكم من دمشق حتَّى عام 1880م، ثمَّ من بيروت حتَّى عام 1918م، أي حتَّى سقوط الشَّام في أيدي الاستعمار البريطاني نتيجة حملة إنهاء الوجود العثماني في المنطقة خلال ما عُرف بـ “الثَّورة العربيَّة الكبرى”. من هنا، يزعم موريس أنَّ “المنطقة الَّتي جرت تسميتها ‘فلسطين’ لم تكن معرَّفة إداريًّا أو سياسيًّا تحت الحُكم العثماني، وسكَّانها من المسلمين والمسيحيين واليهود نادرًا ما عرَّفوا أنفسهم بأنَّهم ‘‘فلسطينيون‘‘”، مضيفًا أنَّ المنطقة ما بين نهر الأردن والبحر المتوسّط اصطُلح على تسميتها ‘‘الأرض المقدَّسة’’ (ص31-32). يضيف موريس أنَّ اليهود عبر التَّاريخ لم ينظروا إلى فلسطين التَّاريخيَّة، أو إسرائيل، باعتبارها كيانًا سياسيًّا وفقط، إنَّما كذلك باعتبارها الأرض المقدَّسة، ليبدأ السَّعي إلى استعادة السَّيطرة الإسرائيليَّة وفرْض السّيادة اليهوديَّة على تلك المنطقة بجديَّة مع نشأة حركة الصُّهيونيَّة السّياسيَّة أواخر القرن التَّاسع عشر للميلاد.
بدأت فئة من النَّخبة العربيَّة من أهل الأرض المقدَّسة تطالب بفرض الهويَّة الفلسطينيَّة على الأرض بتأسيس دولة فلسطينيَّة مستقلَّة، بعد انفصال تلك المنطقة عن لبنان وسوريا، الخاضعتين للانتداب الفرنسي منذ عام 1920م و1923م على التَّوالي، واحتلال بريطانيا لفلسطين وشرق الأردن عامي 1917 و1918م. بدافع من الشُّعور القومي العروبي، كما يصوّر موريس، دعا بعض السّياسيين من عرب فلسطين إلى تأسيس دولة قوميَّة عربيَّة تنفي أيّ أحقيَّة يهوديَّة في تلك الأرض. على الصَّعيد الآخر، رأت الحركة الصُّهيونيَّة، منذ السَّيطرة البريطانيَّة على فلسطين وشرق الأردن عامي 1917 و1918م على التَّوالي، أن تلك الأرض الَّتي تشمل غرب نهر الأردن وتمتدُّ 20 ميلًا إلى شرق وادي عربة، وكذلك الأرض الواقعة في محيط نهر الليطاني، أرضٌ يهوديَّة ستتحوَّل مستقبلًا إلى دولة إسرائيل. غير أنَّ الظُّروف السّياسيَّة الَّتي فرضتها السَّيطرة العثمانيَّة على تلك الأرض أجبرت الحركة الصُّهيونيَّة على الاكتفاء مؤقَّتًا بتأسيس وطن، أو Heimstätte، أي مسكن، يهودي في الأرض المقدَّسة. وكان تيودور هرتزل، زعيم الصُّهيونيَّة السّياسيَّة ونبيُّها، أوَّل من استخدم مصطلح Heimstätte في المؤتمر الصُّهيوني الأوَّل في مدينة بازل السّويسريَّة عام 1897م، في الإشارة إلى الوطن القومي اليهودي في فلسطين، تمهيدًا إلى فرْض السَّيطرة اليهوديَّة الكاملة على فلسطين التَّاريخيَّة. وكما يضيف موريس، “غير أنَّ هدف الحركة الصُّهيونيَّة منذ البداية كان، بلا شكّ، تحويل كامل فلسطين إلى دولة يهوديَّة” (ص35).
تنقل أنيتا شابيرا في كتابها Land and Power-الأرض والقوَّة (1992م) عن المؤرّخ شيمون دوبناو ما نشره عن محتوى رسالة تعود إلى أكتوبر 1882م، جاءته من أخيه فلاديمير دوبناو، أحد أوائل المستوطنين اليهود لأرض فلسطين، يقول فيها “الهدف النّهائي…هو حيازة أرض إسرائيل، بمرور الزَّمن، واستعادة ما حُرم منه اليهود خلال ألفي عام من استقلال سياسي…سينتفض اليهود، وفي أيديهم السّلاح (إذا اقتضت الحاجة) لإعلان أنَّهم سادة وطنهم العتيق” (ص35). لم يكن العرب، من وجه نظر المستوطنين اليهود معتنقي الصُّهيونيَّة السّياسيَّة، أكثر من متطفّلين استعمروا الأرض المقدَّسة في القرن السَّابع الميلادي، أي مع الفتح العمري (عام 16ه-637م)، واستولوا عليها، ولو من البيزنطيين وليس اليهود، وفرضوا عليها الهويَّة العربيَّة الإسلاميَّة. ومع تسلُّل الفكر القومي إلى منطقة الشَّرق الأوسط، وما تبع ذلك من تفكُّك للدَّولة العثمانيَّة الجامعة لمسلمي العالم تحت لواء واحد، أواخر القرن التَّاسع عشر، تعالت أصواتٌ تنادي بتغليب القوميَّة العربيَّة على الهويَّة العثمانيَّة، وقد كان المسيحي اللبناني نجيب عازوري من أوائل المنادين باستقلال الشَّام عن الدَّولة العثمانيَّة، وهو يعتبر من أقطاب الفكر القومي العروبي. تجدر الإشارة إلى أنَّ عازوري تقلَّد منصب نائب حاكم القُدس ما بين عاميّ 1898 و1904م، ليكرّس حياته بعد ترْك منصبه من أجل التَّرويج للفكر القومي، ولعلَّ من أهمّ ما كتبه مقال تحت عنوان ” Le réveil de la nation arabe-صحوة الأمَّة العربيَّة”، تنبَّأ فيه بانتفاضة العرب ضدَّ الحُكم العثماني، وبتصادم الأمَّة العربيَّة مع اليهود خلال سعيهم إلى تأسيس دولة يهوديَّة في العالم العربي.
لم يكن المستوطنون اليهود الأوائل يرون أنفسهم أطرافًا في تصارُع القوميَّات أو منافسين على الاستحواذ على الأرض المقدَّسة، إنَّما اعتبروا أنفسهم أصحاب حقّ في أرضهم التَّاريخيَّة، ومواطنين أصليين، وليس خصومًا قوميين. يعترف بيني موريس بأنَّ الاحتلال البريطاني لفلسطين وشرق الأردن عامي 1917 و1918م أنعش الطُّموح الصُّهيوني في السَّيطرة على كامل أرض فلسطين، وإن كان ما نصَّ عليه قرار وزير الخارجيَّة البريطاني آرثر جيمس بلفور في 2 نوفمبر 1917م، والمعروف بـ “وعد بلفور”، هو تأييد تأسيس National Home، أي وطن قومي، لليهود في فلسطين، وليس فرْض السَّيطرة اليهوديَّة على كامل الأراضي. يُلاحظ أنَّ التَّسمية الَّتي اختارها بلفور للكيان الاستيطاني اليهودي في فلسطين، National Home، أقوى تأثيرًا من التَّسمية الَّتي منحها هرتزل للكيان ذاته قبل 20 عامًا من تاريخه، وكانت Heimstätte، أي مجرَّد مسكن. غير أنَّ حاييم وايزمان، ممثّلًا الصُّهيونيَّة العالميَّة، تقدَّم إلى المنتصرين في الحرب العالميَّة الأولى في مؤتمر فرساي عام 1919م بخارطة لفلسطين الكبرى، تشمل كامل أرض فلسطين التَّاريخيَّة غرب نهر الأردن، مع شريط الأراضي شرقي النَّهر حتَّى مسافة 20 ميلًا، وصولًا إلى الخطّ الحديدي الحجازي جنوبًا، وحتَّى جنوب لبنان وبحيرة قرعون شمالًا. وكانت تلك الخارطة من تصميم يهودي من مستوطني فلسطين، يُدعى شموئيل تاركوفسكي، ليطوّرها آرون آرونسون، عالم النَّبات اليهودي روماني الأصل، ثم تعتمدها الحركة الصُّهيونيَّة بعد إزالة المنطقة الشَّرقيَّة الممتدَّة إلى الخطّ الحجازي.
استخدم دافيد بن غوريون، السّياسي الشَّاب الصَّاعد نجمه في الحركة الصُّهيونيَّة وقتها، بمشاركة المؤرّخ والزَّعيم العمَّالي إسحق بن تسفي، الآلة الدّعائيَّة في التَّرويج لصحَّة تلك الخارطة، المفترض أنَّها مستمدَّة من حدود مملكة إسرائيل المذكورة في العهد القديم، من خلال نشْر تلك الخارطة في كتاب أصدره عام 1918م. تمتدُّ دولة إسرائيل، وفق خارطة بن غوريون وبن تسفي، غربًا من البحر المتوسَّط عند رفح إلى نهر الليطاني؛ وشمالًا من الليطاني بين صور وصيدا حتَّى نهر العوجا؛ وجنوبًا من الخط القطري الممتد بين رفح وخليج العقبة، ومن خليج العقبة إلى معان في الأردن؛ وشرقًا من الصَّحراء السُّوريَّة وحتَّى خليج العقبة. أمُل كلٌّ من وايزمان وبن غوريون أن يصل الاستيطان الإسرائيلي، في ظلّ الظروف المتغيّرة في أعقاب الحرب العالميَّة الأولى، إلى شرق نهر الأردن بالكامل، أو على الأقل إلى منطقة المرتفعات شرقي النّهر. غير أنَّ وزير المستعمرات البريطانيَّة، ونستون تشرشل، وضع تلك المنطقة تحت سُلطة عبد الله بن الحسين الهاشمي في مارس 1921م، “مؤقَّتًا على الأقل”، كمت يعلّق موريس (ص41). من ثمَّ، لم يعد الاستيطان مسموحًا به في إمارة شرق الأردن، حتَّى أنَّ المندوب السَّامي البريطاني في فلسطين كان يحكم فلسطين الواقعة غربي نهر الأردن من القُدس. وينقل المؤرّخ الإسرائيلي عن حاييم وايزمان تأسُّفه على حرمان إسرائيل من الوصول إلى نهر الليطاني، ومن وادي الأردن واليرموك، وكذلك من المناطق الخصبة الواقعة شرقي بحيرة طبرية.
(المصدر: رسالة بوست)