تاريخ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بين المصادر الإسلاميَّة والفرضيات الإسرائيليَّة 5 من 5
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى: “الحرم الثَّالث” أم ورقة ضغْط سياسيَّة؟
يكرّر المؤرّخ السّياسي اليهودي ادّعاءه أنَّ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى طالما كان وسيلة لاكتساب الشَّرعيَّة السّياسيَّة، كما فعل ياسر عرفات أكثر من مرَّة بعد تولّيه رئاسة السُّلطة الفلسطينيَّة. برغم أنَّ تأسيس السُّلطة الفلسطينيَّة عام 1994م كان بموجب اتّفاقيَّة أوسلو للسَّلام مع إسرائيل في العام السَّابق، من المفترَض أن يُصدّق العامَّة أنَّ تصرُّفات رأس السُّلطة تتعارض مع مصالح الاحتلال. على كلّ حال، يزعم فريدمان أنَّ عرفات استغلّ واقعة افتتاح بنيامين نتنياهو، خلاله فترته الأولى لرئاسة الحكومة الإسرائيليَّة (1996-1999م)، نفق الحشمونيين، الَّذي يقع على بُعد 100 متر من الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، في إثارة العرب ضدَّ الإسرائيليين بزعمه إنَّ تلك الخطوة كان هدفها السَّيطرة على المسجد؛ لتحدث مواجهات أسفرت على مقتل 70 شخصًا، 55 منهم من العرب. في رأي فريدمان، فقط أراد عرفات “تعزيز شرعيَّته الدّينيَّة بوصفه ‘‘حامي الحرم’’، وما كان منه إلَّا أن استخدم الاستراتيجيَّة ذاتها بعدها بأربع سنوات، في قمَّة كامب ديفيد 2” (ص396). يُحمَّل عرفات المسؤوليَّة عن فشل المفاوضات بين الرَّئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك، ليس فقط لإصراره على عودة اللاجئين الفلسطينيين، إنَّما لإنكاره وجود هيكل يهودي بُني في الأزمنة القديمة فوق هضبة موريا، ما يُشار إليها باسم جبل الهيكل. هكذا، حوَّل عرفات الصّراع القومي بين طرفي النّزاع إلى صراع ديني، وشجَّع ذلك حركتي حماس والجهاد الإسلامي المسلَّحتين على الانخراط في أعمال مقاوَمة ضدَّ الاحتلال، وبخاصَّة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى في سبتمبر 2000م، إثر اقتحام أرئيل شارون، زعيم حزب الليكود ورئيس الوزراء الإسرائيلي لاحقًا، الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى.
ليس ياسر عرفات وحده مَن أراد استغلال قضيَّة الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لاكتساب شرعيَّة سياسيَّة، كما يدَّعي المؤرّخ اليهود، فقد فعَل مثله عبد الله الأوَّل بن الحسين، مؤسّس المملكة الأردنيَّة الهاشميَّة، والحسين بن طلال، حفيده وخليفته، ومن بعدها عبد الله الثَّاني بن الحسين بن طلال؛ وكذلك فعَل زعماء الحركة الإسلاميَّة من عرب إسرائيل. منذ أن خضعت الضَّفَّة الغربيَّة لنهر الأردن وما تضمُّه من مقدَّسات دينيَّة، لعلَّ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى أهمُّها، لحُكم عبد الله الأوَّل، استحدث الأخير منصب “حامي الحرم” ليحلَّ محلّ المجلس الإسلامي الأعلى، الَّذي كان يترأَّسه الحاجُّ أمين الحسيني، ألدُّ خصومه، وكان يحرص على زيارة الأقصى بانتظام والصَّلاة فيه، ليس فقط للتَّأكيد السّيادة الأردنيَّة على المسجد، إنَّما لاكتساب شرعيَّة دينيَّة. يعتقد فريدمان أنَّ مقتل عبد الله الأوَّل داخل الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى عام 1951م لم يكن فقط لمعاقبته على “تواطؤه المزعوم مع إسرائيل”، إنَّما كذلك لمحو تلك الشَّرعيَّة الدّينيَّة الَّتي نالها بوصفه خادم الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى (ص397). حذا الحسين بن طلال حذو جدّه بعد اعتلائه عرش الأردن عام 1953م، بسعيه وراء الشَّرعيَّة الدّينيَّة نتيجة خضوع الْمَسْجِد الْأَقْصَى للسّيادة الأردنيَّة، حتَّى بعد الاحتلال الإسرائيلي للضَّفَّة الغربيَّة خلال حرب الأيَّام السّتَّة عام 1967م، وبعد تخلّيه عن المطالَبة بحقّ الأردن في السّيادة على الضَّفَّة الغربيَّة في خضمّ الانتفاضة الفلسطينيَّة الأولى عام 1988م. تبرَّع الحسين بن طلال بقيمة 8 ملايين دولار أمريكي عام 1992م لترميم مُصلَّى قبَّة الصَّخرة، وقد قدَّر رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحق رابين، على عكس موقفه من ياسر عرفات، تبجيل الحسين للمسجد الأقصى؛ فعزَّز رابين من شرعيَّة الأخير الدّينيَّة بفرض الوصاية الهاشميَّة على المقدَّسات الدّينيَّة في القُدس، بموجب اتّفاقيَّة وادي عربة المبرَمة في 26 أكتوبر 1994م بين الأردن والكيان الصُّهيوني. وأكمل عبد الله الثَّاني بن الحسين مسيرة أبيه، بعد تولّيه الحُكم عام 1999م، من خلال التَّبرُّع بالأموال لصالح ترميم مُصلَّيات الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وبتوزيع المصاحف.
لا يُستثنى زعماء الحركات الإسلاميَّة من عرب إسرائيل من استغلال الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى في تحقيق زعامة دينيَّة من خلال تأييد المقاومة في الضَّفَّة الغربيَّة وغزَّة، وفق ما يزعمه فريدمان، متجاهلًا إخلاص علماء الإسلام من أهل بيت المقدس في الدّفاع عن القبلة الأولى. انقسمت الحركة الإسلاميَّة، وهي حركة دينيَّة سياسيَّة أسَّسها الشَّيخ عبد الله نمر درويش عام 1971م، إلى جناحين، الجناح الشَّمالي والجناح الجنوبي. وبينما يرفض الجناح الشَّمالي برئاسة الشَّيخ رائد صلاح المشاركة في أي أنشطة سياسيَّة لدولة إسرائيل، بما في ذلك الانتخابات النّيابيَّة، يشارك الجناح الجنوبي برئاسة الشَّيخ حمَّاد أبو دعابس في الحياة النّيابيَّة الإسرائيليَّة، برغم حظْر الحركة في نوفمبر من عام 2015م. تعرَّض الشَّيخ رائد صلاح للكثير من المِحَن خلال مسيرته في الدَّعوة الإسلاميَّة ومقاوَمة الاحتلال؛ حيث اعتُقل العديد من المرَّات بتهم مختلفة، من بينها الاعتداء على قوَّات الاحتلال الإسرائيلي وتعطيل عملهم، وهو يقضي حاليًا فترة عقوبة تمتدُّ 17 شهرًا، بدءً من 16 أغسطس 2020م، بتهمة التَّحريض على الإرهاب.
يختتم فريدمان دراسته التَّاريخيَّة بالتَّأكيد على أنَّ تاريخ “جبل الهيكل/الحرم الشَّريف”، كما يشير إلى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، تاريخ من النّزاع المرير، وأحد القضايا المحوريَّة في الصّراع العربي-الإسرائيلي (ص399). يمثّل هذا الموقع مكان هيكلي أورشليم الأوَّل والثَّاني، بينما يمثّل للمسلمين القبلة الأولى ومسرى النَّبيّ مُحمَّد (ﷺ) إلى السَّماوات العلا ليلة الإسراء والمعراج وثالث المساجد الَّتي يُشدُّ إليها الرّحال، مصداقًا لقوله (ﷺ). غير أنَّ المسلمين وحدهم، في رأي المؤرّخ اليهودي، هم مَن استغلُّوا الأقصى على مرّ العصور لتحقيق أهداف سياسيَّة، على رأسها اكتساب الزَّعامة الدّينيَّة، مدَّعيًا أنَّ الذّكرى العالقة في أذهان المسلمين عن فترة الاحتلال الصَّليبي للقُدس وتحويل مُصلَّى قبَّة الصَّخرة إلى كنيسة تجعل من ذلك الموقع “قضيَّة جاهزة للتَّعبئة السّياسيَّة” (ص399). استغلَّ كلٌّ من أمين الحسيني وياسر عرفات مسألة “التَّهديد اليهودي المزعوم بفرض السَّيطرة على الْمَسْجِد الْأَقْصَى ” لتعزيز شرعيَّتهما لدى الشَّعب الفلسطيني، وسعى كلٌّ منهما إلى حشْد العالم الإسلامي لدعم تلك الشَّرعيَّة؛ وكذلك فعَل حُكَّام الأردن وزعماء الحركات الإسلاميَّة من عرب إسرائيل (ص399). وبرغم أنَّ إدارة المقدَّسات الإسلاميَّة في القُدس بقيت في أيدي المسلمين، فالأوضاع الجيوسياسيَّة لصالح اليهود فيما يتعلَّق بحقّ الوصول إلى موقع الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، منذ الانتداب البريطاني عام 1920م، وبخاصَّة منذ احتلال الضَّفَّة الغربيَّة عام 1967م. ويُعنى المجتمع الإسرائيلي اليوم أكثر شيء بصحَّة الصَّلاة فيما يرونه موقع هيكلي أورشليم، وسط رفْض غالبيَّة حاخامات الطَّائفة الأرثوذكسيَّة الأمر بحجَّة عدم التَّثبُّت من كونه موقع الهيكلين. غير أنَّ السّياسيين يتجاهلون الأمر، ويدعمون الصَّلاة في “جبل الهيكل”، ويخطّطون لتأسيس الهيكل الثَّالث في ذلك الموقع. وفي النّهاية، يتساءل روبرت فريدمان عمَّا إذا كان هناك حلٌّ للنّزاع المرير على السَّيطرة على “جبل الهيكل/الحرم الشَّريف”، غير المعادلة الصّفريَّة، بحيث يحظى طرفٌ، بالطَّبع يقصد اليهود، دون الآخر بتلك السّيطرة، مقترحًا إعادة النَّظر في خطَّة دافيد بن غوريون لعام 1937م لتحويل البلدة القديمة في القُدس إلى متحف ديني-روحاني-ثقافي لكلّ الأديان، يخضع لحماية دوليَّة.
5.موانع شرعيَّة تعرقل بناء الهيكل الثَّالث!
أثار المؤرّخ السّياسي اليهودي روبرت فريدمان في مقاله آنف الذّكر (2011م) مسألة معارضة غالبيَّة الحاخامات الأرثوذكس دخول جبل الهيكل، أي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وإن كانت الاقتحامات اليهوديَّة للمسجد مستمرَّة، ووصل الأمر إلى عقْد بعض الحاخامات حلقات دينيَّة داخل المسجد، وبخاصَّة بالقرب من مُصلَّى قبَّة الصَّخرة. ومن بين الباحثين الَّذين سبقوا فريدمان في طرْح تلك المسألة موردخاي انباري، أستاذ العلوم الدّينيَّة في جامعة كارولينا الشَّماليَّة الأمريكيَّة، في مقاله ” Religious Zionism and the Temple Mount Dilemma—Key Trends-الصُّهيونيَّة الدّينيَّة ومعضلة جبل الهيكل—اتّجاهات رئيسيَّة” (2007م)، الَّذي يناول فيه الجدال القائم داخل الدَّوائر الصُّهيونيَّة الدّينيَّة بشأن دخول اليهود إلى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، باعتباره جبل الهيكل في عقيدتهم. يركّز المقال على موقف مركز حاراف الدّيني، واسمه الرَّسمي מרכז הרב -הישיבה המרכזית העולמית، أي المركز العالمي للمدارس الدّينيَّة، وهو أحد أهمّ المراكز الصُّهيونيَّة الدّينيَّة لتعليم الهلاخاه (הַהֲלָכָה)، أو الشَّريعة اليهوديَّة، في وقتنا هذا، الرَّافض لصلاة اليهود في الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى في الوقت الرَّاهن. من المثير للانتباه أنَّ الحاخاميَّة الكبرى في إسرائيل (הרבנות הראשית לישראל)، وهي السُّلطة التَّشريعيَّة العليا في دولة الاحتلال، تعارِض بالإجماع الصَّلاة اليهوديَّة في الأقصى، برغم أنَّ بعض كبار أعضائها قد أباحوا تلك الصَّلاة. ومن الملفت كذلك أنَّ مجلس ييشا الحاخامي (מועצת יש”ע)، الَّذي يضمُّ حاخامات من مستوطني الضَّفَّة الغربيَّة وقطاع غزَّة، قد أباح دخول اليهود إلى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، ولكن بقيود دينيَّة تفرضها الشَّريعة اليهوديَّة. ويوضح هذا المقال الضَّعف المتزايد للحظر الدّيني على الدخول إلى الأقصى، في مقابل التَّأييد المتزايد للأمر في الأوساط الدّينيَّة.
يبدأ انباري الحديث بالإشارة إلى المكانة العظيمة الَّتي يتمتَّع بها الْمَسْجِد الْأَقْصَى /جبل الهيكل، باعتباره القبلة الأولى وثالث المساجد الَّتي يُشدُّ إليها الرّحال عند المسلمين، وأقدس بُقعة عند اليهود، وهو كذلك أهم بؤرة من بؤر التَّوتُّر في الصّراع العربي-الإسرائيلي. كان العام 1996م نقطة فارقة في تاريخ الصُّهيونيَّة الدّينيَّة في العالم، حيث قضى مجلس ييشا الحاخامي بإمكانيَّة دخول اليهود إلى جبل الهيكل، بل وشجَّع على ذلك، ولكن مع تحديد أماكن معيَّنة لدخول اليهود، الَّذي ينبغي أن يسبق تطهُّر شعائري خاصّ؛ وقد أوصى المجلس كذلك بأن يصطحب كلُّ حاخام جماعته من المصلّين في رحلتهم إلى جبل الهيكل لإرشادهم لكيفيَّة التَّصرُّف وفق أحكام الشَّريعة اليهوديَّة. منذ عام 2003م، عند إعادة إتاحة دخول اليهود إلى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بعد 3 سنوات من تعذُّر دخولهم بسبب انتفاضة الأقصى المندلعة في سبتمبر 2000م، بدأ الحاخامات في تنفيذ ما أوصى به مجلس ييشا، باصطحاب المصلّين اليهود في اقتحاماتهم الَّتي باتت يوميَّة. ويقدّر انباري عدد المقتحمين اليهود عام 2007م بحوالي 5000 يهودي شهريًّا، لكنَّ هذا العدد تضاعَف في السَّنوات التَّالية.
أمَّا عن موقف الحاخاميَّة الكبرى في دولة الاحتلال من الدُّخول اليهودي إلى ما يُسمَّى جبل الهيكل، فهو الإدانة، على اعتبار أنَّ في ذلك “تجاوزًا دينيًّا كبيرًا”، حيث أنَّ اليهود غير طاهرين لدخول جبل الهيكل، وفق حُكم الشَّريعة اليهوديَّة، بسبب تعاملهم مع الموتى أو مع أشخاص احتكُّوا بموتى؛ ويتطلَّب التَّطهُّر الاغتسال بما يُطلق عليه “ماء الخطيئة”، وهو عبارة عن ماء عذب مخلوط برماد بقرة حمراء، وكانت تلك عادة بني إسرائيل في زمن الهيكل الثَّاني (536 ق.م.-70 ميلاديًّا)، كما يوضح انباري (ص30). غير أنَّ البقر الأحمر لم يعد متاحًا منذ دمار الهيكل الثَّاني (يشير الباحث إلى توقيت إعداد مقاله عام 2007م)، علاوة على عدم معرفة الأبعاد الدَّقيقة لقُدس الأقداس في الهيكل، والمعروف بأنَّه موقع “الوجود الإلهي”، أو “السَّكينة” (שְׁכִינָה). جدير بالذّكر أنَّ موقع Israel 365 News، المتخصّص في رصْد الأخبار المتعلّقة بالنُّبوءات الكتابيَّة، قد نشر في 5 سبتمبر 2018، مقالًا عنوانه “ميلاد بقرة حمراء يمهّد لتجدُّد خدمة الهيكل”، أُعلن فيه العثور على بقرة حمراء خالصة، مضيفًا أنَّها تخضع للفحص الدَّقيق، خشية اكتشاف عيب يتناقض مع المواصفات التَّوراتيَّة، برغم وفائها عند ميلادها بتلك المواصفات.
وفيما يلي، استعراض للاتّجاهات الرَّئيسيَّة لحاخامات الصُّهيونيَّة الدّينيَّة بشأن جبل الهيكل، مع الإشارة إلى موقف مركز حاراف الدّيني، والحاخاميَّة الكبرى في إسرائيل المعارض لصلاة اليهود في تلك البقعة قبل التَّطهر اللازم، في مقابل موقف مجلس ييشا الحاخامي المُبيح لتلك الصَّلاة ولكن وفق القيود الشرعيَّة اليهوديَّة الَّتي تفرضها الهلاخاه.
موقف مركز حاراف الدّيني
يفرض منهج الصُّهيونيَّة الدّينيَّة المسياني، أي المتعلّق بزمن ظهور مخلّص بني إسرائيل (المسيَّا)، إعادة بناء هيكل أورشليم، ويعتبر ذلك هدفًا صهيونيًّا أساسيًّا. ونشأ منهج الصُّهيونيَّة الدّينيَّة على يد الحاخام اليهودي الأرثوذكسي أبراهام كوك، وهو من أهم مفكري الصهيونيَّة وأوَّل حاخام أكبر لليهود الأشكناز في فلسطين. يعبّر مصطلح الصُّهيونيَّة الدّينيَّة عن كافَّة التَّيَّارات الدّينيَّة اليهوديَّة الَّتي تستند إلى العهد القديم في ادّعاء أحقيَّة اليهود في الأرض المقدَّسة، وتشترط مجيء المخلّص من أجل تأسيس دولة إسرائيل. اعتقد كوك أنَّ خلاص بني إسرائيل يكمن في الإعداد لزمن ظهور مخلّصهم، ويبدأ ذلك من خلال إحياء الهويَّة اليهوديَّة، الَّذي يتطلَّب تأسيس مملكة دينيَّة وإعادة إقامة الشَّعائر فوق هضبة موريا، موقع الْمَسْجِد الْأَقْصَى /جبل الهيكل. ولخدمة ذلك الهدف، أسَّس كوك معهد كهنة التَّوراة الدّيني عام 1921م، وهو معهد للتَّعليم الدّيني العالي تخصَّص في تعليم ضوابط العبادة في الهيكل والشَّرائع المنظّمة لشؤون الدَّولة. أرسى الحاخام أبراهام كوك بذلك القاعدة الَّتي تأسَّس عليه التَّعليم اليهودي الممهد لزمن ظهور المخلّص، وهي القاعدة الَّتي استند إليها مركز حاراف لاحقًا بعد أن أصبح المعهد الدّيني الأهمّ، بقيادة الحاخام تسفي يهودا كوك، نجل أبراهام كوك. لم يختلف موقف تسفي يهودا كوك عن موقفه أبيه الرَّافض لدخول اليهود إلى هضبة موريا، ورأى أنَّ جبل الهيكل خارج نطاق سيطرة اليهود، حتَّى بعد احتلال الضَّفَّة الغربيَّة خلال حرب الأيَّام السّتَّة عام 1967م، وخضوع البلدة القديمة، حيث يقع جبل الهيكل، للسَّيطرة اليهوديَّة. لذلك، سارَع تسفي يهودا كوك بالتَّوقيع على البيان الَّذي أصدرته الحاخاميَّة الكبرى لمنْع اليهود من الدُّخول إلى جبل الهيكل، بل وهاجَم شلومو جورين، الحاخام الأكبر لجيش الدّفاع الإسرائيلي، ولاحقًا الحاخام الأكبر لدولة إسرائيل، بسبب تأييده الصَّلاة على جبل الهيكل.
موقف الحاخاميَّة الكبرى من قضيَّة جبل الهيكل
بعد أن أصبحت الضَّفَّة الغربيَّة ضمن الغنائم الَّتي حصدها جيش الدّفاع الإسرائيلي مع انتصاره الكاسح في حرب الأيَّام السّتَّة عام 1967م، واصلت الحاخاميَّة الكبرى في دولة الاحتلال اتّباع “تقليدها السَّلبي” في التَّعامل مع مسألة صلاة اليهود في جبل الهيكل، بأن أمرت بتقيُّد اليهود بالصَّلاة عند الحائط الغربي (ص36). بعد ساعات من سقوط جبل الهيكل تحت السَّيطرة الإسرائيليَّة في 8 يونيو 1967م، بثَّت الإذاعة الرَّسميَّة تحذيرًا من مجلس الحاخاميَّة الكبرى للمواطنين بعد دخول ذلك الموقع، برغم ترحيب بعض الحاخامات بالأمر، ولكن يبدو أنَّ مجلس الحاخاميَّة فضَّل تفادي الصّدام مع مسلمي بيت المقدس الَّذي قد يتحوَّل إلى مواجهة واسعة النّطاق. أصرَّ مجلس الحاخاميَّة الكبرى على رفْض دخول جبل الهيكل، بل واقترح بعض أعضائه وضْع لافتات تحذيريَّة لإثناء اليهود عن الدُّخول. ظلَّ موقف المجلس متعنّتًا، حتَّى تقلَّد شلومو جورين، وكان الحاخام الأكبر لجيش الدّفاع الإسرائيلي، منصب الحاخام الأكبر لدولة الاحتلال عام 1972م. وقبل وصوله إلى ذلك المنصب، قدَّم جورين مخطَّطًا لجبل الهيكل يحدّد المناطق المحظور على اليهود دخولها، حيث أنَّ مساحة جبل الهيكل اليوم تفوق الأبعاد المعروفة للهيكلين الأوَّل والثَّاني. ولمَّا أيقن الحاخام الأشكنازي أنَّ سعيه إلى إنهاء الوجود الإسلامي في الموقع لن يثمر، وأنَّ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى سيبقى بكافَّة مصلَّياته، أحال جورين إلى ليفي أشكول، رئيس الوزراء (1963-1969م)، مذكّرة سريَّة يتقرح فيها إغلاق الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أمام اليهود والأغيار، أي المسلمين؛ وقوبل ذلك الاقتراح بالرَّفض.
كان على رأس أولويَّات شلومو جورين عند مباشرته مهامَّ منصب الحاخام الأكبر السَّعي إلى كسْر الجمود في موقف مجلس الحاخاميَّة الكبرى تجاه الصَّلاة في جبل الهيكل، ولكن لم تؤتِ جهوده ثمارها، وكذلك لم تنجح محاولاته لإقناع مناحيم بيجين، رئيس الوزراء الإسرائيلي (1977-1983م)، بتعديل موقف الحكومة المعارض تجاه تلك المسألة. ترك جورين منصبه دون أن يحقّق نتائج إيجابيَّة في هذا الصَّدد، ولكنَّه نجح في استمالة خليفته على منصب الحاخام الأكبر، موردخاي الياهو، ليتبنَّى موقفه. اتَّبع الياهو منهجًا شرعيًّا حديثًا وخلَّاقًا من خلال اقتراح تأسيس كنيس يهودي على جبل الهيكل في المنطقة المصرَّح بدخولها، على أن تُبني جدرانه من الزُّجاج، بحيث يرى المصلُّون البقعة الَّتي يحتلُّها مُصلَّى قبَّة الصَّخرة أثناء الصَّلاة، وأن يكون الدُّخول إليه من مدخل الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وألَّا يؤدّي مخرَجه إلى المسجد، لتجنُّب دخول اليهود إلى الأماكن المحرَّمة عليهم، وأن يعلو في البناء على الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لإظهار تفوُّقه على بالمسجد. غير أنَّ اقتراح الياهو لم يجد قبولًا من مجلس الحاخاميَّة، الَّذي لم يتغيَّر حتَّى يومنا هذا. وتجدر الإشارة إلى أنَّ شلومو جورين وموردخاي الياهو لم يصرّحا بتأييدهما دخول اليهود إلى جبل الهيكل بشروط شرعيَّة مقيّدة تفرضها الهلاخاه، وإن كان موقفهما معروفًا للعامَّة. جدَّد مجلس الحاخاميَّة الكبرى في أكتوبر من عام 2015م تحذيره لليهود من التَّوجُّه إلى جبل الهيكل، تحت زعْم أنَّ موقع هيكلي أورشليم غير معروف، وأنَّ في دخول اليهود إلى ذلك الموقع تدنيس له.
مبرر إباحة مجلس ييشا الحاخامي دخول جبل الهيكل
يفترض انباري أنَّ إبرام اتّفاقيَّة أوسلو بين إسرائيل والفلسطينيين عام 1993م، وتوصُّل الطَّرفين إلى حلّ وسط فيما يتعلَّق بالسّيادة على أرض فلسطين التَّاريخيَّة، واعتراف دولة الاحتلال بالسُّلطة الفلسطينيَّة، أدَّى إلى إعادة النَّظر في الكثير من المسلَّمات، وعلى رأسها رؤية دولة إسرائيل الكبرى (ארץ ישראל השלמה). يتَّبع مركز حاراف الدّيني عقيدة الحتميَّة القدريَّة الَّتي تقود دولة إسرائيل وشعبها إلى الخلاص الكامل من خلال إحياء الشَّعائر الدّينيَّة الكتابيَّة، لكنَّ الاتّجاه العام في الدَّولة يزداد ميلًا إلى العلمانيَّة، الأمر الَّذي برَّر “التَّنازلات المؤلمة” عن أجزاء من أرض إسرائيل الكبرى في سبيل إبرام اتّفاقيَّة سلام (ص39). نتيجةً لذلك، سادت الأوساط الدّينيَّة حالة من القلق بشأن مصير قضيَّة جبل الهيكل، خشية التَّخلّي عنها ضمن إحدى الصَّفقات السّياسيَّة؛ لدرجة أنَّ الحاخام شاول اسرائيلي، رئيس مركز حاراف الدّيني، أوصى عام 1995م بعدم الدُّعاء للدَّولة بالرَّفاه بما يشمل زعماءها السّياسيين. وصل الأمر ببعض الحاخامات أن ادَّعوا أنَّ انسحاب إسرائيل من بعض أجزاء فلسطين التَّاريخيَّة، أو يهودا والسَّامرة وفق المسمَّى الكتابي، هو عقاب إلهي على حظْر دخول جبل الهيكل.
أدَّى الخوف من مزيد من التَّنازلات السّياسيَّة إلى اتّخاذ تدابير عمليَّة لإعاقة أيّ خطوة مستقبليَّة تهدّد قضيَّة جبل الهيكل. ففي عام 1996م، في خضمّ المعارَضة الدّينيَّة اليهوديَّة لاتّفاقيَّة أوسلو، أصدر مجلس ييشا الحاخامي فتوى تبيح لكافَّة الحاخامات غير المعارضين لدخول جبل الهيكل بالذّهاب إليه لإرشاد جماعات المصلّين، ضمن القيود الشَّرعيَّة للهلاخاه. تبنَّى مجلس ييشا بذلك موقف الأقليَّة في مجلس الحاخاميَّة الكبرى عام 1967م، وبرَّر موقفه ذلك بأنَّ الغياب اليهودي في جبل الهيكل قد يغري السّياسيين لاحقًا بالتَّنازل عنه ونقْل السّيادة عليه إلى السُّلطة الفلسطينيَّة. لم تغيّر فتوى مجلس ييشا الحاخامي من موقف مجلس الحاخاميَّة الكبرى ومركز حاراف المتعنّت في هذا الصَّدد، ويشير انباري إلى أنَّ من أسباب اتّخاذ ذلك الموقف أنَّ فريقًا من الحاخامات يعتقد أنَّ الجيل الحالي من اليهود غير مؤهَّل لبناء الهيكل الثَّالث، وأنَّ الأمَّة اليهوديَّة عليها أوَّلًا أن تتحضَّر لذلك العمل من خلال إقامة مملكة إسرائيل على أسس دينيَّة روحانيَّة وفق تعاليم التَّوراة.
هذا وقد أثار منْع اليهود من دخول جبل الهيكل خلال السَّنوات الثَّلاث الأولى لانتفاضة الأقصى (سبتمبر 2000-فبراير 2005م)، جدلًا في الأوساط العامَّة والدّينيَّة، بما فيها المراكز الَّتي تتَّبع عقيدة الصُّهيونيَّة الدّينيَّة المعارِضة لدخول اليهود إلى جيل الهيكل. تجدَّد الجدل حول إباحة الدُّخول وتحريمه، واتَّخذ المتحفّظون من حاخامات حركة الصُّهيونيَّة الدّينيَّة موقف المعارَضة والتَّنديد كالعادة، وتزعَّم ذلك الموقف الحاخام شلومو افنر، وسط المطالبات المتزايدة حينها بإعادة فتْح الْمَسْجِد الْأَقْصَى أمام الاقتحامات اليهوديَّة، إلى أن تمَّ ذلك في سبتمبر 2003م. غير أنَّ المطالبات الشَّعبيَّة، بقيادة طلَّاب المعاهد القوميَّة-الدّينيَّة، بدخول جبل الهيكل صار لها الصَّدى الأعلى بما يطغى على الأصوات المندّدة والمستنكرة، حتَّى أنَّ الحاخام افنر نفسه شارك في فعاليات دينيَّة يهوديَّة أقيمت عند أسوار الْمَسْجِد الْأَقْصَى، ومن بينها فعالية “إحاطة البوَّابات”، الَّتي أحاط فيها المشاركون بوَّابات المسجد وهم يردّدون مراثي جنائزيَّة تأسُّفًا على دمار الهيكل. في النّهاية، يوضح انباري أنَّ الاتّجاه إلى دخول جبل الهيكل وفق قيود الشَّريعة هو الأعلى نشاطًا وتأثيرًا في دولة الاحتلال؛ ولذلك تُبذل جهودٌ ملحوظة في سبيل لتبيان حدود الهيكل لتفادي دخول المستوطنين إلى الأماكن المحظورة عليهم.
تساؤلات ختاميَّة:
1.هل يتعطَّل تدشين الهيكل الثَّالث من داخل حرم الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، بمباركة خليجيَّة، بعد خسارة ترامب السّباق الرّئاسي لعام 2020؟ أم يبدأ تنفيذ المخطَّط الصُّهيوني بزعامة “وريث كورش” الجديد، جو بايدن الَّذي صرَّح بقوله “أنا صهيونيٌّ وليس على المرء أن يكون يهوديا ليكون صهيونيًّا…لو لم تكن إسرائيل موجودة، لأوجدتها الولايات المتَّحدة لحماية مصالحها في المنطقة”؟
2.هل تكون المدرسة التَّوراتيَّة الَّتي يطالب بها أعضاء الجماعات الدّينيَّة اليهوديَّة المتطرّفة حجر أساس الهيكل الثَّالث بعد منْح المتدينين اليهود ذريعة مقنعة لدخول الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بانتظام؟
3.ألا يدحض حديث الصَّحابي عوف بن مالك، الوارد في صحيح البخاري (3176) عن نبيّنا مُحمَّد (ﷺ) أنَّه قال “أُعدُدْ ستًّا بين يدي الساعةِ: مَوتي؛ ثم فتحُ بيتِ المقدسِ…”، مزاعم مقال صحيفة عكاظ السَّعوديَّة بأنَّ بيت المقدِس يقع في الجعرانة، الَّتي كانت في الأساس ضمن آخر حدود للدَّولة الإسلاميَّة في زمن النَّبيَّ الكريم (ﷺ)؟
4.هل الاعتقاد المستمدّ من العقائد الباطنيَّة بأنَّ الرَّب تجلَّى ليعقوب فوق هضبة موريا، وتحديدًا فوق الصَّخرة المشرَّفة، كما يُروى في سفر التَّكوين (إصحاح 28، آيات 12-19)، وكما يشير كتاب الزُّوهار (זֹהַר)، دستور القبَّالة، أو التُّراث الباطني اليهودي، هو أساس إصرار اليهود على بناء هيكلهم في ذلك الموقع، برغم دحْض صحيح العقيدة الإسلاميَّة لمثل ذلك الزَّعم؟
(المصدر: رسالة بوست)